معيد النعم ومبيد النقم
تأليف
الشيخ الإمام قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب السبكي
المتوفى سنة ٧٧١ هـ
مؤسسة الكتب الثقافية
Неизвестная страница
ملتزم الطبع والنشر والتوزيع
مؤسسة الكتب الثقافية فقط
الطبعة الأولى
١٤٠٧ هـ - ١٩٨٦ م
مؤسسة الكتب الثقافية
الصنائع - بناية الإتحاد الوطني - الطابق السابع - شقة ٧٨
هاتف المكتب: ٢٤٨٢٦٣ - ٢٤٤٣٦١ - المنزل: ٣١٥٧٥٩
ص. ب: ٥١١٥/ ١١٤ - برقيا: الكتبكو - تلكس: ٤٠٤٥٩
بيروت - لبنان
1 / 2
مُعيد النِّعَم وَمُبيد النّقَم
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نحمدك اللهمَّ، ونصلِّي ونسلِّم على نبيّك محمد المبعوثُ رحمةً للعالمين، وهاديًا للمسترشدين، وعلى آله وصحبه الهداةِ المهديين.
وبعد؛ فإنَّا نقدِّم للناس كتاب "معيد النعم، ومبيد النِقم" لأبي نصر تاج الدين السبكيّ، في مِعرض جديد، وثوب قشيب، بعد أن بذلنا في تصحيحه وضبطه، وتحقيق متنه، ما يحسُّه القارئ، ونرجو المثوبة من اللَّه عليه.
وقد كانت طبعاته السالفة مشحونة بشتَّى أنواع التحريف والتصحيف وضروب الإِحالة والتغيير!
وإنَّا لنرجو أن يلاقي هذا الكتاب من النَّفاق والإِقبال عليه والانتفاع به ما هو أهله؛ فإنَّه من خير الأسفار، وأجلّ الآثار التي أخرجت للناس.
1 / 5
ترجمة المؤلف
اسمه ومولده ونشأته:
هو عبد الوهاب بن عليّ بن عبد الكافي المعروف بتاج الدين السبكي، ولد بالقاهرة سنة ٧٢٨ هـ، وقال آخرون سنة ٧٢٩ هـ. وقد نشأ في بيت عريق في التقى والعلم فأبوه كان قاضي القضاة تقي الدين السبكي الذي تلقَّى العلم منه ومن علماء مصر كأبي حيان النحوي.
ولما أسند إلى والده قضاء الشام سنة ٧٣٩ هـ رحل معه واستقرَّ بدمشق واتَّخذها وطنه، وأخذ عن ضيوفها ومحدِّثيها كالذهبيّ والمزي وتفقَّه شافعيًا بابن النقيب، وقد أجازه بالفتيا ولم يبلغ العشرين بعد من عمره، كما تولَّى بعض وظائف التدريس في مدارس دمشق، ولمَّا توفي والده أخذ مكانه في قضاء الشام.
أقوال العلماء فيه:
قال عنه ابن حبيب في كتابه "درَّة الأسلاك في تاريخ الأملاك": "إمامٌ كبير، وحاكمٌ حبير، ورئيسُ فَلَك مآثره أثير، وماجدُ فخر علومه في الآفاق مستطير. أغصان مكارمه باسقة، وأنهارُ فضائله دافقة، ولسانُ عبارته فصيحٌ تبجحت بمرافقته أرباب السياسة، وافتخرت بمقارنة تاجه رؤوس الرياسة، وانشرحَت بأحكامه صدور المجالس، وتأرَّجت بأنفاسه أرجاء المنابر والمدارس. سمع وقرأَ وكتب، وأخذ عهد والده قدوة أهل العلم والأدب. وأفادَ المشتغلين والطلّاب، وانتفعَ به كثير من الأولياء والأصحاب. درَّس بالعادلية والغزالية، والأمينية والناصرية، ودار الحديث الأشرفيّة، والشاميّة البرانيّة. وباشرَ القضاء بدمشق أربع مرَّات، ونالَ بخطابة الجامع الأمويّ أنواعًا من المسرَّات، وله مصنَّفات جمَّة الفوائد، منتظمة العقود والقلائد".
1 / 7
مؤلفاته:
١ - جمع الجوامع في أصول الفقه، وقد ختمَ بنبذة في أصول الدين. وهو كتاب حافل جمعَ فيه زُهاء مائة كتاب في الأصول، وخدمه العلماء بالشروح والحواشي، وكان يدرس إلى عهد قريب في الأزهر.
٢ - تكملة شرح منهاج القاضي البيضاوي في الأصول.
٣ - شرح مختصر ابن الحاجب، في الأصول. وسمَّاه: رفع الحاجب، عن مختصر ابن الحاجب. (لم يطبع)
٤ - الترشيح، في اختيارات والده في الفقه. (لم يطبع)
٥ - التوشيح على التنبيه. (لم يطبع)
٦ - الأشباه والنظائر الفقهية. (لم يطبع)
٧ - طبقات الشافعية الصغري. (لم يطبع)
٨ - طبقات الشافعية الوسطى. (لم يطبع)
٩ - طبقات الشافعية الكبرى. طبع في ستة مجلدات.
