أُدْلِيَ إلَيْك وَأَنْفِذْ إذَا تَبَيَّنَ لَك، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ. سَوِّ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِك وَمَجْلِسِك وَعَدْلِك، حَتَّى لَا يَيْأَسَ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِك، وَلَا يَطْمَعَ الشَّرِيفُ فِي حَيْفِك، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، لَا يَمْنَعُك قَضَاءٌ قَضَيْته بِالْأَمْسِ ثُمَّ رَاجَعْت فِيهِ نَفْسَك وَهُدِيت فِيهِ رُشْدَك أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَمُرَاجَعَتَهُ خَيْرٌ مِنْ الْبَاطِلِ وَالتَّمَادِي فِيهِ، وَالْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِك مِمَّا لَا يَبْلُغُك فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، اعْرَفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْكَالَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْمِدْ إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى، اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً أَجَلًا يَنْتَهِي إلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْت بِحَقِّهِ، وَإِلَّا وَجَّهْت عَلَيْهِ الْقَضَاءَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ طَعِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ وَرَدَّ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ، وَإِيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ لِلْخُصُومِ عِنْدَ الْخُصُومَاتِ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِي يُوجِبُ اللَّهُ بِهَا الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ بِهَا الذُّخْرَ، فَإِنَّهُ مَنْ يُصْلِحُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ يَكْفِيهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ شَانَهُ اللَّهُ، فَمَا ظَنُّك بِثَوَابِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَالسَّلَامُ.
[فَصْلٌ فِيمَا يَلْزَمُ الْقَاضِي فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ]
(فَصْلٌ):
فِيمَا يَلْزَمُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ " وَاعْلَمْ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ عَلَى آدَابِ الشَّرْعِ وَحِفْظِ الْمُرُوءَةِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَيَتَوَقَّى مَا يَشِينُهُ فِي دِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَعَقْلِهِ، أَوْ يَحُطُّهُ فِي مَنْصِبِهِ وَهِمَّتِهِ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ لَأَنْ يُنْظَرَ إلَيْهِ وَيُقْتَدَى بِهِ، وَلَيْسَ يَسَعُهُ فِي ذَلِكَ مَا يَسَعُ غَيْرَهُ، فَالْعُيُونُ إلَيْهِ مَصْرُوفَةٌ، وَنُفُوسُ الْخَاصَّةِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَوْقُوفَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ بَعْدَ الْحُصُولِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ سَوَاءً وَصَلَ إلَيْهِ بِرَغْبَتِهِ فِيهِ وَطَرَحَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، أَوْ اُمْتُحِنَ بِهِ وَعُرِضَ عَلَيْهِ، أَنْ يَزْهَدَ فِي طَلَبِ الْحَظِّ الْأَخْلَصِ وَالسَّنَنِ الْأَصْلَحِ، فَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْقَارِ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَنْصِبَ، أَوْ زُهْدِهِ فِي أَهْلِ عَصْرِهِ وَيَأْسِهِ مِنْ اسْتِصْلَاحِهِمْ وَاسْتِبْعَادِ مَا يَرْجُو مِنْ عِلَاجِ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ أَيْضًا لِمَا يَرَاهُ مِنْ عُمُومِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْخَيْرِ.
فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَسْعَ فِي اسْتِصْلَاحِ أَهْلِ عَصْرِهِ فَقَدْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ وَيَئِسَ مِنْ تَدَارُكِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالرَّحْمَةِ، فَيُلْجِئُهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَمْشِيَ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِهِ وَلَا يُبَالِي بِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ فِيهِ لِاعْتِقَادِهِ فَسَادَ الْحَالِ، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ مُصِيبَةِ الْقَضَاءِ وَأَدْهَى مِنْ كُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْبَلَاءِ، فَلْيَأْخُذْ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهِدَةِ وَيَسْعَى فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَيَطْلُبُهُ وَيَسْتَصْلِحُ النَّاسَ بِالرَّهْبَةِ وَالرَّغْبَةِ، وَيَشُدُّ عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ يَجْعَلُ لَهُ فِي وِلَايَتِهِ وَجَمِيعِ أُمُورِهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَلَا يَجْعَلُ حَظَّهُ مِنْ الْوِلَايَةِ الْمُبَاهَاةَ بِالرِّيَاسَةِ وَإِنْفَاذَ الْأَوَامِرِ وَالتَّلَذُّذَ بِالْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ فَيَكُونُ مِمَّنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ [الأحقاف: ٢٠] وَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَكُونَ جَمِيلَ الْهَيْئَةِ ظَاهِرَ الْأُبَّهَةِ وَقُورَ الْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ حَسَنَ النُّطْقِ وَالصَّمْتِ مُحْتَرِزًا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْفُضُولِ وَمَا لَا حَاجَةَ بِهِ، كَأَنَّمَا يَعُدُّ حُرُوفَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَدًّا، فَإِنَّ كَلَامَهُ مَحْفُوظٌ وَزَلَلَهُ فِي ذَلِكَ مَلْحُوظٌ، وَلْيُقْلِلْ عِنْدَ كَلَامِهِ الْإِشَارَةَ بِيَدِهِ وَالِالْتِفَاتَ بِوَجْهِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْمُتَكَلِّفِينَ وَصُنْعِ غَيْرِ الْمُتَأَدِّبِينَ، وَلْيَكُنْ ضَحِكُهُ تَبَسُّمًا، وَنَظَرُهُ فِرَاسَةً وَتَوَسُّمًا، وَإِطْرَاقُهُ تَفَهُّمًا، وَلْيَلْزَمْ مِنْ السَّمْتِ الْحَسَنِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مَا يَحْفَظُ بِهِ مُرُوءَتَهُ، فَتَمِيلَ الْهِمَمُ إلَيْهِ، وَيَكْبُرَ فِي نُفُوسِ الْخُصُومِ مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ يُظْهِرُهُ وَلَا إعْجَابٍ يَسْتَشْعِرُهُ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ فِي الدِّينِ، وَعَيْبٌ فِي أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ.
[فَصْلٌ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ أُمُورٌ]
(فَصْلٌ):
وَيَلْزَمُ الْقَاضِيَ أُمُورٌ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إذَا كَانَ لَا يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛
1 / 15