فَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَإِعْطَاءُ الرِّشْوَةِ عَلَى عَزْلِهِ حَرَامٌ وَالْمَعْزُولُ بَاقٍ عَلَى وِلَايَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ عَزَلَهُ قَدْ تَابَ بِرَدِّ الرِّشْوَةِ قَبْلَ عَزْلِهِ.
وَقَضَاءُ الْمُسْتَخْلَفِ أَيْضًا بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلَفُ أَيْضًا قَدْ تَابَ قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَيَصِحُّ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْزُولُ جَائِرًا لَمْ يَبْطُلْ قَضَاءُ الْمُسْتَخْلَفِ انْتَهَى.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْدُمَ عَلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ إلَّا مَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ وَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ الْعَدْلُ عَلَى ذَلِكَ، فَلِلْإِمَامِ الْعَدْلِ إجْبَارُهُ إذَا كَانَ صَالِحًا، وَلَهُ هُوَ أَنْ يَهْرَبَ وَيَمْتَنِعَ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، كَذَلِكَ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ سِوَاهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الِامْتِنَاعُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ لِتَعَيُّنِ الْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٥] فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَرَادَ اسْتِصْلَاحَهُمْ وَدُعَاءَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ تُذَلُّ لَهُ الرِّقَابُ، وَتَخْضَعُ لَهُ الْجَبَابِرَةُ وَلَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ بَابِهِ، فَلِهَذَا طَلَبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ دُونَ الْإِمَارَةِ وَالْوَزَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَاتِ.
لَا يُقَالُ: إنَّهُ طَلَبَ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى الِاجْتِمَاعِ بِأَخِيهِ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَهُ أَشْرَفُ مِنْ هَذَا وَأَكْمَلُ، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ حَاصِلًا فَعَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ، أَعْنِي: أَنَّ إخْوَتَهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الْمِيرَةِ وَطَلَبِ الْقُوتِ مِنْ عِنْدِهِ " ﷺ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ".
[فَصْلٌ طَلَبُ الْقَضَاءِ]
(فَصْلٌ):
وَطَلَبُ الْقَضَاءِ يَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ، وَمُبَاحٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَمَكْرُوهٌ، وَحَرَامٌ.
فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ قَاضٍ أَوْ يَكُونُ وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ وِلَايَتُهُ، أَوْ لَيْسَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ غَيْرُهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ إنْ لَمْ يَلِ الْقَضَاءَ وَلِيَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ وِلَايَتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِيَدِ مَنْ لَا يَحِلُّ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى عَزْلِهِ إلَّا بِتَصَدِّي هَذَا إلَى الْوِلَايَةِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِذَلِكَ وَالسَّعْيُ فِيهِ إذَا قَصَدَ بِطَلَبِهِ حِفْظَ الْحُقُوقِ وَجَرَيَانَ الْأَحْكَامِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ فِي تَحْصِيلِهِ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا وَلَهُ عِيَالٌ، فَيَجُوزُ لَهُ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ لِيَسُدَّ خَلَّتَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ عَنْ نَفْسِهِ فَيُبَاحُ لَهُ أَيْضًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إذَا كَانَ هُنَاكَ عَالِمٌ خَفِيَ عِلْمُهُ عَنْ النَّاسِ فَأَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُشْهِرَهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ لِيُعَلِّمَ الْجَاهِلَ وَيُفْتِيَ الْمُسْتَرْشِدَ، أَوْ كَانَ هُوَ خَامِلُ الذِّكْرِ لَا يَعْرِفُهُ الْإِمَامُ وَلَا النَّاسُ فَأَرَادَ السَّعْيَ فِي الْقَضَاءِ لِيُعْرَفَ مَوْضِعُ عِلْمِهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ وَالدُّخُولُ فِيهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ أَنْهَضُ بِهِ وَأَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ آخَرَ تَوَلَّاهُ وَهُوَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ التَّوْلِيَةَ وَلَكِنْ مُقَصِّرٌ عَنْ هَذَا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ سَعْيُهُ فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ لِتَحْصِيلِ الْجَاهِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ فَهَذَا يُكْرَهُ لَهُ السَّعْيُ، وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ يَحْرُمُ كَانَ وَجْهُهُ ظَاهِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣] وَيُكْرَهُ أَيْضًا إنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَانَ مَشْهُورًا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ وَعِلْمَهُ بِالْقَضَاءِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَسْعَى فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ وَهُوَ جَاهِلٌ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، أَوْ يَسْعَى فِيهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ، أَوْ كَانَ قَصْدُهُ بِالْوِلَايَةِ الِانْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ أَوْ قَبُولَ الرِّشْوَةِ مِنْ الْخُصُومِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ، فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي الْقَضَاءُ.
1 / 10