Проблемы современной цивилизации
معضلات المدنية الحديثة
Жанры
مضى الأستاذ فريمان حتى الآن يظهر تأثير الإنتاجية الميكانيكية الحديثة على الإنسان فرديا، فهل هنالك من تأثير تحدثه هذه الإنتاجية على الإنسان مجتمعا؟ وهل تلك المؤثرات التي تنتاب الفرد في مدنية الآلات الحديثة تتخطى الفرد إلى المجتمع العام لتنال منه إفسادا وتحليلا كما أفسدت من طبيعة الأفراد وحللت حياتهم الطبيعية الأولى، وبدلتهم من بيئتهم الفطرية بيئة مصطنعة من أوضاع العصر الحديث، فيها من البعد عن حاجات الإنسان ومقتضيات سعادته بقدر ما في البعد بين الحقيقة وبين القول بأن الأرض مركز النظام الشمسي وأن الجاذبية لا تأخذ بضلع في نظام العالم المادي. أما الأستاذ فريمان فشديد الإيمان ثابت اليقين في أن أثر الفساد الذي أنتجته حاجات العصر الحديث المرتكزة على الإنتاج الميكانيكي لا يقل في الجماعات منه فعلا في الأفراد.
إن الانقلاب الإنتاجي الحديث لأكبر انقلاب ثوري انتاب الإنسان في كل العصور. عاش العامل في العصور الأولى عيشا محوطا ببيئة تضمنت كل بواعث السعادة وهيئت بكل عوامل الراحة والاطمئنان، وعلى الرغم من أن ساعات العمل كانت كثيرة فإن الواجبات التي كانت تلقى على عاتق العامل لم تكن لتثقله أو تهبط قواه، وغالب ما كان يتخلل العمل أحاديث تتناول مختلف الموضوعات أو تدور حول العمل الذي يعكف عليه العاملون. وفضلا عن هذا فإن العامل كان سيد نفسه، كان يحدد ساعات عمله كما يشاء، وكان يقيم ثمار عمله كما يريد، وكان يبيع بنفسه ثمرات عمله، وبذلك يعود عليه كل الربح الذي هو حق له دون غيره.
لقد تغير كل هذا بتأثير الإنتاجية الميكانيكية، فإن أولى النتائج التي تترتب على هذا الانقلاب الكبير أن تتحلل جمعية العمال التي كانت توزع على المجتمع العام توزيعا تفرضه مقتضيات الحالات والظروف، فلما تم انحلالها جمعت الإنتاجية الحديثة الأيدي العاملة في جموع قسرت على عادات وطبعت على أخلاق ومذاهب في آداب السلوك مغايرة كل المغايرة لعادات بقية الطبقات وأخلاقها وآداب سلوكها.
إن الحالات التي خلقتها المعامل الحديثة قد كونت مشاعر خاصة أحدثت خلال خمسين سنة مضين صورة جديدة من صور الحياة ملئت بالمفاسد وضروب الانحطاط، وكان أبين ما فيها من الآثار ازدياد روح البغضاء والقلق في أنفس العمال، مقرونة بكل ما تسوق إليه من الصفات المرذولة، كالحسد والأنانية والغيرة وحب الخصام، إرضاء لمطامع، وقمعا لشهوات هي بذاتها من خلق النظام الاجتماعي الحديث. وكانت النتيجة أن يكون العمال جماعات تتحكم فيها نظامات استبدادية لا تذهب بالعمال في طريق الخير ولا تقودهم إلا إلى حيث يهبون من جنبات معاملهم عطشى صراع وجلاد، ليرتدوا كلمى هزيمة وانكسار.
أصبح عامل العصر الحديث ميالا بمقتضى الظروف التي تحوطه إلى حياة الاشتراكية، وإن شئت فسمها «الضمامية»، تلك التي لا تؤدي في ذهن المفكرين من معنى أسمى من معنى فقدان الذاتية الفردية الصحيحة وتضحية الشخصية قربانا على مذبح الاجتماعية الحديثة. وكذلك تراه بعيدا عن التفكير في أن يعود إلى حياة الصناعة اليدوية الأولى، على أنه لا ينصرف عن التفكير في هذا إلا لأنه لم يذق طعم الحياة الاستقلالية ولم يفقه للحرية معنى ولا أدرك لها وجودا، وهو على الرغم من هذا عاجز كل العجز عن أن يقوم بأوده منفردا، ولهذا تراه منغمسا في حياته الاجتماعية، شاعرا بعجزه عن الانفصال عنها.
إن عامل العصر الحديث هو أعجز عامل أقلته الأرض منذ أن كان للإنسان وجود على سطحها، هو عامل فقد كل مهارته الفنية، ولا يدلك على هذا من كتاب الدكتور فريمان كاستشهاده بحالة قامت خلال الحرب العظمى، فإن هذه الحرب لم تكد تدق طبولها وينفخ في صورها حتى خرج العمال من مصانعهم لينضموا إلى صفوف المقاتلين، وكان من المنتظر أن يتعطل العمل في مصانع الإنتاج ولكن الحال كان على الضد من هذا، فإن ذهاب العمال قد أفسح المجال لفئات من العاطلين المستولين في المدن ولفتيات الريف الوادعات القانعات، وقد سار العمل في المصانع بهم وبهن، كما لو كان في أيدي العمال المدربين عليه.
