أبو عبد الله شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي. إن اسم ياقوت يدل على أنه كان من الموالي، إذ كان من المرسوم أن يدعون الموالي باسم الأحجار الكريمة أو العطور العبقة كزمرد وكافور. فأراد ياقوت فيما بعد أن يستبدل اسمه بيعقوب للتشابه فيما بينهما ولكنه لم يوفق لذلك وبقي بين معاصريه والأجيال اللاحقة مشتهرًا بهذا الاسم. ياقوت الحموي رومي الأصل ومن البلاد البيزنطية، ولعله من عرق يوناني. وإنما اشتهر بابن عبد الله لأن أباه مجهول. واشتهر بالحموي أيضًا لأنه مولى لرجل من أهل حماة. ولد بالإجماع في سنة ٥٧٥ هـ / ١١٧٩ م. كان غريبًا عن لغته الأصلية أو كان لا يجيدها وصارت العربية لغته الرسمية ولكن بما أنه يعود إلى أصول أجنبية لم يصل في هذه اللغة أيضًا إلى كمالها. ترعرع في بيئة إسلامية وقد سعى مولاه في أمر تعليمه وإرشاده وكان يصطحبه معه في الكثير من الرحلات التجارية وأحيانًا يرسله للسفر وحيدًا. ومن الرحلات التي أثرت فيه رحلته مكررًا إلى جزيرة كيش الواقعة في الخليج الفارسي حيث كانت آنذاك واحدة من المراكز التجارية في العالم الإسلامي يتقاطر إليها الناس من مختلف أصقاع العالم. وخلال إحدى هذه الرحلات في سنة ٥٩٦ هـ، أُخبر بوفاة مولاه وتحريره إياه فأقام من حينها في بغداد واشتغل بالاستنساخ وبيع الكتب. ثم بدأ برحلاته منذ عام ٦١٠ هـ / ١٢١٣ م واستمرت ستة عشر عامًا إلى حين موته بفواصل قليلة. من أساتذته: العكبري وابن يعيش. ذكره المؤرخون وأرباب التراجم بأنه مؤرخ ثقة، ومن روّاد علم الجغرافيا، لغوي، أديب، شاعر وكاتب بارع وعالم بصير في تقويم البلدان. آثاره من آثاره: إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، أخبار الشعراء أو معجم الشعراء، المقتطفات في النسب، معجم البلدان، مراصد الاطلاع (هناك اختلاف في نسبة هذا الكتاب إليه)، المشترك وضعًا والمفترق صقعًا، أخبار المتنبي، كتاب الأغاني، كتاب الدول وغيرها.

