Географические мемуары по сирийским странам
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Жанры
16
فكان الملاحون يواصلون سيرهم من أرواد إلى طرابلس فبيروت فصيداء فصور، راسين عند رءوسها كما في طرابلس وبيروت، أو عند الجزر المجاورة لها كما في أرواد وصيداء وصور، ومستقين من العيون التي ترى في كل هذه الأمكنة جارية فيها ومخصبة لها. أما في فصل الشتاء، فترى مراكبنا اليوم إذا أحست بقرب النوء أقلعت إلى الغمر؛ لئلا تغوص بالرمل أو تلقي بها العاصفة على الصخور، وكان الفينيقيون في فصل الشتاء في مأمن من ذلك، يجرون إلى البر سفنهم إلى أن تهدأ الريح وتزول العاصفة.
أما إذا اعتبرت سواحل سورية من حيث وضعها الجغرافي، فإنك تجد فيها مسهلات متعددة للملاحة القديمة، فإن مراحل السفن من مكان إلى آخر كانت قصيرة، وإذا أرست في محل صادفت فيه عيونا دارة لا تنقطع، وكذلك كان سيرها عاجلا تجاري الساحل في خطه المستقيم دون أن تتريث بالخلجان المتسعة والمرافئ الباطنة، وذلك فضلا عما يهب في السواحل السورية من الرياح الثابتة الهبوب المعتدلته، فكل هذه الصفات لم تسمح للقدماء بأن يتركوا شواطئهم سدى كالدقعاء المقفرة، تأوي إليها الضواري والكواسر، وتسبح في مياهها النينان دون أن يستخدموها لمنافعهم إما للصيد وإما للمتاجرة.
هذا ولا ننكر أن الساحل السوري مع صلاحيته للملاحة لم يخل من بعض المخاطر كما رأينا، وذلك لانكشافه وتعرضه للرياح الشمالية العاصفة؛ ولكثرة ما يتخلله من الرءوس والصخور البارزة لا ملجأ فيه للملاح مع ما يلقاه في سيره إلى الجنوب من المقاومة من قبل المجاري المضادة،
17
فإن كل ذلك يستدعي نظرا صائبا وحذاقة بالغة في خوض البحر، فكان ينال في هذا الجهاد اليومي خبرة ليوسع نطاق أسفاره البحرية التي كانت تساعده عليها الغابات اللبنانية؛ إذ يجد في أخشابها - ولا سيما أرزها - ما يقوى به على مثل هذه الرحل البعيدة.
ومما تجدي السواحل السورية من النفع لأصحابها، فضلا عن الملاحة التجارية، مجاورتها للجبال القائمة في وجه سكانها، كأنها تدعو أهلها إلى قطع مشارفها ليلقوا ما وراءها ما يقوم بمعاشهم في السهول الواسعة الخصبة، التي تسدها تلك الجبال عنهم. ألا ترى أن الساحل الفينيقي قليل الاتساع لا يستطيع أصحابه أن يستغلوا ريع الأرض مما لا غنى عنه من القمح والزيت؟ وقد ذكر الكتاب المقدس (سفر الملوك الثالث : ف5) أن غاية ما طلبه حيرام الصوري من سليمان الملك - بدلا من خدماته - مقدار من الزيت والحنطة، فهذه الحاجة في ساكن الساحل يضاف إليها عدم وجوده لجزائر ينتفع من غلاتها، وبعده عن قبرس الحافلة بسكانها، كل ذلك صرف بنظر السوري إلى جبله؛ ليفتح له معبرا يجتاز به إلى البقاع التي من ورائه، فنقر في الصخور تلك المراقي الصعبة التي يقطعها المكاري مع بغاله بسرعة عجيبة وقدم ثابتة، وبسيره هذا لا يلبث أن يعتاد ما هو أوسع عملا وأجدى نفعا، فيتحول إلى قائد قوافل، ولا يزال يجد ويكد نافذا في وسط أوديته، متولجا بين سيولها الجارفة، ثم راقيا إلى أعالي جبله حتى يبلغ عطفه الآخر، فيدخل في تلك السهول الداخلية الفسيحة التي تعد كأهراء حنطة لا تنفد مستغلاتها، وكان من هناك يضرب في الأرض راحلا إلى أنحاء العراق، فيستجلب منها محصولاتها التي كان مواطنوه ينقلونها بحرا إلى الجزائر المجهولة الواقعة في بحر الظلمات.
