وقد أبحرنا على إحدى البواخر الألمانية، وسارت بنا في هدوء واتزان إلى أن اقتربنا من نابولي، وكنت أتوق لرؤية هذا الميناء الذي طالما شوقتني خالتي إليه بوصفها الجميل له، وعندما أوشكت السفينة على الرسو، أبصرنا زوارق صغيرة ملأى بالمغنين والموسيقيين يوقعون الأغاني الشعبية ابتغاء عطف المسافرين عليهم بدراهم قليلة.
وكم كان مؤثرا وغريبا ومسليا في وقت واحد منظر تلك الزوارق تحوط بها أسراب من الأطفال الصغار يسبحون في الماء كالأسماك في انتظار عطايا المسافرين. فإذا ما ألقى إليهم أحد ببعض الليرات، غاصوا جميعا في الماء لالتقاطها. بينما يطوف بعض الباعة الجائلين بالمركب ليبيعوا الصدف والمرجان وأنواع الأنتيكات والحلي وغيرها.
وعندما رأينا حال أهل تلك المدينة، لم نشعر بأننا بعدنا كثيرا عن الشرق، إذ كنا نرى الأطفال حفاة عراة الرءوس ليسوا على جانب كبير من النظافة كما كان الحال في بعض البلدان الشرقية، كذلك فقد كنا نشاهد في بعض الطرقات الملابس المغسولة منشورة في النوافذ والشرفات، وأحيانا على حبال مشدودة بين منزل وآخر بعرض الشارع، وفي الأحياء الفقيرة كنا نرى بعض النساء جالسات أمام بيوتهن يمشطن شعورهن.
أمضينا في نابولي تلك الليلة بعد أن زرنا بركان فيزوف والجاليري، وعندما استيقظت في الصباح الباكر ونظرت من نافذة غرفتي، رأيت منظرا من أروع مناظر الطبيعة، فقد كانت الشمس تبدو من بين قمم الهضاب وكأنها شعلة متقدة من النيران.
وقد أبحرت بنا الباخرة بعد ذلك في طريقها إلى مرسيليا. وعندما اقتربنا منها، ظهرت أمامنا في ثوب يختلف عما رأيناه في نابولي، فقد كانت السماء قاتمة والهضاب المحيطة بالميناء، رمادية اللون، وقد رست الباخرة في الميناء صباحا ... وأمضينا ذلك اليوم فيها، وهي مدينة جميلة وبهيجة وكثيرة الحركة والنشاط، فهي بلد تجاري، وقد استلفت نظري تقارب عادات أهلها مع أهالي الموانئ الشرقية. وقد قصدنا زيارة بعض معالم تلك المدينة وآثارها، فزرنا الجاليري، والمتحف وكنيسة نوتردام دي لومباري، وهي كنيسة أثرية عظيمة على مرتفع شاهق.
وفي اليوم التالي، دعانا شقيقي للغداء في فندق «لاريزوف»، وهو يقع على الكورنيش فوق مرتفع مطل على منظر البحر الجميل، وفيه تناولنا نوعا من الحساء يسمى «البويابيس»، وهو مصنوع من جملة أنواع من السمك مضافا إليها التوابل، ويقدم مع قطع من الخبز الجاف والجبن المبشور.
وقد سافرنا في اليوم التالي إلى ليون؛ حيث قضينا يومين تفرجنا خلالهما على مصانع الأقمشة الشهيرة وعلى حوانيتها المنظمة، وقد اشترينا منها بعض ما يلزمنا من ملابس ... وليون بلد أوروبي محض لم نر فيه شيئا يذكرنا بالشرق، وهو فوق ذلك كله بلد صناعي وتجاري وعلمي من أعظم بلاد فرنسا.
غادرنا ليون قاصدين باريس؛ حيث نزلنا في «برنسيس أوتيل» بشارع الشانزليزيه؛ حيث كنا قد حجزنا غرفنا، ولما مررنا بميدان الكونكورد الواسع الجميل، رأيت حركة كبيرة ... وعجبت لوجود المسلة المصرية في وسط ذلك الميدان العظيم تنطق بعظمة مصر ومجدها القديم في تلك البقعة التي تعتبر رمز الحضارة والمدنية الحديثة، وكان وجودها ميثاقا دائما للصداقة الأدبية المتينة التي توطدت أواصرها بين أبناء النيل وأبناء السين. وقد رأيت الرجال والنساء مشاة وركبانا، وزرافات ووحدانا، يمرون بشارع الشانزليزيه في أبهى حلة وأجمل زينة، فظننت أنه يوم عيد، وسألت شقيقي عن هذه المناسبة، فأجابني بأن باريس هكذا كل يوم ...
وقد أعجبتني باريس، ليس فقط لجمال مبانيها، واتساع شوارعها وتنظيم ميادينها وتنسيق متنزهاتها وحسن هندام أهلها، وإنما أيضا؛ لأن الإنسان يجد في كل خطوة فيها ما يغذي عقله ويوسع خياله وينمي مداركه ومواهبه ... هناك الجمال وحسن الذوق يتجليان في كل شيء ويدفعان الإنسان إلى البحث عن معرفة أصله.
وكان يكسب هذه الحركة العظيمة رونقا وبهاء، مرور العربات تحت قوس النصر الذي يقع وسط ميدان النجمة الجميل، وعلى جانبي الشارع تتناثر الفنادق الكبيرة والمقاهي الأنيقة التي تعزف فيها الموسيقى والغاصة بالجماهير، وعلى هذا الميدان يطل فندق «برنسيس أوتيل» وهو من الفنادق العائلية الممتازة، وهو عبارة عن سراي قديمة بها غرف وأبهاء واسعة منسقة تنسيقا جميلا ومفروشة بأثاث فاخر ورياش ثمين، وقد استأجرنا في هذا الفندق طابقا مستقلا بالاشتراك مع شقيقي، فكنا نشعر في هذا المكان الهادئ أننا لسنا بعيدين عن منازلنا.
Неизвестная страница