Неизвестная страница

[المجلد الاول] بسمِ الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله الذي جعل الأَرضَ مِهادًا، والجبالَ أَوتادًا، وبَثَّ من ذلك نشوزًا ووهادًا، وصَحارَى وبلادًا، ثم فجَّر خِلال ذلك أَنهارًا، وأَسال أَوديةً وبحارًا، وهدَى عباده إِلى اتخاذ المساكن، وإِحكام الأَبنية والمواطن، فشيَّدوا البُنيان، وعمَّروا البُلْدان، ونحَتوا من الجبال بيوتًا، واستنبطوا آبارًا وقُلوتا، وجعل حرصهم على تَشييد ما شيَّدوا، وإحكام ما بَنَوا وعَمَّدُوا، عبرة للغافلين، وتبصرة للغابرين. فقال وهو أَصدق القائلين: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ من قَبْلِهِمْ. كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا في الْأَرْضِ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» ٤٠: ٨٢. أَحمَده على ما أَعطى وأَنعم، وهدَى إِلى الرُّشد وأَلهمَ، وبيَّن من السَّداد وأَفهمَ، وصلى الله عليه خِيرته من أَنبيائه والمرسلين، وصفوته من أَصفيائه والصالحين، محمد المبعوث بالهدى والدين المبين، المنعوت بِ «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» ٢١: ١٠٧ وعلى آله الكرام البررة، وأصحابه المنتجبين الخيرة، وسلّم تسليما. أَما بعد، فهذا كتاب في أَسماءِ البُلْدان، والجبال، والأودية، والقيعان، والقُرَى، والمحالّ، والأَوطان، والبحار، والأَنهار، والغُدران، والأصنام، والأنداد، والأَوثان. لم أَقصِدْ بتأْليفه، وأَصمُدْ نفسي لتصنيفه، لهوًا ولا لعبا، ولا رَغبة حثَّتني اليه ولا رَهْبًا، ولا حنينا استفزَّني إِلى وَطن، ولا طربًا حَفَزَني إِلى ذي ودّ وَسَكَن. ولكن رأَيت التصدّي له واجِبًا، والانتدابَ له مع القدرة عليه فرضا لازبا، وفّقني عليه الكتاب العزيز الكريم، وهداني اليه النّبأُ العظيم، وهو قوله ﷿، حين أراد أن يعرّف عباده آياته ومثلاته، ويقيم الحجة عليهم في إِنزاله بهم أَلِيمَ نَقماته: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ» ٢٢: ٤٦. فهذا تقريع لمن سار في بلاده ولم يعتبر، ونظر إلى القرون الخالية فلم ينزجر، وقال وهو أصدق القائلين: «قُلْ سِيرُوا في الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» ٦: ١١ أَي انظروا إلى ديارهم كيف درست، وإلى آثارهم وأنوارهم كيف انطَمَسَت، عقوبةً لهم على اطّراح أَوامره، وارتكاب زواجره، إلى غير ذلك من الآيات المحكمة، والأَوامر والزواجر المبرَمة. فالأَول توبيخ لسَبْق النهي عن المعصية شاهرًا، والثاني أَمر يقتضي الوجوب ظاهرا. فهذا من كتاب الله الذي لا يأْتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلفه، ولا يطرق عليه نقصٌ من إِنشائه وخَلقه، وقد

