كذلك نعيش وكذلك يجب أن نعيش. وأيسر انحراف عن هذا اللون من ألوان العيش، وعن هذا النظام من نظم الحياة، خليق أن يجشمنا أهوالا، ويحملنا هموما ثقالا. وكيف تستقيم حياتنا إذا عني أصحاب الترف المترف والثراء العريض بأصحاب البؤس البائس والعذاب الأليم، فذادوا عنهم بعض ما يثقلهم من البؤس، ورفعوا عنهم بعض ما يضنيهم من العذاب، وشغلهم ذلك عن الاستمتاع بلذاتهم والانتفاع بهذه الثمرات الحلوة المرة السائغة الفجة، التي تأتيهم من بؤس البائسين وعذاب المعذبين، وشغلهم ذلك عن أن يجمعوا إلى سخف الحديث حين يرتفع الضحى، وإلى سخف المتاع حين يقبل المساء، وإلى اللهو واللعب حين يتقدم الليل، وإلى النوم الثقيل حين يهم الصباح بالإشراق؟ إذن تفقد الحياة بهجتها، وتفقد الدنيا زينتها، ويصبح العيش المصري كله نكدا كدرا منغصا، لا صفو فيه ولا عفو ولا جمال. حسب الأشقياء أن تعطف عليهم ألسنتنا، وتنأى عنهم قلوبنا، وأن نرثي لهم بالقول ونقسو عليهم بالفعل، ونخلي بينهم وبين أحداث الزمان ونوائب الأيام، تجرعهم الآلام غصصا، وتعلمهم كيف يكون استعذاب العذاب المر، وإساغة الشر الذي لا يساغ. وأقول هذا كله جادا لا عابثا، فالله قادر على أن يمس الأرض بجناح من رحمته، فيتيح لأهلها جميعا ما يتمنون من الترف والثراء والنعيم، والله قادر على أن يمس الأرض بجناح من نقمته، فيفرض على أهلها ما يكرهون من البؤس والشقاء والعذاب، وما دام الله لم يجعل الناس جميعا سعداء، ولم يجعلهم جميعا أشقياء، وإنما قسم حظوظهم بينهم على هذا النحو الذي نراه، فليس لنا وليس علينا إلا أن نريح أنفسنا، وأن يريح بعضنا بعضا من اللوم والنكير والتثريب، وأن يرضى كل منا بما قسم له من الحظ، وأن يحقق السعيد إرادة الله في الأرض فينعم بالسعادة كأقصى ما يستطيع، وأن يحقق الشقي إرادة الله فيغرق في الشقاء إلى كتفيه أو إلى أذنيه، أو إلى شعر رأسه إن شاء!
وقد يظن القارئ أني قد أسرفت في البعد عن هذه الأسرة المعتزلة، وعن حديث أم تمام، ولكنه يخطئ أشد الخطأ إن ظن بي هذا الإسراف، وهبه يصيب كل الصواب حين يظن بي هذا الإسراف، فليس يعنيني من خطئه أو صوابه شيء، وإنما الذي يعنيني هو أني أنا لا أعتقد أني أطلت المقامات أو انحرفت عن موضوع الحديث، فقد قلت إن هذا الوباء الذي ألم بمصر أذكرني من أمر هذه الأسرة المعتزلة ما كنت ناسيا، ثم ألح علي ذكرها إلحاحا شديدا. وأكبر الظن أني لم أذكر هذه الأسرة البائسة ذكرا متصلا ملحا، ليقف منها عقلي وقلبي موقف الناظر لها المحدق فيها، دون أن يثير ذلك في العقل بعض الخواطر، ودون أن يثير ذلك في القلب بعض العواطف، ودون أن يشيع ذلك في الضمير بعض الحزن. والكتاب البارعون في الفن يؤخرون خواطر عقولهم وعواطف قلوبهم وأحزان ضمائرهم إلى آخر الحديث، يجعلون من هذا كله عبرة لمن يريد أن يعتبر، وموعظة لمن يريد أن يتعظ، فيجعلون من أنفسهم أساتذة في الأخلاق، ومصلحين لنظم الاجتماع، ويرضون عن أنفسهم بعد ذلك كل الرضا، ويجهلون أن القارئ أشد منهم مكرا وأبلغ منهم دهاء، وأنه يقرأ أول الحديث لما قد يجد فيه من تسلية، أو لما قد يلتمس فيه من تسلية، ويترك آخر الحديث لأنه يضيق بدروس الوعظ والإرشاد والإصلاح أشد الضيق.