١٠ - معيد النعم ومبيد النقم. وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
كلمة موجزة عن الكتاب
بنى المؤلِّف كتابه على ذكر ما يحفظ على الإِنسان في هذه الحياة النعمة التي أسدَاها اللَّه إليه، ويدفع عنه السوء والبأساء. ومردُّ ذلك إلى أن يقوم كل امرئٍ بما يجب عليه، ويؤدِّي حقَّ العمل الذي خصَّص نفسه به، ويراعي ما رسمَ الشرع في أمره. وقد استتبع ذلك أن يذكر الأعمال في عصره والوظائف الديوانيّة وغيرها، ويفصِّل ما يطلب في كل عمل ووظيفة، ويذكر ما يقضي به القانون الشرعي حتى يفضي العمل إلى غايته الصحيحة، ويتكوَّن مجتمع صالح في هذه الحياة.
1 / 8
وقد أيَّده وأعانه على هذا سعة فقهه، وخبرته بأحوال عصره، وشؤون الدولة وطبقات الناس؛ فقد ولي وظائف تجعلة بسبب قويّ من الحكام، وسواد الناس وعامة الشعب.
وفاته:
بقي تاج الدين السُّبكي في القضاء ووظائف أخرى في دمشق إلى أن أصيبَ بالطاعون سنة ١٧٧ هـ في منزله بدمشق ودفن رحمه اللَّه تعالى في سفح جبل مشرف على دمشق يُقال له قاسيون في مقبرة السبكية ويُقال أيضًا في مقبرة أهل الصلاح.
1 / 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخ الإِمام العلَّامة قاضي القضاة شيخ الإِسلام تاج الدين السبكي الشافعي تغمَّده اللَّه تعالى برحمته:
أمَّا بعد حمد اللَّه معيد النعم، ومبيد النِقم، بمزيد الشكر ومديد الكرم، والصلاة والسلام على نبيِّه سيدنا محمد خير العرب والعجم، والهادي إلى أرشد طريق وأقوم أُمَم وعلى آله وأصحابه وصالحي أمته خير الأمَم، فقد ورد عليَّ سؤال مضمونه: هل من طريق لمن سلُب نعمة دينية أو دنيوية، إذا سلكها عادت إليه، ورُدَّت عليه؟ فكان الجواب: طريقه أن يعرف: من أين أتى فيتوبُ منه ويعترف بما في المحنة بذلك من الفوائد فيرضى بها، ثم يتضرَّع إلى اللَّه تعالى بالطريق التي تذكرها.
هذه ثلاثة أمور هي طريقه التي يحصل بمجموعها دواءُ مرضه ويعقُبها زوال علَّته، بعضها مرتَّب على بعض لا يتقدَّم ثالثها على ثانيها، ولا ثانيها على أولها.
فعاد إليّ السائل قائلًا: اشرح لنا هذه الأمور شرحًا مبينًا مختصرًا، وصِف لنا هذا الدواء وصفًا واضحًا؛ لنستعمله.
فقلت: هذا سرٌّ غريب، جمهور الخلق لا يحيطون بعلمه، ونبأ عظيم أكثر الناس معرِضون عن فهمه؛ لاستيلاء الغفلة على القلوب، ولغلبة الجهل بما يجب للربّ على المربوب.
وأنا أبحث عن هذه الأمور في هذا المجموع الذي سمّيته: (معيد النعم، ومبيد النقم) بحثًا مختصرًا، لا أرخِي فيه عِنان الإِطناب؛ فإنَّه بحر لا ساحل له، لو ركبت فيه الصعب والذلول، وشمَّرت فيه عن ساق البيان، وخضت فيه لجج الدقائق، لذكرت ما يعسر فهمه على أكثر الخلائق، ولانتهينا إلى ما لم يؤذن لنا في إظهاره من الأسرار العلمية. وإنَّما أذكر من ذلك ما تشترك الخاصة والعامَّة في فهمه؛ وأخصُّ فيه النعم الدنيوية؛ إذ كانت محطَّ غرض السائل؛ عسى اللَّه أن
1 / 11
ينبِّهه بها للنعم الأخروية؛ إذ هي غاية الوسائل وأنا أرجو أن من كانت عنده نعمة للَّه تعالى في دينه أودنياه وزالت، فنظرَ هذا الكتاب نظر معتقد، وفهمه، وعمل بما تضمَّنه بعد الاعتقاد، عادت إليه تلك النعمة أو خير منها، وزالَ همَّه بأجمعه، وانقلبَ فرحًا مسرورًا فمن شكَّ فليستعمل هذا الدواء، لا على قصد التجربة والافتقاد ونظرَ الاختبار والانتقاد، بل بحسن الظنِّ وجميل الاعتقاد، فإنه عند ذلك يظفر بغاية المراد. أسأل اللَّه أن يصرف إليه عزمة مستحقيه ويصرف عنه هِمَّة من لا يستحقه ولا يدريه.
(الأمر الأوَّل) أن تعلم أين أُتِيت، وما السبب الذي زالت به عنك النعمة؟ فإن النعمة لا تزول عنك سُدًى وإن اللَّه لا يغيِّر ما بقومٍ حتَّى يغيِّروا ما بأنفُسِهِم.