1 / 7

وَرَد في الأثر عن السادات ممن عَبر، قول عيسى بن مريم، ﵇: الدُّنيا مَحَلُّ مَثُلةٍ، ومنزلُ نَقَلةٍ، فكونوا فيها سَيَّاحين، واعتبروا ببقية آثار الأَولين. قال قُسُّ بن ساعدة الذي حكم له النبي، ﵌، أَنه يُبعَثُ أُمّةَ وحدَه: «أَبلَغُ العظات، السيرُ في الفلوات، والنظرُ إلى محل الأَموات» . وقد مدح الشعراءُ الخُلفاءَ والملوك والأُمراء بالسير في البلاد، وركوب الحُزُون والوهاد. فقال بعضهم يمدح المعتصم: تناولتَ أَطرافُ البلاد بقدرةٍ، ... كأَنك، فيها، تَبتَغي أَثر الخِضْر وقد تتعذَّر أَسباب النظر، فيتعين التماس الخبر، فوَجب لذلك علينا إعلام المسلمين بما علِمناه، وإرفادُهم بما أَفادناه الله بفضله فأَتْقَنَّاه، إذ كان الافتقار إلى هذا الشأْن يَشترك فيه كلّ من ضَرَب في العِلم بسهم، واختَصَّ منه بنصيب أَو قَسم، أَو أَتَّسمَ منه باسم، أَو ارتسم بفنّ منه او رسم. وعلى ذلك لم أَرَ من طَبَّ سقيمَ أَسمائها، أَو قَوِي على تمتين ضعيف مقاصدها وأَنحائها، فإني رأَيت جُلّ نَقَلة الأَخبار، وأَعيان رُواة الأَشعار والآثار، ممن عُنِي بها دهرَه، وأَنفد فيها عَرضه وعَمْرَه حَسَنَ الاستمرار على الصواب، والجًا حدائق الرشد في كل باب، ضاربا بقداح الفَلْج في أَفانين العلوم والآداب، عند قراءة السنن والآثار، ورواية الأحاديث والأَخبار، لتحصيلهم إياها بالمعاني، واستدلالهم على مغزى أَوائل الكلم بالثّواني، لأخذ بعض الكلام بأهداب بعض، ودلالة أواخره على أوائله، وأَوائله على أَواخره، حتى يمرّ بهم ذكر بقْعة كانت بها وقعة واقعة، فيختلط لاحتياجه إلى النقل لا العقل، والرواية لا الدراية، فتراه إما غالطا، أو مغالطًا، فيَخفِض من صوته بعد رَفْعه، ويَتَكَهَّمُ ماضي لسانه بقدعه. ثم قلما رأَيت الكتب المتْقنَة الخط، المحتاطَ لها بالضبط والنّقط، إِلا وأَسماءُ البقاع فيها مهملة أَو محرّفة، وعن محجّة الصواب منعطفة أَو منحرفة، قد أَهمله كاتبه جهلا، وصورّه على التَّوَهُّم نقلا. وكم إمام جليل، ووَجْه من الأَعيان نبيل، وأمير كبير، ووزير خطير، يُنسَب إلى مكان مجهول، فتراه عند ترجيم الظنون على كلّ محتمل محمول، فإن سئل عنه أَهل المعارف أخذوا بالنصف الأرْذل من العلم، وهو لا أدري. وبئست الخطة للرجل الفاضل، فإِن التَمس لذلك مَظِنَّةً، أَعضَلَ، أَو أُريغَ له مطلب، أَعوَزَ وأَشكل، لِإغفالهم هذا الفنَّ من العلم الخطير مع جلالته، وإعراضهِم عن هذا المقصد الكبير مع فَخامته. ومن ذا الذي يَستَغني من أولي البصائر عن معرفة اسماء الأَماكن وتصحيحها، وضبط أصقاعها وتنقيحها، والناس في الافتقار إلى علمها سَوَاسية، وسرّ دَوَرانها على الأَلسن في المحافل علانيةٌ، لأَن من هذه الأَماكن ما هي مواقيت للحجاج والزائرين، ومعالم للصحابة والتابعين، رضوان الله عليهم أَجمعين، ومشاهد للأَولياء والصالحين، ومواطن غزوات سرايا سيّد المرسلين، وفتوح الأَئمة من الخلفاء الراشدين. وقد فُتحت هذه الأماكن صلحا وعنوة، وأَمانًا وقوَّةً، ولكلٍّ من ذلك حكم في الشريعة، في قسمة الفيء وأَخذ الجزية، وتناول الخراج واجتناءِ المقاطعات والمصالحات، وإِنالة التَّسْويفات والإِقطاعات،

