على أن وجومهما في ذلك الصباح لم يتصل إلا قليلا، وقد قالت أمونة لابنتها فجاءة في صوت فاتر منكسر: ألم تنهضي وتتركي البيت بعد أن خرج أبوك إلى النهر بساعة قصيرة؟ قالت الفتاة: بلى، قد نهضت وخرجت من البيت، ولكني عدت بعد لحظة. قالت أمونة: فإني قدرت ذلك وانتظرت أن تعودي بعد لحظة، ولكن هذه اللحظة طالت، واشتد طولها حتى أشفقت عليك من بعض الشر، وحتى هممت أن أخرج في التماسك، ولكني أكرهت نفسي على البقاء مخافة أن يفطن إلينا الجيران، وما زلت أنتظرك وأنتظرك حتى أسفر الصبح، وإذا أنت تقبلين مترفقة، وتدخلين متلصصة، وتندسين في مضجعك حريصة على ألا أحس مقدمك كما كنت حريصة على ألا أحس انسلالك من البيت، فإلى أين ذهبت؟ وماذا كنت تصنعين؟ وقد سمعت سكينة حديث أمها مرفوعة الرأس أول الأمر، ولكنها لم تلبث أن انخفض رأسها فجأة، كأنما عجزت الأعصاب والعضلات أن تمسكه فانكب نحو الأرض انكبابا، ولبثت الفتاة صامتة لا تقول شيئا، جامدة لا تأتي حركة. وقد أعادت أمها عليها المسألة مرة ومرة، فلم تظفر منها برجع الحديث؛ هنالك تنمرت أمونة، وظهر في وجهها شيء من الجد، لم يلبث أن استحال إلى غضب منكر عنيف، وقالت لابنتها في صوت مكظوم: ستنبئينني إلى أين ذهبت وماذا كنت تصنعين؟ ثم انحرفت بنصفها الأعلى إلى يمين وتناولت عودا يابسا من سعف النخيل كانت تصطنعه في تقليب الخبز وإنضاجه، ثم استقبلت الفتاة ملوحة بهذا العود اليابس، وهي تقول لها في صوتها المكظوم: ستنبئينني أين كنت، وماذا كنت تصنعين؟
ولم تقل الفتاة شيئا، ولكن العود أخذ يقع ما بين كتفيها في عنف شديد وثبت له الفتاة كأنما دفعها إلى الوثوب لولب في الأرض، أو جذبها إلى الوقوف سبب في السقف، على أن وقوفها لم يطل، فقد أخذ العود يصيب من جسمها ما شاءت المصادفة الغاضبة، وإذا الفتاة تجثو وقد جمعت يديها إلى وجهها وهي تتلوى من الألم، تدافع شهيقا يريد أن ينطلق ويكاد أن ينفجر عنه حلقها. ثم يستأثر الغضب بأمونة، فإذا هي لم تبق امرأة، وإنما استحالت إلى جنية ثائرة، وقد ألقت العود من يدها، ووثبت بسرعة وخفة، فكبت الفتاة على وجهها وجمعت شعر البائسة بين يديها، وجعلت تجذب الفتاة من شعرها في غير رفق، وتدفع بقدميها وجهها في غير نظام. وقد انفجر صوت الفتاة عن صيحة منكرة، فتلقي أمونة نفسها على ابنتها، وتضغط بيدها على فم الفتاة وتنبئها في صوتها المكظوم دائما بأنه الموت إذا لم تكظم صوتها، ولم تضبط نفسها، ولم تنبئها في هدوء وصدق إلى أين ذهبت، وماذا صنعت حين انسلت من البيت في ظلمة الليل.
