Мои воспоминания 1889–1951
مذكراتي ١٨٨٩–١٩٥١
Жанры
شعرت أمام هذه المشاهد بغبطة كبيرة تتملكني؛ إذ أدركت أن روح الحياة قد سرت في الأمة وأنها أخذت تنفض عنها أكفان الخضوع والاستسلام. ورأيت في اتساع الحركة واتحاد الصفوف تحت لوائها تحقيقا للوحدة التي طالما كنا ننشدها ونتمناها، كما رأيت في تعدد مظاهر التضحية نجاحا لدعوة الإخلاص في الجهاد، تلك الدعوة التي هي أساس كل نهضة قومية وسبيل النجاح لكل أمة تريد لنفسها الحياة والعزة. (1) رحلة نيلية في إبان الثورة (مارس سنة 1919)
في 18 مارس سنة 1919 وقعت مظاهرة بالمنصورة قتل فيها تسعة عشر من المتظاهرين، وكنت وقتئذ في القاهرة، وعلمت وأنا بها أن قائد القوة العسكرية البريطانية في تلك المنطقة أنذر سكان المدينة بأنه إذا حدثت مظاهرة أخرى فإنه سيلقي مسئوليتها على عاتق أربعة منهم عينهم بأسمائهم وهم: محمود بك نصير، والدكتور محمود سامي، والأستاذ عبد الوهاب البرعي، وأنا، وأنه سيأمر بضربنا بالرصاص في حالة قيام أية مظاهرة.
وكانت المواصلات منقطعة، وكنت معتزما العودة إلى المنصورة لأتعهد الروح المعنوية فيها، فقابلني صديق لي قدم منها، وأفضى إلي بأمر هذا الإنذار، ورغب إلي أن أبقى في العاصمة؛ لكيلا أستهدف لتنفيذ ما توعدونا به. فرأيت في نفسي شعورا قويا، لم أعرف مصدره أو سببه، يدفعني إلى العودة إلى المنصورة بالرغم من تحذير إخواني والأقربين. فأخذت أبحث عن سبيل للعودة، وكانت السكك الحديدية مقطوعة، وما أصلح منها كان السفر عليه ممتنعا إلا بترخيص من القيادة البريطانية بالعاصمة، وكانت ترفض كل طلبات السفر التي يتقدم بها المصريون غير الموظفين، وكذلك شأن السفر بالسيارات، فضلا عن حدوث فجوات في الطرق الزراعية تمنع مواصلة السير فيها. ولم يبق سوى السفن الشراعية (المراكب) تنقل الناس بطريق النيل وفروعه إلى الجهات التي يقصدونها، وقد شاعت هذه الطريقة في تلك الأيام، وارتفعت لذلك أجور السفن ارتفاعا كبيرا. فطفقت أبحث عن رفقاء لي يقصدون المنصورة أو البلاد التي في طريقها، فاجتمعت إلى نخبة من الأصدقاء والمعارف كانوا أيضا يبحثون عن سفينة يقصدون بها بلادهم في مديرية الدقهلية، واهتدينا إلى صاحب سفينة شراعية كان قادما من المنصورة ويسره العودة إليها فيربح ذهابا وإيابا، وطلب منا سبعة جنيهات أجرة الرحلة، فقبلناها عن طيب خاطر؛ لأنها كانت أجرة زهيدة بالنسبة لما كان يطلبه أصحاب المراكب في ذلك الوقت، وكانت في ذاتها يسيرة إذ وزعناها على المقتدرين منا.
وتواعدنا على أن نلتقي بمرسى روض الفرج يوم 26 مارس سنة 1919 في الساعة الأولى بعد الظهر؛ فالتقينا في الميعاد المحدد، وركبنا السفينة بعد أن اشترينا ما يلزمنا من المئونة لمدة ثلاثة أيام؛ إذ قدر ربان المركب (الريس) أنها المدة التي تكفي لقطع المسافة بحرا بين القاهرة والمنصورة. وكنا سبعة عشر راكبا عدا الريس وزميله، أذكر منهم: محمود بك عبد النبي، والوجيه بكير الجندي، وكريمته الآنسة لطفية الجندي (الآن زوجة الأستاذ حسين مطاوع)، وكريمة أخيه الآنسة سنية محمود الجندي (الآن زوجة الأستاذ رياض الجندي)، وعبد اللطيف بك غنام، والشيخ محمد الخشاب قاضي محكمة أجا الشرعية، والدكتور صديق أبو النجا (وكان طالبا بالطب)، وأخاه محمود أفندي أبو النجا، وبعض الطلبة الذين لا تحضرني الآن أسماؤهم.