1 / 8

لا يَسَعُ الفقهاءَ جهلُها، ولا يُعذر الائمة والأُمراءُ إِذا فاتَهُم في طريق العلم حَزْنُها وسهلُها، لأَنها من لوازم فتيا الدين، وضوابط قواعد الإِسلام والمسلمين. فأَما أهل السير والأخبار، والحديث والتواريخ والآثار، فحاجتُهم إلى معرفتها أَمَسُّ من حاجة الرياض إِلى القطار، غبَّ إِخلاف الأَنواءِ، والمُشفي إِلى العافية بعد يأْس من الشفاء، لأَنه معتمد علمهم الذي قَلَّ أَن تخْلوَ منه صَفْحَةٌ، بل وِجْهَةٌ، بل سطرٌ من كتبهم. وأَما أَهل الحكمة والتّفهيم، والتطبّب والتّنجيم، فلا تقصُرُ حاجتُهم إِلى معرفته عمّن قدَّمنا، فالأَطباءُ لمعرفة أَمزجة البُلْدان وأَهوائها، والمنجم للاطّلاع على مطالع النجوم وأَنوائها، إذ كانوا لا يحكمون على البلاد إِلا بطوالعها، ولا يقضون لها وعليها بدون معرفة أَقاليمها ومواضعها، ومن كمال المتطبّب أَن يتطلَّع إِلى معرفة مزاجها وهوائها، وصحّة أَو سقم منبتها ومائها، وصارت حاجتهم الى ضبطها ضرورية، وكشفهم عن حقائقها فلسفيَّة، ولذلك صنَّف كثير من القدماء كُتبًا سموها جغرافيا، ومعناها صورة الأَرض، وأَلَّفَ آخرون كُتبًا في أَمزجة البلدان وأَهوائها، نحو جالينوس، وقبله بُقْراط وغيرهما. وأما أَهلُ الأَدب فناهيكَ بحاجتهم إِليها، لأنّها من ضوابط اللّغوي ولوازمه، وشواهد النّحوي ودعائمه، ومعتمد الشاعر في تحلية جيد شعره بذكرها، وتزيين عقود لآلئ نظمه بشذرها، فإِن الشعر لا يروق، ونفسَ السامع لا تشوق، حتى يذكر حاجر وزرود، والدهناءَ وهبود، ويتحنّن الى رمال رضوى، فيلزمه تصحيح لفظ الاسم وأَين صَقْعُه، وما اشتقاقُه ونُزهتُه، وقَفْرُه وحَزْنُه وسهولتُه. فإنه إن زعم أنه وادٍ وكان جبلًا، أَو جبلٌ وكان صحراءَ، أَو صحراءُ وكان نَهَرًا، أَو نهرٌ وكان قَرْيَةً، أَو قريةٌ وكان شِعْبًا، أَو شعبُ وكان حَزْمًا، أَو حزمٌ وكان روضةً، أَو روضةٌ وكان صَفْصَفًا، أَو صفصفٌ وكان مُستَنْقَعًا، أَو مستنقعٌ وكان جَلَدًا، أَو جلدٌ وكان سَبْخَةً، أَو سبخةٌ وكان حَرَّةً، أَو حَرَّةٌ وكان سهلا، أَو سهلٌ وكان وَعْرًا، أَو يَجعَلُه شرقيًّا وكان غربيًّا، أَو جنوبيًّا وكان شماليًّا، سَفُلَ قدرُه، ونَزُرَ كُثْرُه، وآض ضُحْكةً، ويرى أَنه ضُحكَة، وجُعل هُزْأَة، ويرى أَنه هُزَأَة، واستُخِفَّ وزنُه واستُرذِل، واستُقِلّ فضْلُه واستُجهِلَ، فقد ذكر بعض العلماء أَنهم استدلوا على ان هذا البيت: إِنَّ بالشعب، الذي دونَ سَلْعٍ، ... لقتيلًا، دَمُه ما يُطَلُ ليس من شعر تَأبَّطَ شرًّا، بأَن سَلْعًا ليس دونه شعبٌ. ولقد صنَّف، في عصرنا هذا، إِمام، من أَهل الأَدب، جليلٌ، وشيخ يُعْتَمَد عليه ويُرجَع في حلِّ المُشكلات إِليه نبيلٌ، كتابًا في شرح المقامات، التي أَنشأَها أَبو محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري، فطبَّقَ مَفصِلَ الإِصابة في شرح أفانين ضروبها، وغَبَّرَ في وجه كل من فَرَّغَ بالُه لإِيضاح مُشْكلها وغريبها، فإِنه بَهرَ العقول وأَدهش الأَذهان بما ذكره من أسرار بلاغتها، وأَظهره من مخزون براعتها، وأَوضحه من مكنون معانيها، وأَبانه من فتق الأَلفاظ التي فيها، وأَوْرده من الأشباه والنظائر، والعينون والنواظر، واصطلح الجمهور على تفضيله،