اعلم أنها لم تزل عنك إِلَّا لإِخلالك بالقيام بما يجب عليك من حقوقها، وهو الشكر؛ فإنَّ كل نعمة لا تُشكر جديرة بالزوال. ومن كلامهم: النعمة إذا شُكِرت قرَّت، وإذا كُفِرت فرَّت. وقيل: لا زوال للنعمة إذا شكرت، ولا بقاءَ لها إذا كفرت. وقيل النعمة وحْشيّة فاشْكلوها بالشكر. والأدلّة على أنَّ كفران النعم يوجب انزواءها كثيرة، فلا نطيلُ بذكرها. والحاصل أنَّ كتاب اللَّه وسنَّة رسوله ﷺ دالَّان على أنَّ كفران النعمة يؤذن بزوالها، وشكرها يقضي بمزيدها. وذكرَ العارفون أنَّ الرب قطع بالمزيد مع الشكر، ولم يستثن فيه، واستثني في خمسة أشياء: في الإغناء والإِجابة والرزق والمغفرة والتوبة فقال تعالى: ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ﴾ (١) وقال تعالى: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾ (٢) وقال تعالى: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ (٣) ﴿وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (٤) وقال تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ (٥) وقال في الشكر من غير استثناء: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (٦) فإن قلت: فما الشكر؟ قلت: قد شرحه العارفون. وبيَّنوا حقيقته. وأنا أختصر لك القول فيه، وآتي بما يقرِّب من فهمك؛ فأقول: الشكر يكون بالقلب واللسان والأفعال. هذه أركانه، الثلاثة: أما القلب -وهو أعظمها- فالمراد منه أن تعلم وتعتقد أن الله هو الذي منحك النعمة لا أحد سواه شاركه، فإنَّ كل من تقدره من كبير وأمير ووزير وصاحب وخليل ووالد
_________
(١) سورة التوبة الآية ٢٨.
(٢) سورة الأنعام الآية ٤١.
(٣) سورة آل عمران الآية ٣٧.
(٤) سورة المائدة الآية ٤٠.
(٥) سورة التوبة الآية ٢٧.
(٦) سورة إبراهيم الآية ٧.
1 / 12
وغيرهم لا يقدر على فعل شيء لنفسه فضلًا عن غيره وإن جرى على يديه خير فاللَّه تعالى هو الذي أجراه على يديه؛ وإلَّا فهو لا مدخل له فيه ولا صنع. فمن أنعمَ عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى لوزير الملك أو لحاشيته مدخلًا في تيسير ذلك وإيصاله فهو إشراكٌ بالملك في النعمة، إذ لم ير النعمة منه من كل وجه، بل رآها منه ومن غيره فيتوزَّع فرحه عيهما، فلا يكون موحدًا في حق الملك فمن حقّ الملك أن يعاقبه على هذا الاعتقاد.
فإن قلت: ما علاج هذا الداء فإنِّي أرى أناسًا لي عليهم خدمة، ولي عندهم يد، وبيني وبينهم صداقة، يصدر على أيديهم نفعى في ديني ودنياي فلا أستطيع أن أدفعهم عن قلبي؟ قلت: من الذي سخَّرهم لك، وألقى في قلبهم الدَّاعية، ويسَّر الأسباب عليهم حتى أوصلوا النفع إليك؟ هات قل لي. فإن قلت: اللَّه الذي سخَّرهم وسخَّر الشمس والقمر كلّ يجري بأمره، فاعلم أنهم مسخَّرون تحت قبضته.
فإن كنت تعتقدهم فاعلين شيئًا فهلَّا اعتقدت القلم والحبر والكاغَد (١) التي كتب بها منشورك فاعلًا! ولم لا اعتقدت الموقِّع فاعلًا؟ ولم لا اعتقدت الخازن الذي يُخرج لك الدراهم فاعلًا؟ فإذا كنت تعتقد أنَّ كل واحد من هؤلاء مقهور مِن الملك مجبور، ولو خلِّي ونفسه لما أعطاك ذَرَّة، فافهم أنَّ كل من وصل لك على يديه خير من المخلوقين فهو كذلك في قبضة ربِّ العالمين. فاشكره وحده ولا تُشرك به أحدًا.
واعلم أنَّ المخلوق مضطرٌّ سلَّط اللَّه عليه الإِرادة، وهيَّج عليه الدواعي، وألقى في قلبه أن يعطيك، فلم يجد بعد ذلك سبيلًا إلى دفعك؛ ولا يعطيك والحالة هذه إِلَّا لغرض نفسه لا لغرضك. ولو لم يكن له غرض في الإِعطاء لما أعطاك. ولو لم يعتقد أن له نفعًا في نفعك لما نفعك. فهو إذًا إنَّما يطلب نفع نفسه بنفعك. ويتَّخذك وسيلة إلى نعمة أخرى يرجوها لنفسه. وما أنعمَ عليك إلَّا الذي سخَّره لك وألقى في قلبه ما حمله على الإِحسان إليك. فإن قلت: فلم ورد الشرع بشكري إياه حيث قال أبو هريرة ﵁: قال رسول اللَّه ﷺ: "لا
_________
(١) هو القرطاس يكتب فيه.