أقلعت بنا السفينة في نحو الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم إلى القناطر الخيرية، وفي أثناء الطريق قابلتنا باخرة حربية من بواخر الدوريات البريطانية التي كانت تجوب النيل لتعاون القوات المسلحة على قمع الثورة، فخشينا أن تمنعنا عن متابعة السير، ولكنها لم تتعرض لنا بسوء، وتابعنا السير، فوصلنا إلى القناطر الخيرية قبيل غروب الشمس، واجتزنا هاويس الرياح التوفيقي في نحو ساعة. وتابعنا السفر ليلا إلى بنها، وكان الجو باردا؛ فقد كنا في فصل الشتاء، والليل غير مقمر، والسماء مقنعة بالسحب، فأخذت السفينة تسير الهوينا في بطء وعلى حذر؛ لأن مياه الرياح التوفيقي كانت منخفضة وشواطئه مرتفعة مما يزيد في ظلمة الليل . فلما قاربنا الوصول إلى بنها في نحو منتصف الليل، أشار علينا النوتي أن لا بد من رسو السفينة على بعد كيلومتر من كوبري بنها وألا تجتاز هذه المنطقة وإلا استهدفت لإطلاق النار عليها من الدوريات البريطانية، فبتنا الليلة في السفينة وهي راسية على الشاطئ، وشعرت ببرودة الجو؛ إذ كان مبيتنا في العراء تقريبا، ولم نستعد بغطاء كاف، ولم يكن مما يتفق والحالة النفسية للثورة أن نعنى بغطاء أو فراش، وقضينا مع ذلك ليلة هادئة لم نشعر فيها بأي تعب أو عناء. واستيقظنا يوم 27 مارس أكثر ما نكون نشاطا وابتهاجا، وتناولنا طعام الفطور، وكان طعاما بسيطا، فأكلنا منشرحين. واستأنفت السفينة سيرها على طول الرياح التوفيقي، وشاهدنا على الجانبين معالم الثورة ومظاهرها، وما أحدثته من تغيير في نفسية الشعب، فكنا نرى الأهلين في كل ناحية، نساء ورجالا، شيبا وشبانا، يحيوننا على الجانبين دون أن يعرفوا أشخاصنا، وينادون بهتافات لم نعهدها من قبل في الطرق الزراعية وعلى شواطئ الترع، فكنا نسمع نداء: لتحي مصر، ليحي الاستقلال، لتحي الثورة. واسترعى سمعي بوجه خاص نداء كنت أسمعه بين حين إلى آخر: «ليحي العدل». وقد تساءلت أولا عما يقصد القوم من هذا النداء، وهل ظنونا قضاة جئنا لنحكم بينهم بالعدل؟ ثم أدركت شعورهم الحقيقي وأنهم لا يطلبون العدل لأنفسهم، بل يطلبونه لمصر؛ فإن مصر لم تكن تطالب إلا بالعدل والمساواة بينها وبين الأمم الحرة المستقلة، وليس من العدل في شيء أن تهدر حريتها وتسلب حقوقها، فأكبرت هذا الشعور تفيض به نفوس القرويين ويدل على فطرتهم السليمة.
هذه الروح التي شاهدناها على طول الطريق، هي غرس الثورة ونتيجتها، وهي من ناحية أخرى عتادها وعدتها، وهي علامة الحياة في شعب نهض نهضة قوية يطالب بحقوقه المهضومة.