أما نظام النقابات فأكبر ما أصاب المدنية الحديثة من مفاسد البيئات المصطنعة، فهو نظام مضاد لحاجات الاجتماع، مناقض لأبسط مبادئ الديمقراطية، ولا يخلق من شيء إلا جوا للتنازع المفني المضيع لجهود طبقات المجتمع، فينقلب العامل الهادئ من يد منتجة مشيدة إلى يد مهدمة مخربة. بهذا يقول الدكتور فريمان وعليه يمضي في بحث مستفيض، ليثبت لك أن خلق العامل الموروث قد تبدل تحت تأثير الإنتاجية الحديثة، فلست تجد اليوم ذلك الصانع القديم الذي كنت تستقرئ من أخلاقه أثر الهدوء والقناعة والرضا بما بين يديه، بل تجد عاملا ملئ طمعا، لا في أن يصبح أرقى فنا أو أمهر يدا أو أكثر إنتاجا، ولكن في أن يصبح بذاته مالكا صاحب رأس مال يستذل به من طريق الملكية أعناق غيره من عباد الله، الذين قد يتفق أن يكونوا أزكى منه طبيعة وأكثر للمجتمع نفعا وأمهر في العمل يدا وأرقى في الابتكار ذهنا وأصح على العمل عزيمة، وما مثل العمال في صيحتهم التي ترتفع في هذا الزمان بمبادئ الشيوعية والاشتراكية، إلا كمثل من استجار من الرمضاء بالنار، فهم يريدون أن يتبدلوا من حالهم التعيسة بحالة لا تتناول مفاسدها العمال وحدهم، بل تتعدى إلى بقية الطبقات فتنزل بمستواها إلى حيث تبور المدنية ويفسد المجتمع.
وينتقل بك دكتور فريمان بعد هذا إلى وجه آخر من مساوئ الاستغلال الإنتاجي الحديث، ينتقل بك إلى الكلام في الفرص التي يهيئها النظام الحديث لصاحب العمل، أي صاحب رأس المال، أو بالأحرى لعدد قليل من الأفراد تساعدهم ظروف المجتمع على أن يجمعوا من الثروة كمية كبيرة تصبح لعنة من لعنات الترف والبذخ على أنفسهم وعلى أسرهم، وفضيحة من فضائح المدنية. وهو يمضي بك في هذا البحث متخذا لك مثالا من فرد يفتتح محال للتجارة يحتل بها جوانب مملكة من الممالك، فلا يخلو بلد من بلدانها ولا قصبة من قصباتها من مركز تجاري له، فيصبح عما قليل منتجا ومستوردا، وصاحب سفن للنقل وصانعا وبائعا بالجملة وبائعا بالقطاعي، وعلى الجملة يصبح كل شيء في شيء واحد، رابحا من كل درجة من هذه الدرجات أرباحا تتضاعف في كل درجة منها، أما الدرجة الأخيرة التي تنتهي عندها سلسلة هذه الأرباح فتكوين شركة تختص باحتكار متجر من المتاجر، وأما أصحاب الملايين الكثيرة فهم عنوان هذا النظام، وولائد هذه الصورة المدنية الحديثة، هم عنوان على التكثر المالي، الذي لا مبرر ولا معنى له، وهم في المجتمع مبدأ قلق وفوضى لا نهاية لتعدد صورهما.
يسمي الدكتور فريمان هذه الفئة فئة «البلوتوقراطيين»، وهي كلمة تؤدي معنى الحكومة القائمة على نفوذ ذوي الثروة والجاه، وهؤلاء يضطرون أن يحموا أنفسهم ضد المجتمع الذي يمتصون دمه، فلا يجدون من سلاح يدرعونه أمضى حدا ولا أقطع مضارب ولا أثبت في المكاره جنانا ولا أفصح عند الحاجة بيانا من سلاح الصحافة، فهم يشترون الصحف الكبرى والمجلات ويديرونها بما تشاء أهواؤهم، وعلى ما يتفق ومصالحهم، وبذلك يسممون الديمقراطية في منابعها الأصلية بسمومهم المهلكة، حتى إن الصحافة على هذه الصورة قد أخذت تنقلب سلاحا قويا يتذرع به أصحاب الأموال لاستعباد المجتمع والوقوف سدا حائلا دون كل إصلاح اجتماعي. •••
هنالك خطر آخر لم يغب عن ذهن دكتور فريمان أن يتناوله ببحث مستفيض، يقول بأن الناتج من الصناعة يزيد عادة عما في مستطاع سكان كل قطر أن يستهلكوا منه، وبهذا تتجدد الحاجة إلى البحث عن أسواق يستهلك فيها الزائد من الإنتاج، ومن هنا تدير الأمم والحكومات بنظرها في نواحي العالم لتخلق أسواقا جديدة، ومن هنا تأتي فكرة الاستعمار بما يتبعها من مفاسد الاستبداد ومساوئ الحروب العامة.
Неизвестная страница