ومن الكتاب البارعين من يشيعون خواطر عقولهم، وعواطف قلوبهم، وأحزان ضمائرهم في حديثهم كله منذ يبدءونه إلى حيث يفرغون منه، يتخذون من قصصهم أغشية لهذه المواعظ والعبر، فيخدعون بذلك بعض القراء عن أنفسهم، ولكنهم لا يخدعون القراء جميعا، فلا يكاد الأذكياء منهم يقرءون حتى يستكشفوا مكر الكاتب ويعرفوا حيلته، فيقرءون على كره أو يزورون عن القراء ازورارا. فأما أنا فقد قلت وما زلت أقول: إني لا أريد أن أعلم جاهلا، ولا أريد أن أعظ غافلا ولا أن أنبه ذاهلا، فلست من هذا كله في شيء؛ لأني واثق بأن القراء جميعا علماء لا يمكن أن يرقى إليهم الجهل، أذكياء لا يمكن أن تسعى إليهم الغفلة، متنبهون لا يمكن أن يعرض لهم الذهول، وقلت وما زلت أقول: إني لا أريد أن أخدع أحدا عن نفسه؛ لأني لا أسيء الظن بالقراء، ولا أنظر إليهم على أنهم أطفال يجب أن يلهوا عن الدواء بهذه الأغشية التي تجنبهم مرارته وكراهته، فكيف وأنا لا أقدم إليهم دواء؛ لأني لست طبيبا، ولأنهم ليسوا مرضى، ولأني راض عن حياتنا التي نحياها كل الرضا، مطمئن إليها كل الاطمئنان، معجب بها أعظم الإعجاب، لا أريد أن أغير منها قليلا ولا كثيرا، ولا أحب أن يتغير منها قليل أو كثير. وأول هذا الحديث يدل فيما أظن دلالة واضحة على أني من المحافظين المتشددين في المحافظة، ومن أصحاب اليمين الذين لا يضيقون بأحد كما يضيقون بأصحاب الشمال.
ومن أجل هذا كله اخترت أن أتحدث إلى القراء في هذا المقال عن أم تمام وأسرتها المعتزلة؛ لأن أم تمام كانت تصور المحافظة الميامنة أبرع تصوير وأصدقه وأقواه؛ فهي كانت من أهل الصعيد الأعلى، وأهل الصعيد محافظون كما يعمل القراء، لم يفسدهم العلم، ولم تنحرف بهم المعرفة عن الطريق القصد، ولم تعلمهم الحضارة وما كثر فيها من البدع أن في الأرض جورا يجب أن يرتفع عنها، وأن في السماء عدلا يحب أن يهبط إلى الأرض ليملأها أمنا ودعة ورضا، وإنما هم قوم يعيشون على فطرتهم، ويرسلون نفوسهم على سجاياها. رأوا الأرض ملعبا لقليل من ملائكة العدل وكثير من شياطين الجور، فأحبوا أولئك وألفوا هؤلاء، ولم يطلبوا من أولئك ولا هؤلاء إلى أن يمضوا فيما استأنفوا من لعب، فإن مسهم من هذا اللعب خير نعموا به، وإن مسهم منه شر شقوا به، غير منكرين ولا معترضين ولا محاولين تغييرا ولا تبديلا، ويقال إن الكاتب يختار أشخاصه على صورته، وقد يقتطعهم من نفسه اقتطاعا، ولولا أن أم تمام كانت غارقة في البؤس والشقاء، ومسرفة في الدمامة والقبح، لقلت إني اقتطعتها من نفسي اقتطاعا، ولكني لست غارقا في البؤس والشقاء، والحمد لله على كل حال. وسيرى القارئ أن صورة أم تمام ليست مني في شيء، فيدله ذلك من غير شك على أني لم أخترعها ولم أبتدعها، وعلى أن خيالي الضعيف الكليل ليس له في حياتها ولا في حياة أسرتها أثر ما، وإنما هي حقيقة واقعة خلقها الله الذي يخلق الحقائق كلها، والذي يقسم بين الناس حظوظهم من الجمال والقبح، كما يقسم بينهم حظوظهم من السعادة والشقاء.
وقد كانت أم تمام هذه غريبة الأطوار من كل جوانبها، حتى إني لا أستطيع أن أختار الطور الذي أبدأ به من أطورها. وربما كان الخير أن أعرض عليك صورة ضئيلة حقيرة للبيت الضئيل الحقير الذي كانت تعيش مع أبنائها فيه.