1 / 9

واتَّفقوا على إِجادة المصنَّف في جُملَه وتفصيله، ونقله وتعليله، وسارت النُّسخُ في الآفاق سَيْرورةَ ذُكاءَ في الإِشراق، فلم يقدم مِقْدامٌ مَتَعَنِّتٌ، ولا هَجَمَ مِهجامٌ متبكِّتٌ، على مؤاخذته بشيءٍ مما فيه، ولا حدَّث محدَّث نفسَه بحلِّ عقد من مغازيه، حتى ذكر اسماء الأماكن التي أَسس عليها أَبو محمد المقامات، فانبتَّ سِلْكُ دُرِّ عِقْد لآليه، وتداعى ما شيَّدَه فضلُه من مبانيه، وعاد رَوضُه الأَريض مصوَّحًا، وقريب إِحسانه مطوَّحا، وظلّ رَكْبُ فضائله طليحا، وتمامُ خلْق بُرهانه سطيحًا، وأَخذ يخلِّط تارة ويَخلِطُ، ويتعثَّر في عَشواءٍ الجهالة ويخبط. فإِنه قال في المقامة الكرجية: وكَرَجُ بلدة بين همذان وأَذربيجان، وإنما هي بين همذان وأَصفهان، والقاصد من همذان إلى أصفهان يأخذ بين الجنوب والمشرق، والقاصد من همذان إلى أذربيجان يأخذ بين الشمال والمغرب، والقاصد إلى هذه يستدبر القاصِد إلى هذه. وقال في البَرْقَعيدية: وبَرْقَعيد قصبةُ الجزيرة، وإِنما هي قرية من قُرى بقعاء الموصل، لا تبلغ أَن تكون مدينةً، فكيف قصبةً؟ وقال في التّبْريزية: وتبريز بلدة من عواصم الشام، بينها وبين مَنْبج عشرون فرسخًا، وتبريز بلدة أَشهرُ وأَظهرُ من أَن تخفَى، وهي اليوم قصبة نواحي أَذربيجان، وأَجَلُّ مُدُنها. وإِلى غير ذلك من أغاليط غيره، فصار هذا الإِمام ضُحْكةً للبطالين، وهُزْأَة للساخرين، ووجد الطاعنُ عليه سبيلًا، وإِن كان مع كثرة إحسانه قليلًا، فلو كان له كتابٌ يَرجع إليه، ومَوْئلٌ يَعتمد عليه، خلص من هذه البليَّة نجيًّا، وارتقى من الهبوط في هذه الأَهوية مكانا عليًّا. وكان من أَول البواعث لجمع هذا الكتاب، أَنني سُئلتُ بَمرْو الشاهجان، في سنة خمس عشرة وستمائة، في مجلس شيخنا الإِمام السعيد الشهيد فخر الدين أَبي المظفّر عبد الرحيم ابن الإِمام الحافظ تاج الإِسلام أَبي سعد عبد الكريم السَّمْعاني، تَغَمَّدَهما الله برحمته ورضوانه، وقد فُعِل الدعاء إِن شاءَ الله، عن حُباشَةَ اسم موضع جاءَ في الحديث النبويّ، وهو سوقٌ من أَسواق العرب في الجاهلية. فقلت: أَرى أَنه حُباشَةُ بضم الحاء، قياسًا على أَصل هذه اللفظة في اللغة، لأَنّ الحُباشَةَ: الجماعة من الناس من قبائل شتى، وحبَشْتُ له حُباشَةً أَي جَمعت له شيئًا. فانبرى لي رجلُ من المحدّثين، وقال: انما هو حَباشةُ بالفتح. وصَمَّمَ على ذلك وكابَرَ، وجاهَرَ بالعنِادِ من غير حُجّة وناظَرَ، فأَردْتُ قطعَ الاحتجاج بالنّقْل، إذ لا مُعَوَّل في مثل هذا على اشتقاق ولا عَقْل، فاستعصى كَشْفُه في كتب غرائب الأَحاديث، ودواوين اللغات مع سعة الكتب التي كانت بِمَرْوَ يومئذ، وكثرة وجودها في الوقوف، وسهولة تناولها، فلم أَظْفَر به إِلا بعد انقضاء ذلك الشَّغَب والمِراء، ويأْسٍ من وجوده ببَحْث واقتراء، فكان موافقًا والحمد لله لما قُلْتُه، ومَكيلًا بالصاع الذي كِلتُه، فأُلقَي حينئذ في رُوعي افتقارُ العالم إِلى كتاب في هذا الشأْن مضبوطًا، وبالإتقان وتصحيح الأَلفاظ بالتَّقييد مخطوطًا، ليكون في مثل هذه الظُّلمْة هاديًا، وإِلى ضَوءِ الصواب داعيًا، ونُبَّهتُ على هذه الفضيلة النبيلة، وشُرِحَ صدري لنيل هذه المنقَبَة التي غفل عنها الأَولون، ولم يَهْتَدِ لها الغابرون. يقول من تَقْرَعُ اسماعَهُ: كم تَركَ الأَول

1 / 10