Проблемы современной цивилизации
معضلات المدنية الحديثة
Жанры
هذا ما يعني بنصف قرن من الزمان، في بدايته استمكنت تلك الصورة العلمية الرائعة الجمال من نفس دكتورنا الفقيد - رحمه الله - فقام يدافع عنها بقلمه ولسانه، والناس بعيدون عن أن يدركوا ما انطوت عليه تلافيف دماغه من صور الجمال العميق الثابت، لا الجمال الذي تحمله الكلمات والألفاظ والجمل التي قد تؤدي معنى ما أو لا تؤدي، جمال العلم الثابت الذي هو أشبه بجمال الطبيعة، يخلد ما بقيت صوره الخالدة السرمدية.
الصورة الفردية التي تكونت في ثنايا ذلك الذهن الإنسكلوبيذي الكبير لم تصبح اليوم صورة فردية، بل أخذت تمتد إلى العقول وتغزو الأفكار، كلا، بل غزت عقولا ولقحت أفكارا. وذلك الجمال الذي كونه عقل الأستاذ منذ نصف قرن من الزمان أخذت صوره تنتقل صورة بعد أخرى إلى أذهان أهل الشرق.
على أن لهذا الجمال آثاره العملية البعيدة في إدراك الناس، فليس هو بالجمال الأجوف الرنان الذي يبعث به الشعر، ولا هو بالجمال الذي تعطيه الألفاظ رونقا موقوتا تمحى صوره إذا تراكمت عليها أتربة الزمان، بل هو الجمال المتجدد الدائم، هو النبع الذي يفيض بإكسير الحياة، عجز عن العثور عليه الرواد في صدر التاريخ الحديث، وعثر عليه العلماء في أواسط القرن التاسع عشر، أليس في نقل هذه الصور العلمية عن طريق علم الحياة أثر خالد يخلفه لنا صروف العالم؟ (2-4) تغيير أساليب الفكر
في أوائل القرن الثامن عشر لمع في أوروبا نجم جديد أخذ الناس سناه، لمع في جو فرنسا نجم الفكرة الإنسكلوبيذية بعد أن كاد يأفل ذلك النجم أفول غيره من شموس الفكر المضيئة التي لمعت ثم خبت نارها على مر الزمان، غير أن هذا النجم لم يرسل بأشعته لتبقى وتضيء العالم، بل لمع بهيا زاهيا وكأنه يودع العالم الوداع الأخير، فكان ذلك آخر عهد للفكر الإنساني به.
بزغ هذا النجم في العصر الروماني، وظل قويا خلال القرون الوسطى، ثم زاده اللورد باكون سناء وقوة إشعاع، وفاضت أنواره في أوائل القرن الثامن عشر، وكانت أعمال سبنسر آخر ما بذل من جهد ليبقى ذلك النجم ساطعا في سماء الفكر، ولكن حم قضاؤه ونزلت به صاعقة الموت على يد النشوئيين.
ومن الغريب أن الاتجاه الإنسكلوبيذي في جمع المعرفة وحصرها، قد ملك زمام كل الأمم التي عنيت بالعلم والآداب في عصر ما من عصورها، فإن هذا الطور بنفسه قد مر به العرب، فكانت مدوناتهم وكتبهم الأدبية والتاريخية بل معاجمهم عبارة عن صور إنسكلوبيذية، تقل أو تزيد قيمتها باختلاف الأحوال. ولست أدري بماذا نعلل هذه الظاهرة، غير أنها ظاهرة ملموسة الآثار في التاريخ الفكري على كل حال.
وكان للسياسة أكبر الأثر في جذب مصر وسوريا إلى ناحية فرنسا، وهذه الفكرة لا تزال شديدة الأثر في العقول وفي الآثار العلمية. كان لنا أن نلجأ إلى فرنسا التي تظاهرت بصداقتنا منذ نيف ومائة عام، لنصد بهذه الصداقة تيار الاستعمار الأنجلوسكسوني عن الشرق، ولهذا السبب وحده تظاهرت فرنسا بالصداقة لسوريا، ليكون لها قاعدة تقاوم بها نفوذ إنكلترا التي بسطت سلطانها على الرجل المريض - تركيا - قضاء لمآربها. ومن هذا الطريق ذاعت صور الثقافة الفرنسوية في مصر وسوريا، وكان من أثر هذا أن انتقل إلينا أسلوب الفكر الإنسكلوبيذي لا بكل حسناته وسيئاته بل بسيئاته وحدها.
لم يحفزنا نقل هذا الأسلوب إلى تدوين العلوم الحديثة ولا إلى نقلها فنتخذها في الحياة العلمية أساسا، بل حفزنا إلى أخذ الصور الإلحادية التي أذاعها فولتير وديدرو وغيرهما من زعماء فرنسا في العصر الإنسكلوبيذي، فتخالطت بذلك الصور وتلاشت أساليب الفكرة العلمية، ومضينا نتخبط في هذه الدياجير حتى إذا أسلم بنا الزمان إلى أواخر القرن التاسع عشر واتجهت الفكرة إلى نشر المذهب النشوئي، أخذت العقول سمتا جديدا حولتنا إليه الفكرة الأنجلوسكسونية في الحياة. وعندي أنها ليست فكرة في الحياة، بل هي الحياة بذاتها مصورة على ما يجب أن تكون الحياة الإنسانية في أخص حالاتها العملية، بل إن هذه هي نقطة الانفصال الحقيقي بين القديم والحديث في تاريخ الشرق العربي كله.
لا تعطيك الفكرة الإنسكلوبيذية في الحياة إلا صورة مما تقع عليه في تلك المعاجم الضخمة المشتتة المرامي التي أخرجتها جهود الإنسكلوبيذيين، فإنه من الصعب أن تقع في جماع تلك المجلدات الضخمة على مبدأ ينير للحياة سبيلها ويرسم لها قصدها وغايتها، وما الحياة إذا لم يكن لها قصد وغاية؟
في وسط هذه الفوضى التي نقلها الفكر الشرقي عن فرنسا أشعت أول الأقباس المضيئة منقولة عن النشوئيين في إنكلترا. والحق أنه لا يجدر بنا أن ننسى فضل جامعة بيروت الأمريكية في توجيهنا هذا التوجيه الذي كانت أساسه الحرية الفكرية المطلقة من كل القيود الثقيلة التي ربطتنا بالماضي على اعتقاد أنها النهاية التي لا يمكن أن نبلغ أكثر منها، فبين جدران هذه الجامعة قامت فكرة النشوء في عقل أستاذنا الكبير، وما أفلتت من بين هذه الجدران إلا لتملأ العالم الشرقي ضياء وتفيض عليه بفيوضها الحيوية.
Неизвестная страница