واضطرت مرجانة أن تبرح الدار، وتسعى بعض السعي على شيخها القاعد لترزقه، وعلى ابنها الخامد لتعينه، فجعلت تسعى إلى القرى القريبة تشتري من أهلها ما يريدون أن يبيعوا من جبنهم وزبدهم، تحمل في ذلك قصعة ضخمة، وتغطيه بشيء من العشب الأخضر الرطب يحفظ عليه رطوبته، ويجذب إليه العيون، وتطوف بذلك على بعض البيوت، فتبيعه فيها بما يتيح لها شيئا من ربح يتم لزوجها وابنها ما يحتاجان إليه.
وقد سعت الأسرتان المتجاورتان في طريق واحدة إلى الضيق، ثم إلى الضيق الشديد، ثم إلى الإعدام والحرمان، فازدادت الصلات بينهما قوة، وفرغ الشيخان القاعدان للبطالة والحديث. وجعلت مرجانة وحنينة تلتقيان حين يسفر الصبح، وحين يتقدم النهار، تتقارضان المنافع وتتعاونان على أثقال الحياة، وتتجاذبان أطراف الحديث كما يقال، وجعلت صفاء - بألفها الممدودة أو المقصورة - تلقى عبد السيد يغدو إلى عمله في الدائرة، وحين يروح من عمله إلى الدار، فيكون بينهما ما يكون بين الفتيان من هذه الأحاديث الفارغة، التي لا تؤدي شيئا ولا تدل على شيء، وإنما تشغل أصحابها عن أنفسهم، وتلهيهم عن آمالهم.
ولكن الشاب ماكر ماهر، ينتهز الفرص، ويختلس الوسائل اختلاسا، فهو يشيع في هذه الأحاديث الفارغة بين حين وحين ما يريد أن يملأها، فيعجزه ذلك في أول الأمر، ولكنه لا يعرف العجز ولا اليأس ولا الإخفاق، وإنما هو ملح دوءب، يخطئه النجح هذه المرة فلا يرده ذلك عن استئناف المحاولة، وهو يسلك إلى غايته طرقا مختلفة ملتوية، لا يحسن العلم بها إلا الذين محصتهم الحياة وعلمتهم التجارب. وأين الفتيان الفارون من تمحيص الحياة وتعليم التجارب! كلمة تنطق بها صفاء، فإذا الشباب يجري فيها عذوبة غير مألوفة، ويوقعها من أذن عبد السيد وقلبه موقعا غير مألوف؛ وحركة يأتي بها عبد السيد، فإذا الشباب يجري فيها رشاقة غير مألوفة، ويوقعها من عين صفاء وقلبها موقعا غير مألوف، وإذا الفتى مشغول بهذه الكلمة العذبة، يريد أن تتكرر وأن يضاف إليها أمثالها، وإذا الفتاة مشغولة بهذه الحركة الرشيقة، تريد أن تتكرر وأن يضاف إليها أمثالها. وإذا كلاهما مشغول بصاحبه حين يلقاه، ومشغول بصاحبه حين ينأى عنه، ومشغول بصاحبه حين يقبل الليل، ومشغول بصاحبه حين يسفر النهار، وإذا اللقاء الذي كاد يكون بينهما على غير موعد وعلى غير نية، قد جعل يصبح شيئا تدبر له الخطط وتبتغى إليه الوسائل، وإذا الحديث الذي كاد يكون بينهما فارغا ليس وراءه شيء، قد جعل يصبح مليئا وراءه كثير من الأشياء، وإذا الأسرتان تلحظان أن لهذين الفتيين شأنا، فلا تنكران ولا تعرفان أول الأمر، ثم تبتسم قلوب الشيوخ لهذه الصلة الناشئة بين هذين القلبين الشابين، ثم يتحدث المقدس ميخائيل إلى حنينة، ويتحدث المعلم يونان إلى مرجانة، ولا تقول إحدى الأسرتين للأخرى شيئا، وإنما تنتظر كلتاهما أن تكون الأخرى هي التي تبدأ الحديث. والشباب لا يحفل بما يثور في نفوس الشيوخ من خواطر، ولا بما يضطرب في عقولهم من تفكير، وإنما هو ماض لغايته لا ينظر إلى وراء، وإنما ينظر إلى أمام، وإلى أمام دائما، حتى لا يلفت الأسرتين وحدهما إلى نفسه وإلى ما أحدث من صلات، وإنما يلفت أسرا أخرى من الجيران. وهناك يتنبه الشيوخ، فتتحدث مرجانة إلى حنينة، ويتحدث المعلم إلى المقدس، وتصبح الخطبة شيئا مقررا متفقا عليه.
