Проблемы современной цивилизации
معضلات المدنية الحديثة
Жанры
كم ذاع من فكر، وكم انتشر من مذهب لو حكمت عليه كما كان في عقل واضعه لحكمت بأنه ضار لا نافع، في حين أنك لو قيمته بالقياس على ما أنتج من حركة في عالم الفكر، أو على ما ساق إليه من مختلف الجهد في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وأردت أن توازن بين ذلك وبين ما فيه من خطأ؛ لأربت ناحية النفع على ناحية الضرر. إذن فالواجب أن يترك الحكم المطلق للتاريخ، أما الحكم النسبي فذلك ما في مستطاعنا أن ندلي فيه بقول أو نقضي فيه برأي.
نسوق الكلام في «نورداو» كما هو في هذا العصر، وبنسبة ما خلف من أثر في عقول أبنائه، غير عالمين ماذا يكون من أمره في المستقبل. وغاية ما في مستطاعنا أن نقول في هذا الشأن إن حكم التاريخ على «نورداو» سوف يكون حكم التطرف والمغالاة بنسبة ما حكم هو على الدنيا وعلى الجلبة الاجتماعية التي قامت من حوله، فإما إلى البقاء الخالد وإما النسيان الدائم، وكلا الأمرين عظيم؛ لأن البقاء بالأثر الفكري، إن كان خلودا، فإن في طي الشخصيات في نواحي النسيان لنوعا من الخلود؛ لأنه لا ينسى إلا من شعر الناس بوجوده، فلا نسيان إلا بعد وجود، وكفى بالمرء فخرا أن ينبه مشاعر الناس بوجوده الحقيقي ليكون خالدا. •••
كان «نورداو» حر الرأي بعيدا عن التقاليد، لذلك كان بلا دين، رجل رضي من الدنيا بأن يعيش فيها ناقدا، لا أقل من هذا ولا أكثر، وأول ما أدى به إليه نقده أن يكون بلا دين، فكذلك عاش، وعلى هذا طواه التراب.
غير أنه نظر في العالم نظرة الناقد ، فلم يأتلف مع عقله أن يكون هذا العالم بما فيه من النظام بلا صانع وأنه نتيجة الصدفة العمياء، فاعتقد بأن للكون صانعا حكيما مدبرا تبدو فيه حكمته، ولكنه استصغر على الصانع العظيم أمر الاعتناء بتلك الدابة المفكرة التي ندعوها الإنسان، فقال بأن الأديان لم تخرج إلا من عقول واضعيها، تحتاج إليها الطبيعة الحيوانية في الإنسان أكثر مما تحتاج إليها الطبيعة الفاضلة الواعية، يحتاج إليها من تقضي الضرورة إلى إرهابه بعقاب النار والعذاب المقيم، أو بترغيبه بالنصيحة الدائمة، فهو بذلك إلهي محض
Deist
لا إلهي متدين
Theist ، والأول يجحد الأديان وإنما يعتقد بالله، والثاني يعتقد بالله وبالأديان معا.
كما أن «نورداو» قد استصغر الإنسان في جانب الله، كذلك استصغر العقل الإنساني في جانب الكون، فقضى بأن العقل محدود لا يبلغ مداه إلا دائرة صغيرة من النظر، لا يصح أن يحكم من ناحيتها على العالم، مثله كمثل العمي الذين أخذوا يصفون فيلا: فمن أمسك منهم بذنبه قال إنه كالحبل، ومن لمس بطنه قال إنه كالكرة، ومن وقع على رجله قال إنه كالشجرة، فالكل صادقون على درجة محدودة، ولكنهم مخطئون على درجة غير محدودة؛ فإذا قال الفلكيون إن العالم عبارة عن قانون الجاذبية، وإذا قال الكيماويون إن العالم هو الجوهر الفرد، وإذا قال الميكانيكيون إن الكون عبارة عما فيه من سنن القوة والطاقة ... إلى غير ذلك، فليسوا مخطئين بل هم مصيبون، ولكن بنسبة ما وإلى حد محدود، في حين أنهم مخطئون؛ لأنهم حكموا حكما عاما في شيء نظروا فيه من جهة خاصة، فإذا سألت هؤلاء مثلا: لماذا يكون للجاذبية يد في نظام العالم؟ ولماذا خصت المادة بسنن الجذب والدفع؟ أو لماذا تتكون المادة من جواهر فردة؟ ما وجد هؤلاء من جواب أروح عليهم، وأخرج بهم من ضيق ما يوقعهم فيه العقل؛ إلا القول بأنها كذلك سبقت في إرادة الله. •••
إن كتاب «نورداو» الذي أكسبه شهرة التشاؤم بحق هو كتاب الفساد الأخلاقي
Degeneration ، ولكن هل كان «نورداو» متشائما حقيقة؟ ذلك ما سوف نظهره فيما سنكتب فيه بعد . غير أن نزعته في ذلك الكتاب غريبة خارجة عن تيار الأفكار التي سادت في القرن التاسع عشر، فبينما كان أكثر المفكرين يقولون بأن الإنسان يرتقي ويتقدم مستمدين من تقدم العلوم الطبيعية وتسود الإنسان على قوى الطبيعة دليلا على ذلك؛ إذ بنورداو يقول بأن الإنسانية تنحمط، وأين؟ في أوروبا، مهبط وحي العلم وعنوان المدنية الحديثة. أما البحث في الأسباب التي ساقت به إلى هذه النزعة فسيكون ختام هذا التمهيد، ومن ثم نستطرد إلى البحث في «نورداو» بحثا تحليليا؛ لنعرف هل كان متشائما أم متفائلا.
Неизвестная страница