وأذكر أنه كان لرأينا هذا ضجة بين المتتبعين لأعمالنا، فأيده بعضهم وأنحت علينا الأغلبية باللائمة كالمعتاد. فقد كان كل شيء يصدر من سعد مقبولا ولو لم يكن في مصلحة الوطن، والدليل على ذلك رفض الأمة لمشروع ملنر بعد الطبل والزمر الذي قوبل به، وكان رفضه بناء على تنويه من سعد باشا بأنه لا يحقق أماني البلاد، إذ علموا أنه لم يرسل المشروع لاستفتاء الأمة إلا إرضاء لرغبة بعض أعضاء الوفد المؤيدين له، وإذا بأعضاء آخرين يرجعون بعد ذلك من باريس الواحد تلو الآخر. وكان أول من رجع منهم قبل عرض المشروع هو زوجي علي باشا شعراوي، الذي دهش مثلنا من عدم عرض المشروع عليه ولم يدع للانضمام إلى مندوبي الوفد الذين قدموا لعرض المشروع رغم أنه وكيل الوفد المصري. وقد أدى ذلك إلى أن بعض السيدات كن يسألنني: هل رجوع الباشا لاختلاف في الرأي بينه وبين سعد باشا؟ فكنت أنفي هذا الزعم؛ لأن الباشا لم يكن قد صرح لي بشيء من هذا القبيل، ولم يقطع صلته بأعضاء الوفد الذين قدموا لعرض المشروع ... وبهذه المناسبة أذكر أن زوجي توجه لزيارتهم عقب عودتهم من أوروبا رغم أن سعد باشا لم يكتب إليه بالانضمام إليهم في عرض المشروع، ولم يرد أحد منهم زيارته إلا لطفي السيد بك الذي كان صديقه الوفي.
ولما سمع سعد باشا بأن الحكومة الإنجليزية لا ترغب في مفاوضته بصفته نائبا عن الأمة، ولكنها تريد أن تتفاوض مع ممثلي الحكومة المصرية، لم يطق البقاء في باريس وعزم على العودة إلى مصر كما هو معروف. فقامت البلاد تحتفي بقدومه حكومة وشعبا، وكان بعض المفكرين المصريين وبعض أعضاء الوفد ومنهم زوجي يفضلون عدم قيام سعد باشا بمفاوضات رسمية ليبقى كمرجع أخير للمفاوضين الحكوميين، يشد أزرهم ويكون لهم بمنزلة دعامة يرتكزون عليها ويعمل حسابها المفاوضون الإنجليز، وبذلك تنجح المفاوضات. ولكن ذلك لم يكن متفقا مع اتجاه سعد باشا الذي كان يريد أن يتم على يديه كل شيء خاص بالقضية المصرية، فبذر بذور الشقاق، وكانت برقيته الشهيرة التي نوه فيها بأن بعض أعضاء الوفد تواطئوا مع الحكومة على الاتفاق مع الإنجليز على معاهدة لا تحقق مطالب المصريين، فقامت البلاد وقعدت لهذه الجرأة لا سيما وقد جاءت هذه البرقية في وقت كانت النفوس فيه ثائرة متعطشة لشيء من الحرية، ولذلك كانت تنتظر بفارغ الصبر عودة سعد باشا إلى مصر.
وقبيل وصول سعد باشا بيوم أو يومين، كنت في مكتبي ... وإذا بأحد أقاربي جاء ليسألني عن حقيقة ما سمعه من أن شعراوي باشا قرر عدم استقبال سعد باشا بالمحطة يوم حضوره، ولم أكن أعرف من ذلك شيئا. فقال قريبي: هل تجهلين أنه قد حدث بينه وبين سعد باشا خلاف في أوروبا أدى إلى تركه أمانة صندوق الوفد وعودته إلى مصر، ولما كنت أجهل ذلك أيضا، فقد قلت له: لا أظن أن هذا صحيح؛ إذ قال لي شعراوي باشا إنه لم يرجع إلا لأسباب صحية، وحقيقة أن صحته كانت معتلة جدا. فتعجب قريبي وانصرف.
الوحيد الذي لا يقابل زغلول
ولما حضر الباشا، سألت عن حقيقة هذا الخبر وأنا متأثرة من إخفائه عني رغم سؤالي المتكرر له عن سبب عودته. فقال لي: حقا إنني غضبت من سعد باشا عندما كنا في باريس، لأنني سألته مرارا عن أوجه صرف مبالغ الوفد التي كان يطلبها مني لتدوين ذلك في دفاتر حساب الوفد، فكان سعد باشا يبدي امتعاضه، ولما ألححت عليه يوما في السؤال، رد ردا جافا حملني على الاستقالة. ولكنه بعد ذلك صافحني وتصافينا، وظننت أنه لم يبق في نفسه أثر من ذلك كما هو الحال عندي، ولم أترك بعد ذلك باريس إلى مصر إلا لاضمحلال صحتي، دون أن يكون بيننا جفاء، ولكن يبدو أن سعد باشا حنق علي، وظهر ذلك في عدم طلب إشراكي مع المندوبين الأربعة الذين جاءوا لمصر لعرض مشروع ملنر على الهيئات المصرية، وبناء عليه عزمت على عدم الذهاب لمقابلته في المحطة.
فقلت له: كيف يكون ذلك؟ أتريد أن تكون الوحيد في عدم استقبال سعد، بينما تستقبله الأمة كلها وتحتفي به؟
فقال لي: سأكون ذلك الوحيد.
وفعلا لم يتوجه لاستقباله ... وكنت مستاءة من ذلك، ولكنني أعطيته الحق عندما رأيت بعيني معاملة سعد باشا لرئيس الوزراء عدلي باشا يكن وباقي الوزراء عندما ذهبوا لاستقباله في المحطة؛ حيث قابلهم ببرود وعدم اكتراث، وقد أثر فيهم ذلك حتى لقد بدت عليهم علامات التأثر ولاحظ ذلك كل الموجودين.
وقد شاهدت بعيني ذلك؛ حيث كنت مع وفد السيدات في استقباله هو وحرمه، ولما عدنا إلى منزل سعد باشا الذي كان غاصا بالجماهير من الرجال والنساء، وقد نصب في جانبيه سرادقان أحدهما للرجال والآخر للنساء، كنت أشعر بشيء من الخجل لوجودي في ذلك الجمع، بينما زوجي الذي خدم الوفد - ولولا خدماته ما كسب ثقة الأمة - قد بقي منفردا في بيته لا تعرف الأمة له قدرا أو حقا.
وبينما أنا في ذلك الجمع الحاشد ينتابني ذلك الشعور المر وتمر في مخيلتي تلك الأفكار، إذا بصوت سعيد آغا يناديني ويقول لي: إن سعد باشا يبحث عنك ويقول أين الرئيسة. فدفعني حرج مركزي إلى التواري بعيدا عن عيني سعد، ولكنني صادفته وأنا في طريقي للخروج وهو يشق صفوف السيدات قائلا: أين الرئيسة لأشكرها ...
Неизвестная страница