إنه لناموس من نواميس الهيئة الاجتماعية أن الدول التي تنحصر أملاكها في حدود حرجة، إذا كانت ثروتها واسعة ونقودها متوفرة، أن تطلب لضغطها منفذا بتوسيع تجارتها، والسعي وراء الاستعمارات، فقد أدرك أجدادنا السوريون والفينيقيون هذه الحقيقة؛ إذ ليس أمر جديد تحت الشمس، فاستشفوا ما وراء البلاد التي اعتبروها كحدودهم الشرقية بلادا غيرها لاحت لهم في أعماق الأفق؛ نريد شبه الجزيرتين الهنديتين وما يطيف بهما من الجزائر، فاستوقفت تلك الأقطار أنظارهم بما تتضمنه من المرافق العديدة، والثروة النباتية الواسعة، وأصناف الزهور الناصعة الألوان التي تفوق ما يرى من ذلك في غيرها من الأنحاء، فلم تثبط همتهم المسافات الطويلة والعوائق المتعددة، فكانوا ينقلون من حدودها ما يستحبه تمدن ذلك الزمان لحاجاته أو لذاته من أفاويه وعطور وزيوت طيارة، وأقمشة زاهية، وضروب القطنيات الهندية الرقيقة، والأنسجة المشرقة الألوان، وأصناف الحرائر البهية التي يبذل الباعة الدينار في حقها بيد سخية، وكذلك كانوا يستجلبون من الهند المعادن الثمينة كسبائك الذهب، وصفائح الفضة، واللؤلؤ والعقيق والياقوت وقطع الماس، التي تزدان بها تيجان الملوك وأكلة الأميرات ، وكان الناس لاعتبارهم لتلك البلاد يروون عنها العجائب والغرائب، فيعدون أرضها تبرا، وهواءها مسكا، وثمارها شفاء وقوة، وطيرها شبيها بالإنسان في نباهته وحسنه.
فتجارة الهند في تلك القرون البعيدة كانت تحسب كثروة البلاد وغنى الشعوب، كما حسبها بعد ذلك أهل القرون الوسطى، وكانت تلك التجارة تروج أو تكسد على مقتضى أمور الزمان، وصروف الحدثان ينقلها من مظانها الكلدان والعرب، تأتي بها قوافلهم على طريق آسية الوسطى إلى أطراف بحر العجم أو البحر الأحمر، وكان الفينيقيون يرحلون إلى جهات بابل وإلى أنحاء اليمن، فينقلون تلك المحصولات إلى المرافئ السورية فيصرفونها إلى الغرب. •••
وكان من نواميس العالم القديم أنهم إذا أرادوا المتاجرة مع الأقطار النازحة يفضلون في ذلك الطرق البرية رغما عن طولها على خوض البحار، وإن كانت طريقها أقرب وأقصر، وذلك على خلاف ما ترى في تجارتنا اليوم، وهي تؤثر الطريق البحرية على سواها فتسير المراكب إلى أقصى ما تستطيع؛ لأنهم يجدون في تفضيل البحر سرعة، فضلا عن كونها أقل كلفا، لكن هذا النظام حديث ابتدأ منذ انتشرت الملاحة الشراعية الكبرى، ولا سيما منذ اكتشاف القوة البخارية، وكانوا قديما لا يركبون البحر إلا لمواصلة الطريق البرية؛ لأن الملاحين القدماء كانوا إذا أقلعوا قاصدين بلدا معلوما لا يعرفون ما سينالهم في طريقهم من الإعاقات، وخصوصا ما سيلقون من الرياح الموافقة أو المعاكسة، فيعرفون ساعة خروجهم ولا يعلمون يوم وصولهم؛ ولذلك كان القدماء لا يتجشمون أهوال البحر إلا عند الضرورة الماسة،
Неизвестная страница