ونصيف مقيم في غربته تتقاذفه المدن في أعلى الأرض وفي أسفلها، قد ثبت في منصبه فلم يقبض أجره مياومة، وإنما أصبح موظفا بالمعنى الصحيح الدقيق، وزيد مرتبه حتى بلغ أربعة جنيهات ونصف جنيه، يحسم منها المعاش آخر الشهر، ولكن مرتبه قد زيد على كل حال، إلا أنه لم يزد وحده، وإنما زادت معه نفقات الفتى وتكاليف حياته بعد أن أصبح موظفا مثبتا. زاد مرتب الفتى، ولكن نصيب أبويه من هذا المرتب لم يزد، وإنما ظل كما كان؛ يصل إليهما أحيانا كاملا، وأحيانا منقوصا، ويتخلف عنهما بين حين وحين.
ويقبل الفتى ذات يوم في إجازة من إجازات الموظفين ليرى أسرته، فترى المدينة منه شابا رشيقا أنيقا لم تعرفه من قبل، وترى زينة ورواء لا عهد لها بهما عند أمثال هذا الفتى من شبابها بين أبناء الزراع والتجار، ويرتفع رأس المقدس حين يرى إعجاب الناس بابنه واحتفاءهم به، واحتشاد النسوة والصبية لرؤيته حين يمر بهذا الشارع أو ذاك، وبهذه الحارة أو تلك، ويمتلئ الفتى بنفسه تيها وإعجابا حين يرى تهافت الناس عليه وسعيهم إليه، يحييه بعضهم من قريب، ويحييه بعضهم من بعيد، ويعجب به أولئك وهؤلاء، ويرى فيه مع ذلك أولئك وهؤلاء شيئا من الكبرياء، فينكره بعض الناس في قلوبهم، وينكره بعض الناس بألسنتهم. ويشفق الأب والأم على ابنهما من حسد الحاسدين، ويتمنى الأب والأم أن يقيم ابنهما فيطيل المقام ليستمتعا به ولينعما بمحضره، ويتمنيان مع ذلك أن يعجل السفر ليأمن كيد الكائدين وحسد الحاسدين. ويعود الفتى بعد أيام إلى عمله، وقد رضي عن نفسه ورضي عنه أبواه، ورضي عنه أكثر أهل المدينة، وضاق به أقلهم. وكأنما ألم الفتى بهذه المدينة إلمامته القصيرة تلك ليودع أباه ويراه للمرة الأخيرة، فما يكاد الفتى يسافر، وتمضي على سفره أيام حتى يحس المقدس من الضعف ما يحس الشيوخ، فلا يكاد يحفل بذلك ولا يلتفت إليه، ولكن الضعف يزداد ويلح، والشيخ يثقل ويضطر إلى لزوم داره، ثم إلى لزوم فراشه، ثم إلى فراق هذه الدنيا. ويعود الفتى مرة أخرى إلى المدينة حزينا كئيبا، ولكن الحزن والكآبة لم يزيداه إلا رشاقة وأناقة واستهواء لقلوب الناس، واستجلابا لحبهم له وعطفهم عليه؛ فقد ذهبا بكثير من فرحه ومرحه واعتداده بنفسه واستخفافه بغيره، ورداه إلى شيء من الدعة والاتزان واعتدال المزاج.
ومهما يكن من شيء فقد ألقى في روع الفتى أنه أصبح بعد موت أبيه رجلا يحتمل التبعات، وينهض بأعمال الأسرة. وقد واجه التبعات والأعباء مواجهة حسنة، فشمل أمه وأخته بكثير من العطف والرعاية، وجد واجتهد وسعى، ووسط غيره في السعي حتى استطاع أن ينقل نفسه من مدينته تلك البعيدة التي كان يعمل فيها، إلى مدينته هذه التي تقيم فيها أسرته، وإذا هو موظف في مكتب البرق بالمدينة يقيم في أسرته ويرعاها، ويقوم منها مقام أبيه.
