سألت عن الملحن؟ فقيل لي إنه شاب إسكندري لم يكن له سابق عهد بالتلحين المسرحي، وإن ألحانه هذه هي الأولى له في هذا المضمار. أما اسمه ... فسيد درويش. عجبت لذلك، وفكرت طويلا في اجتذابه، ولكنني - وقد عهدني القراء صريحا في كل ما خططت في هذه المذكرات - لا أرى ما يحول دون إبداء ما اعتراني في هذه اللحظة من أفكار.
أقول إنني وجدت نفسي بين عالمين متناقضين.
هل يحسن بي أن أتفق مع هذا الملحن؟ أم الأجدر أن أغضي عن ذلك؟ وإذا اتفقت، فماذا تكون النتيجة لو عمل معي شهرا أو شهرين حتى إذا ما تمكنت ألحانه من أفئدة جمهوري، و«خدوا عليها» تركني أعض بنان الندم، أو أملي علي شروطها قاسية، كتلك التي كانت سببا في انفصال زميلي السابق أمين صدقي!!
وهل الأولى أن أسير في خطتي مع الجمهور الذي رضي من ألحاني بما قسم أو أقفز بهذه الألحان إلى العلا ... دفعة واحدة؟!
وأخيرا تغلبت على محبتي للفن، فقررت الاتفاق مع سيد درويش مهما كان وراء ذلك من تضحية، إذ أنني وجدت من الإجرام حرمان الفن من شخص كسيد درويش.
كان المرحوم الشيخ سيد يتقاضى ثمانية عشر جنيها في الشهر من الأستاذ جورج أبيض، فرفعت هذه القيمة إلى أربعين دفعة واحدة، وتعاقدت مع الرجل، وكان مرتب الأستاذ بديع خيري قد وصل في هذا الحين إلى الخمسين.
أعددنا رواية أطلقنا عليها اسم «ولو»، ووضع بديع أول زجل منها وهو عبارة عن شكوى يتقدم بها جماعة من «السقايين» يشرحون للجمهور آلامهم في الحياة، ومطلع هذا الزجل هو «يعوض الله ... يهون الله، ع السقايين، دول غلبانين، متبهدلين م الكبانية، خواجاتها جونا، دول بيرازونا في صنعة أبونا، ما تعبرونا يا خلايق».
سلمنا الزجل للشيخ سيد درويش، وقد كانت ميزته رحمه الله أن يضع لكل لحن ما يوافقه من موسيقى، وأقصد بهذه الموافقة التعبير الصادق للمعنى العام، بل ولكل لفظ من ألفاظ الكلام، حتى كان المرء يدرك من أول وهلة ما يرمي إليه هذا الكلام عند سماع الأنغام.
تسلم الشيخ سيد لحن السقايين، ولكنه لم يعد إلينا في الموعد المضروب، بل ولا في اليوم التالي!! حتى إذا كان اليوم الثالث قصد إليه أحد أصدقائنا فسهر معه الليل بطوله. وكانت شكواه أن قريحته اليوم متحجرة وأنه قضى الأيام الثلاثة الماضية يقدح زناد الفكر عله يصل إلى النغم الموافق دون جدوى!!
وفيما هما يتحدثان، وقد كانت أضواء النهار في تلك اللحظة تطارد جيوش الظلام!! صادفهما أحد «السقايين» وكان يحمل قربة الماء على ظهره ويجوب الحواري، وكان يسير إذ ذاك في حي المنشية بالقلعة - وسمعاه ينادي بأعلى صوته وبنغمته التقليدية الخاصة قائلا: «يعوض الله» فتنبه الشيخ سيد، وأمسك بذراع صديقه وهتف كما هتف أرشميدس (الفيلسوف اليوناني) من قبل حين وفق إلى نظرية الثقل النوعي في أثناء استحمامه فخرج عاريا يجري في الشوارع ويصيح (أوريكا. أوريكا) أي وجدتها. وجدتها!!
Неизвестная страница