Проблемы современной цивилизации
معضلات المدنية الحديثة
Жанры
تتخايل لنا مدنية الإغريق في إبان سطوتها فتمثل لنا آداب سقراط وروحانية أفلاطون ومنطق أرسطو وسياسة سولون وعصر بركليز، حتى إذا ما أدركها الانقسام في الداخل مقرونا بفزع الغزو الأجنبي من غربي أوروبا، تتخيلها ثانية فإذا بها كتلة موات من الأنفس البشرية تتردى في الظلام.
ولا نلبث بعد أن نرى أبناء الإغريق يتوارون وراء الأفق، أن تشرق أمامنا شمس مقدونيا الفتاة بارزة من وراء حجب الغيب؛ لتستنير بهديها كل بلاد اليونان، ولتخضع لقوتها وسلطانها.
لقد استجمعت مقدونيا تلك البقايا المفككة من الوطنية الإغريقية وساورتها ذكريات الماضي العظيم الخالد، فحركت فيها حماسة الذكرى من القومية وهزة الوطنية ما أخرج أبناءها عن حدود الغرب ليغزوا الشرق، فغزوه حتى جوف الهند، وكانوا كلما تقدموا في غزوتهم الشرقية خطوة تحطمت تحت أقدامهم التيجان وثلت العروش وتهدمت الإمبراطوريات كما تنهار الجدران المتداعية أمام الفأس، يضعها في أصولها جبار قوي الأصلاب.
غير أننا لا نلبث على ذلك برهة وجيزة حتى نمقع دبيب الفساد يدب في نواحي الإمبراطورية المقدونية وينتابها من العوامل الخفية ما يحفر من تحت عظمتها الظاهرة هوة سحيقة يتقوض في أغوارها بناؤها المشمخر، فيتناثر أجزاء وقطعا، تشع كل قطعة منها بقليل من الضوء الموروث عن الشمس المحطومة على صخور الزمان، ثم تنطفئ منها الجذوة تلو الجذوة، كمنارات الرهبان المتعبدين في رءوس الجبال المنقطعة عن العمران أن خبت نارهم فلا موقد لها.
في وسط تلك المعمعة الكبرى التي تحطمت فيها إمبراطورية مقدونيا بين صلصلة السيوف الباترة، وبريق الأسنة المشرعة، وبين تلك الضجة الكبرى التي أحدثها تقوض أركان تلك الإمبراطورية، وبين صيحات الويل والأسى التي بعثتها قوة التحليل في متانة التركيب؛ تكشف لنا حجب الغيب عن «روما» تتحرك كالامفبيان الذي نقرأ أخباره في قصص السندباد، يحمله البحر، ويحمل فوق ظهره قارة برمتها. يتحرك ذلك الامفبيان حركة الحياة في بقعة من الأرض حزينة مجرودة صماء، إن استظلت يوما بشيء يبعث في النفس من معنى شعري فهو السكون المطلق من كل الشوائب إلا شائبة الحياة تدب في جسم رومولوس، وإلا صفة الحنو في قلب الذئبة ترضعه ثديها وتتعهده بالرباية ليبتني روما العظيمة، وتقوم عليها الإمبراطورية الرومانية العظمى.
كما ارتضع «رومولوس» ثدي الذئبة فصار فتى أسس روما كذلك ارتضعت روما ثدي إيطاليا، فترعرعت وشبت إلى الفتوة، وما زالت تكبر ويمتد سلطانها حتى تكون منها ذلك الامفبيان الذي أحاطت قوته بكل الإمبراطوريات التي قامت وتحطمت خلال نشوئه من طور الطفولة إلى طور النضج التام، واستظلت بظلاله بلاد الغال وقرطاجنة ومصر وفارس ومقدونيا والإغريق وأشورية وبابل وفينيقية، بل إن شئت فقل الدنيا المعروفة في ذلك العهد ترابطت أسبابها لتكون إمبراطورية واحدة، هي الإمبراطورية الرومانية.
غير أن ذلك الامفبيان العظيم لم يبلغ منتهى قوته إلا ليدركه الكلال والنصب، فتناوحت من حوله رياح الفساد، وهبت عليه عواصف الانقسام الداخلي، فأخذت أجزاؤه تتحلل جزءا بعد جزء، حتى أدركه التخلخل والانشعاب، وما هي إلا صيحة من صيحات الزمان، وحركة من حركات الحدثان تبعثها يد القدر في قلوب قبائل الشمال، فتنقض على «روما» انقضاض الصواعق فتتركها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.
انقلبت في «روما» الخشونة والبساطة زخرفا وتكلفا، وارتدت الشجاعة إسفافا، والحرية استبدادا، والبطولة اسما أجوف لا مسميات له، وتفككت بانحلال الأخلاق وفسادها كل الروابط الاجتماعية التي تقوم عليها الممالك وتشيد الدول، وأي انحلال في الأخلاق أبشع صورة من انحلال الأخلاق الموروثة في المرأة، سنادة المستقبل وعماد الأسرة؟ وأي انحلال في أخلاق المرأة أشد إسفافا مما بلغنه نساء روما في آخر عصور الاضمحلال، حيث كن يعددن السنين بعدد الرجال الذين أحببنهم وكن معهم على صلة أقل ما فيها من فساد أنها قلبت نظام الأسرة، فحللت روابطها وفصمت عراها.
لم يقف الأمر في فساد روما عند هذا الحد، بل إن الراهب المتعبد المتوجه إلى الله ارتد مشعوذا يؤمن بالسحر والأساطير، وتبدلت روما من أبنائها الرومانيين بمجموع من العبيد المحررين والأجراء الذين لم يكن فيهم من خلة ظاهرة الأثر إلا أنهم أكثر تشبها بربات الحجال منهم بالرجال. وأصبح الجيش، وهو حافظ النظام في أول عصور المدنية الرومانية وحامي ذمار روما العظيمة وإمبراطوريتها الكبرى؛ آلة في يد كل من امتدت مطامعه إلى التسلط السياسي وكانت فيه مهارة لاستدرار وحي العواطف بالكلام، ففسد الأمر كله، وناءت عوامل الفساد على الصرح المشيد على عواتق العظماء، فدكته دكا، بل نسفته نسفا.
3
Неизвестная страница