Географические мемуары по сирийским странам
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Жанры
2
وكل هذه الأقوال عين الصواب، أما حسن الأسلوب فله المقام الأول فيه بين وصفائه السابقين، والذين أتوا بعده لم يبلغوا شأوه بل زادوا تقهقرا، ومن تصفح كتاب المقدسي استحسن طريقته في الكتابة، فإنك لا تراه يضيف إلى عمله الإضافات النافلة والاستطرادات الزائدة كما يفعل ابن رستة وابن الفقيه، وكذلك لم يدخل في أوصافه تعداد المراحل أو مبالغ الخراج على طريقة مملة، شأن ابن خرداذبة في تأليفه، هذا فضلا عن حسن نظر وأصالة رأي مع ما يبدي لوطنه من الحب الواجب دون أن يبخس حقوق بقية البلاد.
ومما يستحبه القارئ فوق ذلك في مطالعة تأليف المقدسي حرصه على سياق الأخبار وتنسيق الأوصاف، فترى الأبواب متواصلة على أحسن طريقة وأضبط أسلوب، لا يفارقه همه في النظام وترتيب المواد، على خلاف ما ترى في كتب من تقدمه، مثال ذلك أنه في كلامه عن كورة قنسرين جعل قصبتها حلب، وقد أحس بأن القارئ يعترض عليه في ذلك، فسبق بالرد على اعتراضه بما حرفه (ص156): «فإن قال قائل: لم جعلت قصبة الكورة حلب وههنا مدينة على اسمها؟ قيل له: قد قلنا إن مثل القصبات كالقواد والمدن كالجند، ولا يجوز أن تجعل حلب على جلالتها وحلول السلطان بها وجميع الدواوين إليها وأنطاكية ونفاستها وبالس وعمارتها أجنادا لمدينة خربة صغيرة، فإن قال: هلا استعملت هذا القياس في شيراز؟ فأضفت إليها إصطخر ومدنها؟ قيل: لما وجدنا بإصطخر مدنا أحدقت بها وتباعدت عنها استحسنا ما فعلناه ثم، والاستحسان في علمنا هذا ربما غلب القياس.»
وهي لعمري خطة محمودة أن لا يصف الكاتب إلا ما رآه عيانا، وعليها جرى المقدسي فزاد في اعتبارنا مقاما، وكذلك تراه ينبه القارئ إذا ما احتاج إلى وصف شيء لم يعاينه، مثال ذلك قوله (ص12) عن اليمن: «أما طريق اليمن فلا أكاد أضبط مراحلها كغيرها من الكور، غير أني أذكر ما عرفت وأجمل ما سمعت.»
أما طبعة هذا الكتاب، فحسبنا القول بأن الذي تولى أمرها إنما هو أحد أفاضل المستشرقين، العلامة دي غوي، وكان طبعها أولا سنة 1877، ثم نفدت هذه الطبعة بعد مدة، فاضطر جناب ناشرها إلى إعادة طبعها، فأنجز العمل في السنة المنصرمة، وفي ذلك دليل واضح على إقبال العلماء على هذا الكتاب، وقلما تجد كتابا علميا عربيا يحتاج إلى طبعتين، ومن محاسن هذه الطبعة المستحدثة أن صاحبها أثبت فيها عدة فوائد جديدة استفادها من درسه الخاص ومن ملحوظات العلماء، فجاءت هذه الطبعة الثانية غاية في الحسن سواء كان لضبط المتن،
3
أو لدقة الحواشي التي علقها في ذيل كل صفحة من الكتاب، فيا ليت أدباء الشرق يحذون في طبعهم للتآليف القديمة حذو المستشرقين في طبعاتهم، فيخدموا العلم كما فعل ناشر جغرافية المقدسي.
ولكن دعنا الآن نواصل بحثنا في التأليف الذي نحن بصدده.
بلاد الشام على عهد المقدسي
أول ما افتتح به المقدسي كتابه نظر عمومي في أحوال الشام، وهذه المقدمة حسنة إجمالا، لولا أن المؤلف أفقدها شيئا من فوائدها بزخرف سجعها، والأولى بمثل هذه المقدمات العلمية أن تكتب بسذاجة وكلام بعيد عن كل تصنع؛ لئلا يحيد الفكر عن الجوهر فينصرف إلى الأعراض، لا سيما إذا اتسع الكتبة في السجع وتجاوزوا الحدود كما فعل ابن جبير، فدونك ما كتب المقدسي في وصف الشام (ص151): «(إقليم الشام) جليل الشأن، دار النبيين، ومركز الصالحين، ومعدن البدلاء، ومطلب الفضلاء، به القبلة الأولى، وموضع الحشر والمسرى، والأرض المقدسة، والرباطات الفاضلة، والثغور الجليلة، والجبال الشريفة، ومهاجر إبراهيم وقبره، وديار أيوب وبئره، ومحراب داود وبابه، وعجائب سليمان ومدنه، وتربة إسحاق وأمه، ومولد المسيح ومهده، وقرية طالوت ونهره، ومقتل جالوت وحصنه، وجب أرميا وحبسه ، ومسجد أوريا وبيته، وقبة محمد وبابه، وصخرة موسى، وربوة عيسى، ومحراب زكريا، ومعرك يحيي، ومشاهد الأنبياء ، وقرى أيوب، ومنازل يعقوب، والمسجد الأقصى، وجبل زيتا، ومدينة عكا، ومشهد صديقا، وقبر موسى، ومضجع إبراهيم ومقبرته، ومدينة عسقلان، وعين سلوان، وموضع لقمان، ووادي كنعان، ومدائن لوط وموضع الجنان، ثم به دمشق جنة الدنيا، وصغر البصرة الصغرى، والرملة البهية، وخبزها الحواري، وإيليا الفاضلة بلا لأوى، وحمص المعروفة بالرخص وطيب الهواء، وجبل بصرى وكرومه فلا تنسى، وطبرية الجليلة بالدخل والقرى، ثم البحر يمد على طرفيه، فالحمولات فيه إليه أبدا، وبحر الصين
Неизвестная страница