1 / 13
يشكر اللَّه من لا يشكر الناس" رواه أبو داود بهذا اللفظ والترمذي بلفظين: أحدهما: "من لا يشكر الناس لا يشكر اللَّه" والآخر: "من لم يشكر الناس لم يشكر اللَّه". وفي حديث النُّعمان بن بَشِير أنَّ النَّبيّ ﷺ قال: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر اللَّه. والتحدُّث بنعمة اللَّه شكر، وتركِهِ كُفْر" الحديث في إسناده الجراح بن مليح والد وكيع تكلَّم فيه بعضهم، والعمل على توثيقه وأخرج له مسلم. وفي حديث الأشعث بن قيس الكندي: "إن أشكر الناس للَّه أشكرهم للناس" أخرجه أحمد بن منيع في مسنده. قلت: ورد بذلك لكونه أجرى النعمة على يديه فيكون شكرك إيّاه داعيًا له إلى أن يزيد من فعل الخير ولك أن تشكر الفاعل بالحقيقة الذي هو الربُّ تعالى ولغير ذلك من الأسباب التي لا غرض الآن في شرحها، فعليكَ شكره لأجل أمر اللَّه تعالى لا لاعتقاد أنه فاعل. بل لو شكرته بذلك الاعتقاد كنت مشركًا لا شاكرًا. فاشكره واعلم أنَّه لا ينفع ولا يضر، وأنَّه ربَّما تغيَّر عليك بأيسرِ الأسباب، وانقلبَ حبه بغضًا، ومالت تلك الدواعي وتبدَّلت بضدِّها. وإنَّما المحسن الذي لا يتغير ولا يحول ولا يزول رب الأرباب. والواسطة بين الخلق والحق الذي هو بنا رؤوفٌ رحيم لا تتغيَّر حالته محمد المصطفى ﷺ. فلا فاعلَ إلَّا اللَّه ولا سبب لخير إلَّا نبيه المصطفى الأمين خير الخلق أجمعين محمد سيد المرسلين والنبيين، عليه أفضل الصلاة والسلام من ربِّ العالمين.
فإذا استقرَّت هذه القاعدة عندك بحيث صرت تتلقَّى كل ما يأتيك من اللَّه تعالى لا من أحد من خلقه فهذا شكرٌ عظيم للنعمة وهو أعظم أركان الشكر، ولذلك أطلق عليه كثير من المحققين أنَّه نفس الشكر، حيث قالوا: الشكر الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع. وإنَّما أطلقوا عليه ذلك لكونه أعظم الأركان، كما في قوله ﷺ: "الحجُّ عرفة" و"الندم توبة" ونحوَ ذلك. أخبرنا داود بن سليمان بن داود الآباري إذنا أخبرنا عم أبي أبو الطاهر يوسف بن عمر بن يوسف سماعًا أنا بركات بن إبراهيم الخُشُوعيّ أنا هبة اللَّه بن الأكفاني أنا أحمد بن عبد الواحد بن محمد، ومحمد بن عقيل بن أحمد قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان بن أبي الحديد أنَّا أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطيّ السَّامرِّي
1 / 14
ثَنا (١) يحيى بن أبي طالب ثنا علي بن عاصم ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني قال: قال موسى ﵇ يوم الطور: يا رب إن أنا صلَّيت فمن قِبلِك، وإن أنا تصدَّقت فمن قِبَلك، وإن أنا بلَّغت رسالتك فمن قِبَلِك، فكيف أشكرك؟ قال: (يا موسى الآن شكرْتَني). وفي لفظ: إذا عرفت أنَّ النعم مِنِّي فقد رضيتُ بذلك منك شكرًا. وهذا حق فجميع ما نتعاطاه باختيارنا نعمة من اللَّه تعالن علينا؛ إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا ودواعينا وسائر الأمور التي هي أسباب حركاتنا وسكناتنا من خلق اللَّه ونعمته فنحن نشكر بنعمته نعمته. وإلى هذا المنزع أشارَ خطيب العلماء الشافعيّ ﵁ حيث قال: الحمد للَّه الذي لا يؤدَّى شكر نعمة من نعمه إِلَّا بنعمة منه توجب على مؤدِّي ماضي شكر نعمه بأدائها نعمة حادثة يجب عليه شكرها ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته؛ الذي هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه. انتهى وأنشد محمود الورَّاق لنفسه:
إذا كان شكري نعمة اللَّه نعمة ... عليَّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إِلَّا بفضلهِ؟ ... وإن طالت الأيام واتصل العمر
ولم يزد العلماء في هذا الركن أكثر ممَّا ذكرناه. وعندي أنَّه يتعيَّن على ذي النعمة أيضًا أن ينظرَ إليها -وإن قلَّت- بعينِ التعظيم، لكونها من قِبَلِ اللَّه تعالى؛ فإنَّ قليله لا يُقال له قليل، وإلى نفسه بالتحقير بالإِضافة إليها معترفًا بأنه ليس أهلًا لها وأن أصله نطفة من منيّ تُمْنَى (٢) وقد وصَّله اللَّه إليها لا باستحقاق عليه بل بفضل منه ولا يخفى عليك أن من وصلت إليه هدية من ملك فاستقلَّها ولم يعبأ بها فإنَّ الملك ينقم عليه ويشدِّد عقوبته، ويأخذ في نفسه منه، ويمنع عنه العطاء؛ وإن استعظمها واستحقرَ نفسه بالنسبة إليها فإنَّ الملك يحب ذلك منه، ويحمله هذا الأمر على إسداء نعمة أخرى. والربُّ تعالى لا تخفى عليه خافية. فمهما وقع في
_________
(١) هو اختصار من حدثنا.