كانت نفوسنا تفيض بشرا وفرحا؛ إذ شاهدنا هذا التبدل في نفسية الشعب، وشعرت بأن آمالا قديمة كانت تجول في نفسي قد بدأت تتحقق وأنه لا يجوز لنا أن نيأس من هذه الأمة، بل هي من أكثر الأمم استعدادا للرقي، إنما ينقصها أن توجه دائما توجيها صادقا نحو المثل العليا، وهي مستعدة لتلبية كل دعوة صالحة صادقة، والعيب الذي نشكو منه أحيانا لا يرجع إلى جمهرة الشعب، بل هو عيب الخاصة أحيانا والعامة أيضا في انصرافهم في كثير من المواطن عن المثل العليا إلى الأغراض الشخصية، وهذا العيب يزول بالقدوة الصالحة، يبدأ بها الخاصة أولا ثم يقلدهم فيها العامة؛ فالخاصة هم أول المسئولين عن حالة الأمة، وعلى الخاصة أن ترفع من مستواها الأخلاقي وأن تصلح نفسها، ثم تعمل على إصلاح أخلاق الشعب وتهذيبه وترقيته؛ فإنهم المطالبون بهذا الإصلاح.
تابعت السفينة سيرها وسط هذه المشاهد الرائعة حتى وصلت إلى «طنامل» في نحو الساعة السادسة مساء، فغادرنا بكير الجندي والآنستان كريمته وكريمة أخيه، ثم وصلنا ليلا إلى منشأة عبد النبي حيث نزل محمود بك عبد النبي وقضينا الليلة بمنزله، وفي صباح اليوم الثالث من الرحلة (28 مارس) أقلعت بنا السفينة، حتى إذا وصلنا إلى «نوسا الغيط» نزل بها الدكتور صديق أبو النجا وأخوه، وتابعت سيرها حتى وصلنا إلى المنصورة عصر ذلك اليوم.
كانت هذه أطول رحلة لي من القاهرة إلى المنصورة؛ إذ إن المسافة تقطع عادة بين المدينتين سواء بالقطار أو بالسيارة في نحو ثلاث ساعات، بل دون ذلك، وقد قطعناها هذه المرة في ثلاثة أيام. وتذكرت ما كان يتحدث به أسلافنا من أنهم قبل إنشاء السكك الحديدية كانوا يقطعون المسافات بين مختلف العواصم في عدة أيام، إما بطريق المراكب في النيل وفروعه أو على ظهور الإبل والدواب، فازددت شعورا بما كانوا يعانون من المشاق في قطع المسافات بهذه الوسائل وبما أحدثه العمران والاكتشافات العصرية من التيسير على الناس في سفرهم وإقامتهم وريفهم وحضرهم.
وصلت إلى المنصورة عصر يوم 28 مارس سنة 1919 بالبحر الصغير، وما إن علم أهل المدينة بحضوري في تلك الملابسات العصيبة حتى دهشوا، وكان ظنهم أن أبقى بالقاهرة ولا تثريب علي في ذلك، وعدوها لي عملا قالوا عنه إنه شجاعة، وقلت لهم إنه عمل عادي. ولاحظت أنهم وأهل البلدان المجاورة من مركز المنصورة لم ينسوا لي هذا الموقف، وكان له أثر في نجاحي بعد هذه الحوادث بنيف وأربع سنوات في انتخابات سنة 1923-24؛ إذ على الرغم من ترشيح نفسي للبرلمان عن مركز المنصورة معارضا لمرشح الوفد فقد فزت عليه ونلت النيابة عن المركز في البرلمان الأول، في حين ليست لي به عصبية عائلية أو حزبية. وقد دلني هذا الفوز على أن الشعب بالرغم من تأثره من مختلف الدعايات يقدر (أحيانا) أعمال الناس. حقا إنه قد يضل حينا وقد يضل كثيرا، ولكن يجدر بمن يتصدى لخدمته - وخدمته واجب محتم على كل فرد - ألا ينقم من الشعب خطأه في التقدير، ولا يثور عليه لمجرد أن يتنكر له في بعض المواقف أو يتخطاه في تقديره مرة أو مرات. فإذا كانت الجماهير تتنكر أحيانا لمن يخدمها، فإن هذا العيب لا يقتصر عليها؛ وما أكثر ما يقع فيه المثقفون والممتازون، بله أقرب الناس إلى الإنسان وأعرفهم بفضله وأكثرهم علما بإخلاصه وخدماته. وقد تعذر الجماهير لجهلها أو عجزها عن إدراك الحقائق، ولكن ما عذر الخاصة والمثقفين والأصدقاء والأقربين في تنكبهم سبيل الحق وهم له عارفون؟
Неизвестная страница