Географические мемуары по сирийским странам
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Жанры
لسورية - فضلا عن كونها من مواطن البشرية الأولى - فضل آخر، وهو موقعها العجيب في وسط المعمور، فإنها قائمة في حدود الشرق كالحارس يصونها، وهي مع ذلك قسم صالح من حوض البحر المتوسط الذي يوصلها بأقطار الغرب، تراها منفصلة عن آسية المتقدمة بجبال طورس الشامخة، وبصحاري جزيرة العرب، يصلها بأفريقية برزخ دقيق «برزخ سويس»، واقعة على سواحل البحر المتوسط، الذي كان يعد إلى أواسط القرن السادس عشر كبحر المسكونة كلها، فأسرع سكان الشام وسلكوا هذه الطريق اللاحبة، ودخلوا ذلك الباب الواسع المفتوح في وجه نشاطهم، وتقاطروا إلى الجزائر النازحة والبلاد السحيقة الواقعة في الغرب، فطبعوا فيها صورة تمدنهم وآثار حياتهم، فكأنه تبارك وتعالى لم يجعل سورية على جوار البحر المتوسط - الذي أضحى منذ 3000 سنة من أخص سبل التمدن - إلا ليجعل أهلها في مقدمة رواد المدنية ونقلة الألفة، فقاموا بهذه المهمة أحسن قيام مدة نيف وألف سنة.
قد قلد الله كل شعب دعوة يفيد بها الهيئة الاجتماعية، أما خاصة الفينيقيين وأهل سورية فإن دعوتهم إنما كانت نشر التمدن. نعم، إن التمدن بلغ في بابل وآشور مبلغا أعظم منه في أنحاء الشام، كما أن عقول الآشوريين لم تكن أقل توقدا من جيرانهم. لكن فعلهم في نشر الترقي المدني كان دون فعل الفينيقيين، فماذا أنقصهم لذلك؟ إنهم لم يعطوا هبة نالها السوريون فامتازوا بها في كل أجيالهم؛ نريد الإقدام على نشر المشروعات؛ لأن الآشوريين لم يجدوا بقربهم بابا بحريا يخرجون منه إلى بقية أنحاء العالم، وينشطهم على العمل، ويشدد أزرهم للتوسط في المعاملات بين الشعوب المتباينة، وكل ذلك قد أصابه السوريون لوجود موطنهم بين بلاد متوغلة في التمدن، وبلاد جديدة كانت منتظرة نعمة هذه المدنية. وكان السوريون دون جيرانهم البابليين والمصريين قدرة وثروة، فسدوا ما ينقصهم من هذا الوجه بما أتاحهم الله من حسن الموقع والمنافع الجغرافية.
ولما نالت سورية هذا المقام في الوضع الطبيعي، صارت في كل الأزمنة هي الوصلة بين الشرق والغرب، تنوط بهما جميعا، دون أن تختص بأحدهما، فإن اعتبرت سكانها ولغتها ورسومها فهي شرقية، وإن لحظت جيرتها من بحر غربي ومعاملاتها المتوالية مع الأمم الساكنة في حوض البحر المتوسط، وأخلاق أهلها المتنوعة العامة، وميلهم الطبيعي إلى التهاجر ومخالطة الشعوب ومعاطاة الأشغال، فهي أشبه بالغرب.
ولذلك تراها إذا تصفحت تاريخها القديم كمعبر ومجتمع كانت تتصافح فيهما كل الأمم القديمة، فتتلاقى فيهما كأنها في بلادها جميعا، وكأن الله سبحانه وتعالى قد قضى أن يكون هذا الالتقاء سلميا جامعا للقلوب، وربما تبلبل نظام الخالق بسوء نيات الشعوب، فصارت سورية ساحة للقتال، جرت فيها الدماء سيولا بدلا من أن تصير سوقا لتجارة الأرض، ومرسحا للألفة والتحاب، فكم من أمة طمعت في اقتناء سورية وبذلت دونها كل غال ونفيس، خصوصا في أيام الآشوريين وفي عهد الفراعنة، فكانت منافعها الجغرافية تتحول لها إلى ويلات وشرور، وقد قامت بعد هذه الدول دول أخرى، تختلف اسما وجسما، لكنها لم تختلف فعلا. وكما قدم إلى سورية رعمسيس الثاني ونبو كدنصر، كذلك جاءها الإسكندر وكثيرون غيره، ترى كتاباتهم وأسماؤهم مرقومة في متحف طبيعي عجيب تحت القبة الزرقاء؛ أعني به مضيق نهر الكلب.
7
فلما رأى ملوك بابل وآشور ما خص الله به بلاد سورية من خصب التربة، ومن حسن الموقع للمعاملات التجارية، أحبوا أن يجعلوا البحر المتوسط تحت سيطرتهم؛ لتسهيل المواصلات بين بلاد الشام ووادي دجلة والفرات، وتلك لعمري كانت مسألة حيوية؛ إذ بها تنفتح الطرق التجارية فتنقل إلى جهات الغرب مرافق الهند وثروتها.
8
فما كان من أمرهم لتحقيق غايتهم إلا أن يتعقبوا آثار القوافل الكنعانية التي سبقتهم إلى الاستيلاء على الشام، وكان يحدوهم أيضا إلى سيرهم إلى الأمام رغبتهم في مبارزة فراعنة مصر، وهم لم يعرفوا دولة أخرى تقوى على أن تحولهم دون إنجاز مقاصدهم، فتنزع من أيديهم السلطة على آسية.
9
وكان لهم سبب آخر ينهض هممهم ويدفعهم إلى جهة البحر المتوسط؛ أعني حاجتهم الماسة إلى الخشب، وكانوا في ذلك والمصريين سواء، فلم يرضوا أن ينتفع الفراعنة وحدهم من غابات سورية الفاخرة، لا سيما أرزها الذي كانوا يتخذونه لزخرفة مبانيهم وقصورهم حيث وجدت آثارها في أيامنا.
Неизвестная страница