وتمضي أمور الأسرة كما تستطيع، أو على خير ما تستطيع، فقد أقام الفتى في داره وعاش مع أهله، ودبر أمره خيرا مما كان يدبره أثناء الغربة، فاستقامت له ولأهله حياة لم تكن تستقيم لهم من قبل. وكم تمنت حنينة - لو كان ينفع التمني - أن يعود المقدس فيشارك في هذه الحياة، وينعم بها، ويسعد برؤية ابنه غاديا على العمل أو رائحا إلى الدار، في زيه ذاك الجميل، وشكله ذاك الوسيم، ومنظره الذي يملأ القلوب روعة ورضا.
وتتصل أسباب الفتى بزملائه الذين يعملون معه في مكتب البرق، وبزملاء آخرين يعملون في المحطة، وبجماعات أخرى من الموظفين يعملون في المحكمة أو في مكتب البريد، وإذا هو يرقى بأسرته حقا إلى هذه الطبقة الممتازة التي طالما ود أبوه لو يرقى بها إليها، وإذا هو ممتاز بين هؤلاء الموظفين الممتازين حين يلتقون من آخر النهار أو من أول الليل في قهوة ذلك الرومي التي كانت تقوم على شاطئ القناة قريبا من المحطة، والتي كان الموظفون - ولا سيما الشباب منهم - يسعون إليها حين يدنو الأصيل، فيقيمون فيها فرحين لاعبين مداعبين حتى يتقدم الليل.
وفي ذات صباح يجلس الفتى إلى فطوره وأمه إلى جانبه تنظر إليه وتعجب به، وأخته صفاء قائمة بين يديه تخدمه، تذهب وتجيء مقدمة هذا اللون رافعة هذا الإناء، وإذا الفتى يحتل حتى يبعد أخته، ويخلو إلى أمه فيلقي إليها في همس سريع أو سرعة هامسة، أن زميله فلانا يخطب إليه أخته، وأنه سعيد بهذه الخطبة، يرى فيها مزيدا من رقي وفضلا من رخاء؛ فهذا الزميل فتى كريم من أسرة كريمة، قد فقد أبويه، فهو إذن سيد نفسه، وهو يقبض في آخر الشهر مرتبا كالذي يقبضه هو، وهو يريد أن يكون له أخا، وإذا قبلت خطبته وتم زواجه فسيعيش في الدار، وسيكون لأمه ابنا ثانيا، وسيجتمع المرتبان، وستغرق الأسرة في نعيم ورخاء لم تكن لترجوهما أو تفكر فيهما. وتسمع الأم هذا الحديث فيقع من قلبها موقعا غريبا فيه كثير من الإغراء، ولكنه يثير كثيرا من الحزن والخوف والأسى، فابنتها مخطوبة أو كالمخطوبة لجارها الفتى؛ قد ذهب زوجها إلى الدار الآخرة وهو مقر لهذه الخطة راض عنها مغتبط بها، وفي نفس ابنتها شيء من هذا الفتى الجار، ليس في ذلك شك. ثم تثوب الشيخة إلى نفسها بعد أن شكت غير طويل، وتقول لابنها في صوت هادئ رزين: وددت لو كان ذلك يا بني، ولكن أختك مخطوبة أو كالمخطوبة، قد أحبها جارنا عبد السيد، وكأنها تحبه، وقد تحدثنا في خطبتهما وقبلها أبوك. ولا يكاد الفتى يسمع حديث أمه حتى تأخذه الكبرياء، ويعادوه الاعتداد بالنفس، ويقول لأمه في صوت المغضب الذي كادت تخرجه الموجدة عن طوره: «كان هذا في تلك الأيام السود، فأما الآن فما أحب أن أخوض ولا أن تخوضي في هذا الحديث.» ثم يشعل سيجارته في أنفة، وينهض في كبرياء متثاقلة، وينصرف عن الحجرة، ثم ينصرف عن الدار وكأنه لم يخلف فيهما أحدا.
وقد صبرت حنينة نفسها عن هذا المكروه، فلم تتحدث فيه إلى ابنتها، وأزمعت أن تراجع فيه ابنها، وراجعته مرة ومرة، ولكنها لم تظفر منه بشيء ولم تلق منه إلا ازورارا وإعراضا، حتى أنذرها ذات يوم بأنها إن لم تذعن له فسينتقل من هذه المدينة كما انتقل إليها، وسيستأنف حياته تلك الغريبة المشردة، وسيتركها تعيش مع ابنتها في ظل هذا الفتى الغافل الذي لا غناء فيه، وسيرسل إليها ما يستطيع أن يرسل إليها من المال ليعينها على العيش كما كان يفعل في حياة أبيه.
Неизвестная страница