(٢) تمنى: تصب وتراق عند الجماع. وهذا اقتباس من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ الآية ٣٧ من سورة القيامة. وقرأ الجمهور (تمنى) على أنَّه وصف لنطفة، وقرأ حفص وآخرون (يمنى) على أن الجملة وصف (منى).
1 / 15
نفسك فهو مطلع عليه: فإن وقع في قلبك استقلالها فإنَّه يخشى عليك زوالها وافتقارك إليها، وإن وقع في نفسك استعظامها فأبشر بدوامها والازدياد. سمعت الشيخ الإِمام ﵀ يقول: أعطَيْت بعض الناس عطاء فاستقلَّه فعلمت أن اللَّه يسلبه إيّاه ويحوجه إليه. فإن قلت: ما علاج هذا الداء؟ فإنَّ كثيرًا من الناس يعطون ما يرونه قليلًا بالنسبة إليهم؟ قلت: علاجه أن ينظر إلى نفسه ويرى هل يستحق على اللَّه شيئًا! وما أصله؟ وكيف وصل إلى ما وصل؟ فما من أحد يعتبر حاله من أول منشئه إلى إيصال النعمة التي هو فيها مفكِّر ولها مستقلٌّ إلَّا ويجدها نعمة ليست في حسابه وكثيرةً عليه. فهذا دواء من أدوية هذا المرض. ودواء آخر وهو أن تأخذ النعمة من اللَّه تعالى وتعلم أن العظيم إذا أسدى إلى عبده الحقير معروفًا وإن قلَّ فقد ذكره. وما حقرك من ذكرك، وما ذكرك الكريم إلَّا وفي نيّته أن يَجْبرك. فتلقَّ ما يأتي منه بالبشرى، واحذَر الأخرى. وإن كان ما أسداهُ إليكَ قليلًا عليك فهو بالنسبة إلى أنَّه من عطائه كثير عليك، وبالنسبة إلى أنَّه طريق إلى عطاء آخر أكثر منه إذا شكرته كثير أيضًا. وإنَّما يجيئك الاستقلال من نظرك إلى النعمة دون المنعم. ونحن نضرب لك مثلًا فنقول: الملك إذا عزم على السفر وأنعمَ على بعض حاشيته بفرس، ففرحه بالفرس يُفرَض على وجوه: أعلاها أن يفرح بها لأنها طريق إلى خروجه في خدمة الملك ونزوله بقربه، وحلوله منه بالمنزلة الدانية، وصيرورته من الخاصَّة بعد أن كان من العامَّة. فهذا فرحه بالفرس لأنها طريقٌ إلى مشاهدة الملك ومنادمته، لا لأنها فرس. ودون هذا أن يفرح بالفرس لا لكونها فرسًا، ولكن لما يدل عليه من عناية الملك به، وذكره له وشفقته عليه. فهذا يفرح بها لا لكونها فرسًا بل لأمور أخر تترتَّب عليها. وأخسَّها وأحقرها أن يفرح بها لكونها فرسًا يركبها. فهذا إنَّما فرح بالفرس ولم ينظر إلى المعطى، ولا فرق عنده بين أن يكون الملك هو الذي أعطاه، أو أن يجد الفرس في الصحراء. وثمَّ وجه رابع: وهوأن يفرح بها لمجموع هذه الأمور: فيفرح بها لأنها توصّل إلى منادمته الملك، ولأنها تُؤْذن بغيرها، ولأنها تنفعه. فهذا أيضًا لا بأسَ به، ولكنه دون المقام الأوَّل؛ لأن الأول لا غرض له إلَّا الملك وحده، ولكن ذاك مقام عال يترفَّع عن هِمَم أكثرِ أهل الدنيا الذين وضعنا لهم هذا الكتاب فلذلك لا نطنب في شرحه، وإنَّما نقتصر على إفهام الأكثر؛ حتى إذا حصلوا على
1 / 16
ما نودِعه في هذا الكتاب ترقوا منه إلى النظر في المقام الأعلى فباب الرحمة مفتوح، والربُّ منادٍ فأين المشمّرون!