وقد ضاق صدر الفتاة لثقل ما حملت من جسم أمها، ولهذا الضغط المتصل على فمها، فاستيقنت أو كادت تستيقن أنه الموت، ولكنها جاهدت جهادا عنيفا حتى تخلصت من ثقل أمها واستوت جالسة، وظهر في وجهها هدوء حازم عنيد، ودفعت يد أمها عن فمها وقالت في صوت مكظوم كصوت أمها، ولكنه ينم عن التحدي والعناد: تريدين أن تعلمي إلى أين ذهبت، وماذا كنت أصنع حين انسللت من البيت في ظلمة الليل؟ فاعلمي إذن أني لقيت زوج عمتي غير بعيد في مزرعته، وأقمت معه ما أقمت، ثم رجعت حين كاد الصبح أن يسفر. أعلمت الآن ما كنت تجهلين؟ أراضية أنت بما عملت؟
وجمت أمونة شيئا ثم قالت مستخذية: ومتى لقي الفتيات أزواج عماتهن في جنح الليل؟ إنك لتلقينه متى شئت في وضح النهار. قالت الفتاة: ألقاه في وضح النهار، وألقاه في ظلمة الليل، ذلك شأنه وشأني، وما أنت وذاك؟ فإنه لا يعنيك من قريب ولا من بعيد. هنالك استأنف العود تمزيقه لجسم الفتاة، ولكن الفتاة قالت لأمها بصوت تكلفت كظمه: ستكفين يدك عني أو أستغيث بالجيران؟ قالت أمونة وقد سقط العود من يدها: الجيران؟ يا للفضيحة! يا للعار! ثم انحنى أعلاها على أسفلها وجعلت تنتحب غير جاهرة بالنحيب، وظلت الفتاة في مكانها واجمة ساهمة كأنها قطعة من المرمر، على أنها لم تلبث أن فرقت بين أجفانها فانهل على وجهها دمع غزير.
وفي القارئ حب استطلاع أقل ما يوصف به أنه يضايق الكاتب ويأخذ عليه الطريق، ويضطره إلى الوقوف حين كان يؤثر المضي في كتابته، أو يضطره إلى الاستطراد حين كان يفضل ألا يتجاوز الموضوع الذي يعرضه أو يقول فيه. والقارئ لا يكفيه ما أنبأته به من أن هذه الفتاة قد تغفلت أمها، وانتهزت غيبة أبيها وانسلت من بيتها في ظلمة الليل، واعترفت لأمها آخر الأمر، وبعد ما ذاقت من عذاب بأنها خرجت لغي لا لرشد، وبأن قد كان بينها وبين زوج عمتها إثم بغيض.
القارئ لا يكتفي بهذا، وإنما يحب أن يعرف كيف نشأت هذه الصلة المنكرة بين فتاة في السابعة عشرة من عمرها ورجل قد جاوز الشباب، وهو زوج عمتها. ولولا أني أرفق بالقارئ ولا أحب أن أشق عليه، ولا أن أرده خائبا حين يحب الاستطلاع، لمضيت في الحديث كما بدأته، ولأبيت الانحراف إلى نشأة هذه الصلة البغيضة؛ لأن الحديث عنها بغيض، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فمن حق الكاتب أن يذهب ما شاء من المذاهب في كتابته، ولكن من حق القارئ أيضا أن يفهم في وضوح وجلاء ما يقدم إليه الكتاب من المقالات والفصول. وقد عرف القارئ أن قد كان لقاسم أخ شيخ ضرير أقرأه آية كريمة من القرآن تؤمنه من خوف وتؤنسه من وحشة، فقد ينبغي أن يعرف القارئ الآن أن قد كانت لقاسم أخت فاتنة لعوب، خلبت عقول كثير من الشباب حين واتاها الحظ وابتسمت لها الدنيا واستقامت لها الأمور، ثم تولت عنها الدنيا كما تتولى عن كثير من الناس، وأصاب جسمها ذبول، وألم بجمالها ذواء حين دخلت في الكهولة ودنت من الشيخوخة. وقد كانت خليقة أن تضطر إلى بؤس كبؤس أخيها الصياد أو أخيها الضرير، لولا أنها صادفت الحاج محمودا، وكان رجلا يقيم في طرف من أطراف المدينة، فيه بقية من قوة وفضل من شباب، ويملك قراريط من الأرض يستغلها في استنبات البقول، وقد لعبت الأيام بالحاج محمود كما لعبت بتلك المرأة، ثم أحس حاجة إلى شيء من الاستقامة، فاصطنع الهدوء وتكلف التقوى وحافظ على الصلوات، ثم سعى إلى الحج وعاد وعليه زي من وقار ومسحة من نقاء، فاتخذ هذه المرأة له زوجا واستقر في حياة مطمئنة لا يظهر أحد منها على بأس. وكأن غريزته كانت أقوى من إرادته، وكأن ميله إلى اللهو كان أقوى من طموحه إلى التقوى، وكأن دنو امرأته من الشيخوخة أو دنو الشيخوخة من امرأته قد حول نفسه عن القناعة والرضا إلى المجانة والطمع، فكان يمشي في المدينة زائغ الطرف يدير عينه يمينا وشمالا، ويقصر بصره إلى هنا ويمد بصره إلى هناك، وكان كل شيء في تقلب وجهه واضطراب بصره يدل على أن في نفسه طموحا إلى الشر، ونزوعا إلى ما لا يستحب من الأمر. وكان قاسيا على أخي امرأته، يرمقه في ازدراء ويتحدث عنه في استخفاف، ولا يمد إليه يدا بالمعونة ولا يظهر إشفاقا عليه مما كان يبهظه من الفقر والبؤس والداء، ولكنه رأى ابنة هذا الرجل فتاة كاعبا تستقبل الحياة في قوة وجمال، وفي بؤس وشقاء أيضا، فلم يرق لبؤسها ولم يرحم شقاءها، وإنما اشتهى جمالها وطمع في محاسنها، وابتغى إليها الوسائل. وما أكثر وسائل الإغراء للذين يبهظهم الشقاء!