فقد كان هذا البيت أشبه شيء بالبقعة القذرة التي تفسد جمال الثوب الجميل النقي، كان ضيقا في الفضاء أشد الضيق، منخفضا إلى الأرض أشد الانخفاض، قد أقيم من هذا الطين الساذج الذي يخلطه الفلاحون بشيء من التبن والقش ويسوونه تسوية مقاربة، ويسمونه في مصر الوسطى «بالطوف»، ثم يجمعون بعض هذه الأطواف إلى بعض حول قطعة من الأرض، يرفعونها في الجو شيئا، ويمدونها في الفضاء شيئا، ويلقون عليها طائفة من سعف النخيل أو من قصب الذرة، ويتخذون لها بابا من خشب رقيق، فتصبح بيتا يأوون إليه ويتقون فيه برد الشتاء وحر الصيف ومطر السماء، إن كان من الممكن لمثل هذا البناء المهلهل أن يقي الذين يأوون إليه بردا أو حرا أو مطرا. وكان بيت أم تمام هذا الصغير الحقير يقوم بين دارين ضخمتين فخمتين، أو قل بين فنائين واسعين لهاتين الدارين، وفي كل فناء من هذين الفناءين قامت أشجار وشجيرات، بحيث هم كل فناء منهما أن يكون حديثة تقوم أمام الدار، ولكنه لم يبلغ أن يكون حديقة، فكان شيئا بين الفناء المهمل والحديقة التي يمنحها الناس شيئا من عناية، ويجدون فيها شيئا من راحة وروح. ولم أدر كيف قام هذا البيت الحقير الصغير بين هاتين الدارين العظيمتين، وقد سألت الناس من حولي عن هذا، كما سألتهم عن مقدم أم تمام وبنيها إلى القرية وإقامتها في هذا البيت، فلم أجد عند أحد منهم جوابا؛ لأنهم كانوا جميعا طارئين على القرية، دعتهم إليها الدائرة السنية، ولأن القرية نفسها كانت طائرة على المكان، أنشأتها فيه الدائرة السنية، فلم يكونوا يعرفون من أمر جيرانهم ولا من أمر قريتهم إلا قليلا أو أقل من القليل. وكانت سيرة أم تمام وبنيها تمنع جيرانها من أن يعرفوا شيئا من أمرها، فقد كانوا يعتزلون الناس اعتزالا غير مألوف. ولكن أوان الحديث عن هذا الاعتزال لم يئن بعد، فقد ينبغي أن تعرف قبل ذلك أم تمام هذه، أو أن ترى صورتها على أقل تقدير، فصورتها خليقة أن ترسم؛ كانت أم تمام قصيرة مسرفة في القصر، منحنية مسرفة في الانحناء، همت قامتها أن ترتفع في الجو فلم تستطع أن تستقيم، وإنما انعطف أعلاها على أسفلها كأنها خلقت لتلتصق بالأرض التصاقا؛ وكانت من أجل ذلك أشبه بذوات الأربع منها بالإنسان ذي القامة المعتدلة والقد المستقيم، وكانت من أجل هذا إذا مشت خيلت إليك أنها تتدحرج كما تتدحرج الكرة، وكان مشيها بطيئا رفيقا، فكان يشبه حركة الكرة عندما تخف عنها قوة الدفع، فتضطرب مبطئة تسعى إلى السكون. وكان صوت أم تمام نحيلا ضئيلا، وكانت قد فقدت بعض أسنانها، فكان صوتها النحيل يستحيل إذا تكلمت إلى هواء خافت لا يكاد السامع يتميز حروفه إلا في مشقة وجهد. وكان يعيش معها في بيتها ذاك الصغير الحقير غلامان، كاد أحدهما أن يبلغ العشرين، وهو تمام، وجاوز الآخر الخامسة عشرة قليلا، وهو أبو العلاء. وكان تمام وأخوه يعملان في البناء، يحاول تمام أن يكون بناء، ويحمل أخوه الطين والماء وغيرها من الأدوات التي تتصل بعمل البنائين، ويصيب الغلامان من هذا العمل الذي يتصل أحيانا وينقطع أحيانا أخرى، ما يتيح لأسرتهما قوتا يقيم الأود ولا يكاد.
وكانت لأم تمام بنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها، وهي سعدى التي كان الجمال والدمامة يختصمان على وجهها وجسمها كله اختصاما شديدا؛ يريد الجمال أن يستخلصها لنفسه مستعينا بقوة الصبا والشباب، ويريد القبح أن يؤثر بها نفسه مستعينا بالبؤس وما يستتبعه من الحرمان، وكانت الصبية بين هذين الخصمين أشبه شيء بالكرة يتقاذفها اللاعبان. ولم يعرف أحد لهذه الأسرة زعيما، بل لم يعرف أحد كيف هبطت الأسرة من أعلى الصعيد إلى هذه القرية من قرى مصر الوسطى، وإنما كان الناس يتحدثون بأن أم تمام قد نهضت وحيدة أو كالوحيدة تنشئ بنيها الثلاثة، وقد لقيت في ذلك جهدا جهيدا وعناء شديدا، لم تهبط بهم من صعيدها الأعلى إلى قريتنا تلك إلا متنقلة بين المدن والقرى، تقيم في هذه المدينة سنة أو أقل أو أكثر، وتقيم في هذه القرية أشهرا، وفي هذه القرية أسابيع، وفي هذه القرية أياما قليلة أو كثيرة، حتى انتهت إلى قريتنا تلك، فأقامت فيها وأطالت المقام .
