Проблемы современной цивилизации
معضلات المدنية الحديثة
Жанры
لقد تغيرت الفكرة في القانون تغيرا كاملا في الحضارة الرومانية، فمن فكرة فيه على أنه شيء يجب أن يطاع، لأنه مجرد إرادة شخص أو ذات سادت على الناس ولها من القوة ما تستطيع به أن تفرض عقابا على كل من يحاول الاعتداء على قانونها الإرادي؛ إلى فكرة سامية توحي إلى الناس بأن القانون إنما يمثل تلك الإرادة العامة أو الإدراك العام المستمد من روح الجمعية الإنسانية، وأن الخضوع للقانون إنما هو خضوع للحاجات التي تتطلبها مصالح الأفراد والجماعات، أو هو عبارة عن أسلوب من المكافأة بين الحالات الاجتماعية ومقتضيات الواقع المحسوس.
وبعد أن تغير النظر في القانون وأصبح لأول مرة في تاريخ الدنيا قائما على هذا الأساس الاشتراكي الثابت، ظهرت نتائج عديدة ظلت مؤثرة أثرها المحتوم في كل ما ظهر في النظام الاجتماعي الحديث من الصور، ولقد مضت تلك النتائج ملابسة لمرافق الحضارات منذ بداءة العصر الروماني، وما كنت لترى لها من أثر في كل المدنيات التي قامت وفنيت فوق هذه الأرض من قبل.
كانت أول تلك النتائج الاعتقاد بأن القانون شيء فيه مطاوعات الاشتقاق والنشوء، وأنه ليس بالشيء الجامد المستمد من مصادر ليس للعقل ولا للإرادة الإنسانية أن تمتد إلى آثارها بتبديل أو تغيير. فإن الاعتقاد بأن القانون ليس سوى ذلك التصور الذي يقوم عليه ما نسميه العدل، وأنه ليس بحق الأقوى في فرض إرادته على غيره، قد أدى بالناس إلى معتقد آخر محصله أن القانون شيء ينمو وينشأ على مقتضى الحالات والبيئات، وأنه لا بد من أن يمضي متغيرا حتى تتم الألفة بينه وبين ما يتطلع إليه الناس من بلوغ الغاية المثلى في الآداب العامة.
أما تصور القانون خلال المدنيات القديمة برمتها فكان على نقيض التصور الروماني، فإن القانون في تلك العصور لم يخرج عن أحد أمرين: فإما مجموعة من مختلف الإرادات يفرضها تعصب الفاتحين والأمراء المستبدين بأمرهم، وإما مجموعة من الأوامر والنواهي تستخلص من عالم الغيب تصورا، وتؤخذ على أنها إرادة الآلهة الموكلين بأمر هذا العالم. من هنا ذاع الرأي بأن القانون شيء ثابت لا ينتابه تغير ولا يعتريه تبديل أبدا، وما ذاع هذا الرأي إلا مطاوعة للاعتقاد بأنه النتيجة المباشرة لما تفرضه القوة المتسلطة على رقاب الناس. أما مضى الجماعات قانعة بأنها ملزمة بطاعة القانون فلم يكن راجعا إلى الاعتقاد بأن ذلك مساير لمقتضى الحق والعدل، بل لأن القوة التي تفرضه عليهم لا يمكن مقاومتها، لهذا ظل القانون طول الأعصر التي سبقت العصر الروماني تقليدا جامدا مواتا، لا تغيير ينتابه ولا تبديل يغشاه.
على هذا مضى الإنسان خاضعا لحكم الوراثة والتقليد الذي خرج به عن قانون الجمعيات الإنسانية في عصور الهمجية الأولى، وظلت الجماعات موقنة بأن القانون تفرضه عليهم إرادة خارجة عن إرادتهم، وأن الواجب عليهم إطاعته، لا لأنه حق وعدل بل لأنه تنفيذ لإرادة الأقوى، حتى ظللت العالم مدنية الرومان بظلالها الوارفة، وحينذاك تغيرت الفكرة في القانون، وعلى أثر الرومان سارت الجمعيات البشرية الراقية في كل عصور الحضارات الحديثة. على أن هذا لا ينافي القول بأن اليونان أول من فرخت في عقولهم جرثومة التشريع على قواعد مبتكرة.
