وَنَحْوِهِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ، وَاكْتَفَوْا بِشُهْرَةِ بُلُوغِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ وَرُشْدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّا نَرَى الْحُكَّامَ فِي عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ يَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ بِخُلُوِّ الزَّوْجَةِ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ مِنْ زَوْجٍ وَعِدَّةٍ وَنَحْوِهَا، فَهَلَّا طَلَبُوا الشَّهَادَةَ عَلَى خُلُوِّ الْبَيْعِ مِنْ رَهْنٍ وَجِنَايَةٍ؟ قُلْنَا: سَبَبُهَا الِاحْتِيَاطُ فِي الْأَبْضَاعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّزْوِيجَ لَوْ وَقَعَ كَانَ مَشْهُورًا غَالِبًا، فَطَلَبُنَا الشَّهَادَةَ بِعَدَمِهِ لِإِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ.
وَقَوْلُنَا: إنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ هَذَا هُوَ مَحَطُّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ.
قَالَ السُّبْكِيُّ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحُكْمِ فَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ مِلْكِ الْمَالِكِ وَحِيَازَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَصِحَّةِ صِيغَتِهِ فِي مَذْهَبِ الْقَاضِي، يُرِيدُ إنْ كَانَ شَافِعِيًّا، وَصِحَّةُ الصِّيغَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي مَوَانِعَ مَعْدُودَةٍ، فَإِذَا وَقَعَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَصُرِّحَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَعْنِي: مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ أَعْنِي بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَقْفًا كَانَ أَوْ بَيْعًا، فَلَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ بِاجْتِهَادِ مِثْلِهِ إنْ كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا قَرِيبًا لَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ بِنَاؤُهُ عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَعْنِي: " الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ " الْفَسَادُ مِنْ جِهَةِ تَبَيُّنِ عَدَمِ الْمِلْكِ أَوْ شَرْطٍ آخَرَ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا قَصَدَهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْحُكْمِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ نَقَضَهُ ذَلِكَ الْقَاضِي نَفْسُهُ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْخَلَلَ الَّذِي ظَهَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي مَحِلِّ الْحُكْمِ لَا فِي الْحُكْمِ.
وَمِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي التَّسْجِيلِ لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كَثِيرًا مَا يُكْتَبُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي التَّسْجِيلَاتِ، فَيُحْمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي صِحَّتِهِ عَلَى الثُّبُوتِ فَيُرَاجَعُ فِيهِ الْحَاكِمُ وَلَا يَكُونُ صَرِيحًا، فَإِنْ عَسِرَتْ الْمُرَاجَعَةُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَمَعْنَى صِحَّتِهِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ تَتَرَتَّبُ آثَارُهُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى حُكْمِ الْقَاضِي بِذَلِكَ إلْزَامُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَإِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ نَفَذَ وَصَارَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ وَأَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَصِحَّةِ الصِّيغَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَكُلُّ مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَعَرَفَهُ الْقَاضِي وَحَكَمَ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْخِلَافِ ارْتَفَعَ أَثَرُ ذَلِكَ الْخِلَافِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاقِعَةِ فَهِيَ صِحَّةٌ مُطْلَقَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ مَا ذُكِرَ مِنْ رَفْعِ الْخِلَافِ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْفَسَادُ.
وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ: لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ، وَهَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ الَّتِي غَلَبَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَسْتَدْعِي ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ، وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ، وَكَوْنُ تَصَرُّفِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلِذَلِكَ اُشْتُرِطَ فِيهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ.
وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ وَهُمَا: أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ، وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ، فَيَحْكُمُ بِمُوجَبِهَا وَهُوَ مُقْتَضَاهَا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا وَمُوجَبَهَا ذَلِكَ.
وَكَأَنَّهُ حُكْمٌ بِصِحَّةِ تِلْكَ الصِّيغَةِ الصَّادِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ نَقْضٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ نَقْضُهُ، وَلَا يُنْقَضُ إلَّا أَنْ يُتَبَيَّنَ عَدَمُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ نَقْضُهُ كَنَقْضِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ.
(تَنْبِيهٌ):
وَإِنَّمَا جَازَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْسُرُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ.
قَالَ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ " وَهِيَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ " فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمَذَاهِبِ إلَّا فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ لِبَيَانِ حَدِّ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ هُوَ قَضَاءُ الْمُتَوَلِّي بِأَمْرٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالْإِلْزَامِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ خَاصًّا أَوْ عَامًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا، فَذِكْرُ الْقَضَاءِ يَخْرُجُ بِهِ الثُّبُوتُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ عِنْدَ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا الْمُتَوَلِّي الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ الَّذِينَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَدِّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَيَجْرِي فِي قَوْلِهِ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ بِالْإِلْزَامِ إلَى آخِرِهِ: يَعْنِي بِالْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ وَهُوَ صُدُورُ الصِّيغَةِ فِي ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ يَتَوَجَّهُ إلَى الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْخَاصِّ لَا مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
1 / 44