وكان الريحاني يؤمن بالحظ والفأل والأحلام. استمع إليه يقول حين اختلف مع صديقته لوسي وفارقته: «في أواخر عام 1920 كان الخلاف قد دب بين الصديقة لوسي وبيني، فافترقنا إلى غير عودة، ويقيني أن هذا الفراق كان أولى النكبات التي صبها القدر فوق رأسي، وساقها إلي حلقات متتالية، يأخذ بعضها برقاب بعض. ذلك لأن ما كان يغمرني من خير جارف، أضحى بعد ذلك البحر جفافا من كل ناحية، بل وشرا مستطيرا حتى لقد اقتنعت تماما أن هذه الفتاة كانت هي مصدر الأرزاق، وأنها إنما حملت في جعبتها بسمات الدهر، وحظ العمر»!
ولعل إنسانية الريحاني تبرز وتتجلى في أبرز صورها في جهوده التي بذلها في أواخر أيامه، لحث الحكومة على إقامة ملجأ للممثلين المتقاعدين، وحين شيد بيته الذي مات قبل أن يسكنه، كان يريد أن يخصصه بعد وفاته لهذا الغرض النبيل، ولولا أن المنية عاجلته، لكان قد أتم الإجراءات الرسمية، وتم له تحقيق أمنيته. •••
هذا هو الريحاني الذي تقرءون مذكراته اليوم ... الريحاني الفنان الأصيل، الذي كرس حياته لفنه الذي أحبه، وضحى بكل شيء في سبيله، ولقي الاضطهاد والحرمان والجوع في سبيله.
وإن لهذا الكتاب لمعنى جليلا ... معناه أن الريحاني الفنان لم يمت، ولكنه خالد في قلوب محبيه ... معناه أن الفنان الصادق لا يموت.
الفصل الثاني
أول الطريق
لست في حاجة إلى أن أرجع بالذاكرة إلى التاريخ الذي تلقفتني فيه كف العالم، فأقول مثلا إنني ولدت لخمس خلون من شهر كذا عام كذا ... أو أن ولادتي اقترنت بظهور كوكب دري في الأفق اعتبره أهلي طالع يمن وإقبال ... أو ... أو مما لا أرى فيه للقراء من فائدة، ويكفي أن أقفز بهم إلى سن السادسة عشرة، حين غادرت مدرسة الفرير بالخرنفش، بعد أن تزودت بالمئونة الكافية من تعليم وخبرة.
كنت في عهدي هذا أميل إلى دراسة آداب اللغة العربية، وأتوسع في الحصول على أكبر قسط من فنونها ولاسيما الشعر وتاريخ الشعراء.
لم أكتف إذ ذاك بما كنت أتلقى في المدرسة فجيء لي بمدرس خاص اسمه الشيخ بحر، كان يسر كثيرا حين كنت ألقي بعض المحفوظات بصوت جهوري، ونبرات تمثيلية، وإشارات تفسيرية، وما إلى ذلك مما كان يعتبره الشيخ بحر نبوغا وعبقرية.
أما كيف تولدت عندي هواية التمثيل فقد نشأ ذلك من إعجاب أستاذي الشيخ بحر بي وبإلقائي، كذلك كانت المدرسة تكلف طلبتها بين وقت وآخر بتمثيل بعض الروايات على مسرحها، وكثيرا ما كنت أندب لتمثيل الأدوار الهامة في هذه الروايات. وحين هجرت المدرسة اندمجت في سلك موظفي البنك الزراعي بالقاهرة. وتشاء المصادفات الغريبة أن يكون بين موظفي البنك في ذلك العهد الأستاذ عزيز عيد الذي لم يكن عمله هذا يمنعه عن موالاة التمثيل.
Неизвестная страница