هنالك نتيجة أخرى اقتضاها تغير الفكرة في القانون، فإن الجماعات التي تنظر في القانون نظر القانع بأنه ليس خاضعا لإرادة الأفراد ولا لسلطان الأثرة والقوة، ولا لموحيات الغيب، بل تنظر فيه على أنه أداة ينميها العقل وتقضي بها حاجات الاجتماع، وبذلك يصبح خاضعا للنماء قابلا للنشوء؛ لا بد من أن تشفع هذا الاعتقاد بآخر مكمل له، هو أن القانون إنما تلده الآداب العامة، وأن الآداب ليست نتاجا للقانون، فإن القانون أينما نظر فيه نظرة اليقين بأنه شيء قابل للنشوء خاضع للارتقاء، فلن تجده إلا سائرا في سبيل يكافئ من ناحية بين خصائصه الكامنة في تضاعيفه وبين ما تتطلب الآداب العامة من المبادئ خلال كل عصر من العصور. غير أن القانون لا يطفر مطلقا إلى الغايات والمثل التي ينشدها الفلاسفة، ويدعو إليها الخياليون، بل يمضي في هوادة الحكمة وتؤدة النشوء مسايرا لمطاليب الآداب العامة يمثلها السواد الأعظم في جماعة ما، تاركا تصورات الغايات والمثل العليا محصورة في عقول الطبقات المنتقاة.
وبعد أن بلغت الفكرة في القانون هذا المبلغ، وأصبح القانون عبارة عن قوة معنوية تمثل تلك الصور التي تستحيل إليها الآداب العامة في جماعة ما؛ سايرت الفكرة في طاعة القانون مقتضى ذلك الحال، فحملت على ناحية الاقتناع باحترامه لذاته لا لشيء آخر، وأضحت القوات القائمة على صيانة القانون مسخرة لدى الواقع للمحافظة على مصالح الأغلبية الخاضعة له ضد الأقلية الخارجة عليه.
أما النتيجة الثالثة التي اقتضاها تغير النظر في القانون، فشعور الناس بأن القانون، وقد أصبح الحارس المسخر لصيانة مصالح الجماعة، القائم حفيظا على كيانها وحقوقها؛ شيء مقدس يجب أن يبذل كل فرد ما يستطيع في سبيل حمايته، حذر أن تجتاحه نزعات فاسدة تتحكم فيه بمثل ما تحكمت في العصور الأولى. وعلى مقتضى ذلك لم يصبح القانون قوة عمياء تتسلط في رقاب الناس ومصالحهم تسلط الاستبداد والعسف، بل أصبح منفعة عامة من حق كل فرد أن يدافع عنها بالوسيلة التي يراها ناجعة إذا ما امتدت إليها يد طامعة تحاول الافتيات على حرمتها.
ولقد تقوم فى رءوس بعض الأفراد تصورات توحي إليهم بأن ما يتطلب الخضوع للقانون من ضروب الإلزام قواسر تنافي ما تنزع به إليهم مشاعرهم. غير أنه كان لهذه الحالات السلبية نتائج عظمى، فإن الشجار الذي أحدثته ولا تزال تحدثه لم ينتجه إلا ارتقاء في الفكرة القانونية وتطور في تصورات الناس من حيث النظر في مصالحهم العامة. غير أن هذه الحالات نادرة الحدوث، وهي لندرتها لا تؤثر في الفكرة الأصلية التي تقوم عليها الحضارات من ناحية القانون، فكرة أنه ليس من المستطاع أن تبلغ مبلغا من الحضارة ثابتا، من غير أن يعتنق السواد الأعظم من أفرادها مذهب أن الالتزامات القانونية ليس معناها طاعة القانون لمجرد الطاعة القاسرة، بل معناها أن هذه الطاعة يجب أن تكون بمحض الاختيار الذاتي لا خوفا من قوة زمانية ولا روحية، وأن الدفاع عن القانون وحمايته واحد على كل فرد من أفراد الجماعة.
ولما بلغت الفكرة الرومانية في القانون هذا المبلغ تبعتها فكرة أخرى هي أن القانون ما دام عبارة عن تلك القوة التي تقوم حفيظة على مصالح الكل الاجتماعي، وأنه لا بد من أن يمضي متطورا ليحتفظ في تضاعيفه بتلك الألفة التي تتطلبها حاجات المجتمع؛ ترتب على ذلك أنه لا تمس القانون يد غير يد الأمة، أو بالأحرى يد الطبقة المنتقاة من أفرادها بعد انتخابهم على مقتضى ما تتطلب الحريات من الوسائل المشروعة.
Неизвестная страница