ولم يكن اسم أم تمام أقل غرابة من كنيتها، بل لم يكن أقل من جسمها، فأنت إن أردت أن تنطق به كما كان الناس ينطقون به في القرية قلت «ست أبوها»، وإن أردت أن تنطق به على أصول اللغة الفصحى، قلت «سيدة أبيها» أو «ست أبيها»، كما كان الناس ينطقون في بعض عصورنا القديمة. وكان هذا الاسم يقع من آذاننا موقعا غريبا، وكنا ننطق به على أنه لي كلمة واحدة لا كلمتان، وكنا نسأل أنفسنا عن معنى هذا اللفظ الغريب.
ولم تحاول أم تمام قط، ولم يحاول أحد من بنيها قط الاتصال بالناس إلا حين كانت الضرورة الملجئة تضطرهم إلى ذلك اضطرارا؛ فقد كانوا يحتاجون إلى أن يشتروا الطعام ليقيموا أودهم، وكانت أم تمام تحتاج أحيانا إلى أن تبيع، فقد كان يعرض لها في بعض الوقت أن تخرج إلى الطريق الزراعية العامة، وأن تتلقط من هذه الطريق روث البقر والجاموس، تقطعه قطعا متقاربة، وتجففه على سقف بيتها، وتتخذ منه وقودا لتطبخ إن أتيح لها أن تطبخ، وتبيع فضله بين حين وحين لبعض نساء القرية بالقروش أو بعض القرش، توسع بذلك على نفسها وعلى بنيها، ولم يخطر فيما أعلم لأحد من الموسرين، ولأهل الدارين اللتين كانتا تكتنفان بيتها أن يبروا هذه الأسرة بقليل أو كثير من الخير، لا لأن الموسرين كانوا يبخلون بالمعونة على الذين يحتاجون إلى المعونة، بل لأنهم في أكثر الظن قد هموا أن يبروا هؤلاء الناس، فردوا برهم عليهم في شيء من التعفف الذي لا يحب من الفقراء، فكف الموسرون عن محاولة الرفق بهم والتوسيع عليهم في الرزق.
وأمثال أم تمام في القرى يوسعن على أنفسهن وعلى أبنائهن وأزواجهن أحيانا بالعمل في دور الموسرين والأغنياء، يكسبن من هذا العمل قوت أنفسهن، وفضلا من خير يحملنه إلى البيوت، فيأكل الجائع ويكتسي العريان ويذوق المحروم شيئا من طيبات الحياة، ولكن أم تمام لم تحاول شيئا من ذلك ولم تفكر فيه، وكأنها قد حرجت على ابنيها أن يحاولا بعض ما يحاول الشباب الفقراء من الاتصال بشباب الأغنياء وأصحاب السعة، فلم يكن الغلامان يشاركان في لعب ولا في جد. وربما رآهما الراءون وقد جلس كل منهما إلى أخيه يخططان في الأرض أو يلعبان لعبة «الطاب»، وكذلك نظر أهل القرية إلى هذه الأسرة على أنها أسرة غريبة ثقيلة سمجة، ليست منهم وليسوا منها في كل شيء. وكان أهل القرية مع ذلك يتحدثون فيما بينهم عن هؤلاء الناس في إشفاق كثير لا يخلو من سخرية، وربما يقسو - إن أمكن أن يكون الإشفاق قاسيا - فيشتمل على شيء من شماتة. كانوا يرون هذين الغلامين يحتملان أشد العناء وأشق المشقة ليكسبا القروش القليلة في بعض الأيام، ويتساءلون كيف تعيش هذه الأسرة من هذا الكسب القليل، وكانوا يرون هذين الغلامين وقد بليت ثيابهما فكشفت عن مواضع من الجسم من حقها أن تستر، ورقعت حتى ملت الترقيع، وكانوا يرون الصبية سعدى في أسمالها البالية، فيرحمون هذا الصبا النضر في هذا الغشاء المبتذل. ويقول بعضهم لبعض: لولا الكبرياء لأصاب هؤلاء الناس عيشا أرق رقة وألين لينا.
Неизвестная страница