وأمَّا اللسان فالمراد منه حمد اللَّه تعالى عليها والتحدُّث بها بقوله تعالى: ﴿وأَمَّا بِنِعْمَةِ ربِّكِ فَحَدِّثْ﴾ (١) فيتحدَّث بها لا لرياء وسمعة وخيلاء، بل للثَّناء على الرب ﵎. بيان جماعة من السلف يجلسون فيتطارحون حديث نعمهم حتى ينتهي مجلسهم وهم على ذلك. وذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري أنَّ بعضهم قال: رأيت في بعض الأسفار شيخًا كبيرًا قد طعنَ في السن، فسألته عن حاله فقال: إنِّي كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي، وهي كذلك كانت تهواني فاتَّفق أنَّها زُوّجت مني؛ فليلة زفافها قلنا: تعالي حتى نحيي هذه الليلة شكرًا للَّه تعالى على ما جمعنا. فصلَّينا تلك الليلة ولم يتفرَّغ أحد منا إلى صاحبه. فلمَّا كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك. فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الحالة. أليس كذلك يا فلانة! فقالت العجوز: كما يقول الشيخ. فهذا الشيخ تحدَّث بنعمة اللَّه تعالى عليه الذي ألهمه لهذا الشكر العظيم. وذلك أيضًا من الشكر. وروي أنَّ وفدًا قدموا على عمر بن عبد العزيز ﵀ فقام شابّ ليتكلَّم. فقال عمر: الكُبْر (٢) الكبر. فقال: يا أمير المؤمنين: لو كانَ الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسَنُّ منك. فقال: تكلَّم. فقال: لسنا وفد الرغبة، ولا وفد الرهبة: أمَّا الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك، وأمَّا الرهبة فقد آمَننا منها عدلك. وإنَّما نحن وفد الشكر جئناك نشكرك باللسان. والأخبار في هذا كثيرة، وليس استيعابها من غرض كتابنا.
واعلم أنَّ هذين الأمرين أعني الشكر بالجَنَان واللسان يشملان كل نعمة. ونسبة النعم إليهما على حد سواء. وأمَّا الأفعال فالمُراد منها امتثال أوامر المنعِم واجتناب نواهيه. وهذا يخصّ كل نعمة بما يليقُ بها. فلكلِّ نعمة شكر يخصُّها. والضابط أن تستعمل نعم اللَّه تعالى في طاعته وتتوقَّى من الاستعانة بها على
_________
(١) سورة الضحى الآية ١١.
(٢) الكبر الأكبر. والكبر منصوب أي قدموا الكبر
1 / 17
معصيته. فليس من شكر النعمة أن تهملها وتشكر على وجه غير الوجه الذي عليه بُنيت. فمن عَدَلَ عنها إلى نوعٍ آخر من الشكر فقد قصَّر، وترك الأهم. وإنَّما الرشيد من جمعَ بين الأمرين. فإن كان لا بدَّ من التفرقة فالأنسب استعمال كل نعمة فيما خلقت له، وهذا يتَّضح بأمثلة:
المثال الأول
من شكرَ نعمة العينين أن تستركل عيب تراه لمسلم وتغضّهما عن كل قبيح إلى غير ذلك من أحكام النظر. فإن أنتَ أخذت تصلِّي كل ليلة ركعتين على شكر نعمة العينين؛ وأنت مع ذلك تستعملهما في النظر إلى المحرَّم، فلستَ بشاكرٍ هذه النعمة حقَّ شكرها.
المثال الثاني
من شكرَ نعمة الأذنين ألَّا تسمع حرامًا، وأن تستر كل عيب تسمعه. فإن أنت تصدَّقت بدرهمين شكرًا للَّه تعالى على نعمة الأذنين وهتكتَ كل قبيح سمعته وأصغيت إلى كلِّ حرامٍ وَعَيته فلستَ من الشاكرين.
المثال الثالث
وهو يشمل الخليفة فمن دونه من السلطان ونوَّابه والقضاة وسائر أرباب الأمور. وسنخصّ لكل فرد منهم مثالًا.
إذا ولَّاك اللَّه تعالى أمرًا على الخلق فعليك البحث عن الرعيَّة، والعدلَ بينهم في القضية، والحكم فيهم بالسويّة، ومجانبة الهوى والميل، وعدم سماع بعضهم في بعض، إلَّا أن يأتي بحجة مبينة وعدم الركون إلى الأسبق. فإن وجدت نفسك تصغي إلى الأسبق وتميلُ إلى صدقه؛ فاعلم أنك ظالم للخلق، وأنَّ قلبك إلى الآن متقلّب مع الأغراض يُميله الهوى كيف شاء. وإن وجدت الأسبق والآخر سواء إلَّا من جاء بحق فأنت أنت. وقد اعتبرتُ كثيرًا من الأتراك فوجدتهم يميلون إلى أول شاكّ. وما ذاك إلَّا للغفلة المستولية على قلوبهم، التي
1 / 18
صيّرت قلوبهم كالأرض الترابية التي لم تروَ بالماء فإذا أتاها ماء رويت: سواء أكان ذلك الماء صافيًا أم كدرًا زُلالًا باردًا أم كدِرًا حارًّا. ثم إذا رويت، وجاء ماء آخر صافٍ حسن لم تشربه، وصار مائعًا عليها. فهذه هي القلوب الغافلة عن الحقّ نسأل اللَّه السلامة. فعليك شكر نعمة الولاية بما ذكرناه وأن تعرف أنك أنت والرعيّة سواء لم تتميز عنهم بنفسك، بل بفعل اللَّه تعالى الذي لو شاءَ لأعطاهم ومنعك فإذا كان قد أعطاك الولاية عليهم ومنعهم فما ينبغي أن تتمرّد وتستعين بنعمته على معصيته وأذاهم، بل لا أقلّ من أن تتجنب أذاهم وتكفّ عنهم شرّك وتجانب الهوى والميل والغرض بنعمة الولاية لا تطلب منك غير ذلك. ولو أنك تركت الناس هملًا يأكل بعضهم بعضًا وجلست في دارك تصلّي وتبكي على ذنوبك لكنت مسيئًا على ربك. فملِكك لم يطلب منك أن تتهجد بالليل ولا أن تصوم الدهر وإنَّما يطلب منك ما ذكرناه. فإن ضممت إليه أعمالًا أخر صالحة كان ذلك نورًا على نور، وإلَّا فهذا هو شكر نعمة الولاية التي بها تدوم. ولعلَّك تقول: فإن قمت بحقوق الرعية مع التقصير في حق اللَّه تعالى هل أنا محمود؟ فاعلم أنك محمود من تلك الجهة، مذموم من هذه الجهة، وتيقَّظ لأمر عظيم نُنبهك عليه. وهو أن مَن هذا شأنه يخشى عليه إن هو زاد من التقصير في جانب اللَّه تعالى أن يُظلم قلبُه ظلامًا يورث الطَبْعَ (١) على قلبه، وينشأ عنه التقصير في تلك الجهة الأخرى، فيصير مذمومًا في الجهتين. فلا يخطر لك أنَّه يمكن اجتماع التقصير في حق اللَّه تعالى من كل وجه، والقيام بحق العباد من كل وجه، بل هذا مستحيل عادة؛ فقد جرت عادة اللَّه ﷾ بأن من أهمل جانبه من كل وجه سُلِّط عليه الشيطان فاستولاه واستزلَّه وصيَّره يضيع جانب العباد أيضًا. ومن رشيق عبارات الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه؛ وقد ذكر أنَّ الرشد صلاح الدين والمال معًا: من ضيَّع حق اللَّه تعالى فهو لما سواه أضْيَع. فعليك أن تتعهد نفسك بالعبادة ومراقبة الحق. وليس مقصدنا الآن البحث عن هذا؛ إنَّما الذي عقدنا له
_________
(١) الطبع على الشيء: الختم عليه حتى لا ينفذ شيء إلى باطنه، وطبع اللَّه على القلب مجاز عن ألَّا يصل إلى القلب شيء من الهدى ونور الإِيمان. ويصح أن يقرأ: الطبع بالتحريك وهو الصدأ أو الدنس.
1 / 19
الفصل أن ذا النعمة يجب عليه اعتقاد أنها من اللَّه تعالى، وحمد اللَّه عليها والوفاء بحقها. وقد جمع الشاعر هذه الأمور في قوله:
أفادتكم النعماءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضميرُ المحجبا
والشاعر وإن لم يقل: إن هذا شكر فقد جمع أصنافه. وقد بيَّنا لك أن مجموعها الشكر. ومن كلامهم: الشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، وثناء اللسان، والمكافأة بالفعل. والتعبير بالمكافأة عندي غير سديد؛ فإن أحدًا لا يقدر على مكافأة المنعم بالحقيقة. وإنَّما المعنيّ به استعمال الجوارح بقدر الاستطاعة في التكاليف حسبما شرحناه.
المثال الرابع
إذا كنت مقبول الكلمة عند ولي الأمر فالمطلوب منك أن تنصحه، وتنهى إليه ما يصحّ ويثبت عندك من حال الرعايا، وتساعد عنده على الحقّ بما تصل إليه قدرتك. ولا يكن حظّك منه الاقتصار على حُطَام تجمعه لنفسك أو دنيا تضمها إليك؛ فإن ذلك سبب زواله عنك بل المقتضى لدوام ما عندك منه ما ذكرناه من النصيحة والمساعدة في الحق؛ لتدوم لك نعمتُه التي هي سبب نعمتك، ومودَّته التي بها وَصَلت إلى ما وصلت، وليدوم لك منه ما أسده إليك. وما أحمق من كانت له كلمة نافذة عند وليّ أمر فوجد مظلومًا يستغيث فقام يصلِّي شكرًا للَّه تعالى على أن جعله ذا كلمة نافذة عند ولي الأمر، وترك المظلوم يتخبطه الظلم ولا يجد منجدًا، وهو قادر على إنجاده. فذاك الذي صلاته وبال عليه؛ كما قال الفقهاء فيمن كان يصلِّي فمرَّ به غريق تتلاطمه أمواج البحر، وهو قادر على إنقاذه، فإنه يجب عليه قطع الصلاة وإنقاذه. وذاك وهذا سِيّان.
واعلم أنَّ هذين المثالين أعني الثالث والرابع يشملان كل وليّ أمر، وكل مقبول الكلمة عند وليّ أمر: صغير أو كبير. ونحن نرى أن نحضَّ غالب الناس بأمثلة تستوعب معظم الوظائف التي استقرَّت عليها قواعد المسلمين في هذا الزمان، ونذكر ممَّا يطالب به صاحب تلك الوظائف يوم القيامة، ويخشى عليه في الدنيا والدين سوء العاقبة بسبب التفريط فيه، ما يكون موقظًا له من سِنَّة الغفلة
1 / 20
ومرشدًا إن شاء اللَّه تعالى، لعلَّ اللَّه ينفع به أقوامًا.
المثال الخامس
السلطان أعني الإِمام الأعظم. وقد أكثر الفقهاء في باب الإِمامة، وأفردَ كثيرون منهم الأحكام السلطانية بالتصنيص. ونحن ننبِّه على مهمات أهملها الملوك أو قصَّروا فيها. فمن وظائف السلطان تجنيد الجنود، وإقامة فَرْض الجهاد لإِعلاء كلمة اللَّه تعالى؛ فإن اللَّه تعالى لم يولِّه على المسلمين ليكون رئيسًا آكلًا شاربًا مستريحًا. بل لينصر الدين ويُعلِيَ الكلمة. فمن حقِّه ألَّا يدع الكفار يكفرون أنعُم اللَّه ولا يؤمنون باللَّه ولا برسوله. فإذا رأينا ملكًا تقاعد عن هذا الأمر، وأخذ يظلم المسلمين، ويأكل أموالهم بغير حق، ثم سلبه اللَّه نعمته وجاء يعتب الزمان، ويشكو الدهر، أفليس هو الظالم، وقد كان يمكنه بدل أخذ أموال المسلمين وظلمهم أن يقيم جماعة في البحر يتلصصون أهل الحرب؛ فإن كان هذا الملك شجاعًا ناهضًا فليرنا همته في أعداء اللَّه الكفار، ويجاهدهم ويتلصّصهم، ويُعمل الحيلة في أخذ أموالهم حِلًّا وبِلًّا ويدع عنه أذيّة المسلمين.
ومن وظائفه أن ينظر في الإِقطاعات، ويضعها مواضعها، ويستخدم من ينفع المسلمين، ويحمي حوزة الدين، ويكفّ أيدي المعتدين. فإن فَرَّق الإِقطاعات على مماليك اصطفاها وزيّنها بأنواع الملابس، والزراكش المحرَّمة، وافتخرَ بركوبها بين يديه، وترك الذين ينفعون الإِسلام جياعًا في بيوتهم، ثم سلبه اللَّه النعمة، وأخذ يبكي ويقول: ما بالُ نعمتي زالت، وأيامي قصرت! فيقال له: يا أحمق، أما علمت السبب! أَوَلست الجاني على نفسك!
ومن وظائفه الفكرة في العلماء والفقراء وسائر المستحقين، وتنزيلهم منازلهم، وكفايتهم من بيت المال الذي هو في يده أمانة عنده، ليس هو فيه إلَّا كواحد منهم، ولدلوه نسبة دلاء المسلمين، فإن ترك العلماء والفقراء جياعًا في بيوتهم، يبيتون ومنهم من يطوي الليلة والليلتين هو وعياله، وأخذَ يمنّ بعظيم مُلكه ومحاسن سماطه وزينته ولباسه ولباس حاشيته، فذلك أحمق جهول. وإن ضمَّ إلى هذا أنَّه استكثر على الفقهاء ما بأيديهم، وتعرَّض لأوقاف وقفها أهل
1 / 21
الخير ممَّن تقدمه عليهم، فهو بلاء على بلاء. فإنَّ من حقه أن ينظر في مصالحهم وأوقافهم، وألَّا يكلهم إليها. بل يرزقهم من بيت المال ما تتم به الكفاية. فإذا تعرَّض لها فقد خرق حجاب الهيبة. فإن ضمَّ إلى ذلك أنَّه يبيعها بالبِرْطيل، ويضعها في غير مستحِقّها فما يكون جزاؤه!
ومن وظائفه بيت مال المسلمين. وقد قدَّر الشارع المصارف فيه، وجعل لكلّ مال أقوامًا وقدرًا. فإن تعدَّى هذا كله، وصرفه في شهواته ولذَّاته، وحسب أن المُلك عبارة عن ذلك، فلا يلوم إلَّا نفسه. وإذا جاء سهم رباني لا يستوحش؛ فإن أخذ يصرف الأموال على خواصّه ومن يريد استمالة قلوبهم إليه لبقاء ملكه، لا لإِعزاز الدين، وأعجبه مدائح الشعراء لكرمه، فذلك خُرْقٌ وقد امتلأت التواريخ ممَّن كان يهب الألوف للشعراء، والألوف للمماليك، والألوف للمغاني (١) وكل ذلك وبال على صاحبه فقد كان بيت المال في زمن عمر بن الخطاب ﵁ أضعاف ما هو اليوم بما لا يحصى كثرة، وفتح اللَّه عليه من الفتوحات ما أمره مشهور، وجاءه مع ذلك أعرابيّ يستمنحه فقال:
يا عمرَ الخيرِ جُزيتَ الجنّة ... اكسُ بُنيَّاتي وأمّهنّه
وكن لنا من الزمان جُنَّه ... أُقسِم باللَّه لتفعلنَّه
فلم يرتح لترققه، ولا راعه قسمه عليه؛ بل قال: فإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:
* إذن أبا حفص لأذهَبَنَّه *
فقال: وإذا ذهبت يكون ماذا؟ فقال:
يكون عن حالي لتسألنَّه ... يوم تكون الأعطيات هنَّه
وموقف المسؤول بينهنَّه ... إمَّا إلى نارٍ وإمَّا جنَّه
فلمَّا ذكر له الجنة والنار، والموقف بين يديّ المولى الجبار، بكى حتى
_________
(١) هو جمع مغنى بمعنى الغناء، ولم نقف على هذا في اللغة. إنَّما المغني: المنزل. وقد يريد به جمع مغنٍّ على طرح زيادة التضعيف، وإن كان بعيدًا في القياس.
1 / 22