وقد رأى هذه الفتاة الجميلة البائسة تنظر ذات يوم نظرة فيها كثير جدا من الأمل إلى رجل من هؤلاء الباعة، الذين كانوا يطوفون في المدن والقرى يحملون هذه السخافات التي تطمح إليها نفوس البائسين من أهل المدن والقرى، يحملون حقيبة فيها هذا الصمغ الذي يمضغ في الأفواه، ويسميه أهل القرى «لبانا»، ويسميه المترفون من أهل المدن «لادنا»، ويحملون حقيبة أخرى فيها صنوف من الخرز، وضروب من الخواتم والأساور قد اتخذت من المعدن الرخيص. ونساء الريف يكلفن بهذه السخافات، يتخذن من الخرز عقودا، ويزين أيديهن ومرافقهن بهذه الخواتم والأساور، ويتجملن بمضغ اللبان يدرنه في أفواههن، ويحدثن في مضغه بين حين وحين صوتا يفتن به الرجال المكتملين والشباب الناشئين. وقد رأى الحاج محمود تلك الفتاة البائسة ذات الجمال البارع وقد تعلقت نفسها بشيء من هذه السخافات، بين يدي رجل من هؤلاء الباعة قد أطاف به النساء والفتيات من أهل المدينة يأخذن منه سخفه الرخيص، ويدفعن إليه نقدهن القليل. وسكينة تنظر وتشتهي ولكنها لا تستطيع أن تأخذ شيئا؛ لأنها لا تستطيع أن تدفع شيئا، فرق الحاج محمود لهذه الفتاة، أو مال قلبه إلى هذه الفتاة، فاشترى من سقط المتاع هذا شيئا قليلا أدى له ثمنا ضئيلا، وملأ قلب الفتاة به فرحا وأفعم به نفسها سرورا، وأفاض على وجهها بهجة زادتها حسنا إلى حسن وروعة إلى روعة. ومنذ ذلك اليوم وقع في قلب الحاج محمود لهذه الفتاة الغافلة حب أثيم، ومنذ ذلك اليوم جعل الحاج محمود يسعى بالخير بين حين وحين إلى هذه الأسرة البائسة، بدأ بالحديث الرفيق، وثنى بالمعونة اليسيرة، واختص الفتاة بعطف كاد يتصل لولا أن الحاج محمودا كان يحتاط ويتحفظ ويخشى الريبة. وكان قاسم وامرأته يتلقيان هذا الود الجديد في تردد بين ما يحمل إليهما من خير، وما يثير في نفسيهما بعض الشك، ولكن الحاجة كانت أقوى من الحيطة، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن الفتاة قد اطمأنت إلى هذا الرجل ووثقت به، وتعلقت نفسها بما كان يطرفها به بين حين وحين من هذه الطيبات المتواضعة، فأكثرت التردد على دار عمتها، ثم اتصلت المودة بينها وبين هذا الرجل الذي كانت تسميه عمها.
وهنا ليس يحتاج القارئ فيما أظن إلى أن أمضي به في هذا الحديث البغيض إلى غايته، فهو يستطيع أن يبلغها وحده. وأحسبه قد أطال الانتظار لقاسم هذا الذي ذهب إلى السوق، وفي يده أو في جيبه قروش العمدة؛ فلينظر إليه إن شاء عائدا من السوق قد امتلأت يداه بالخير، وظهر على وجهه الشاحب حبور كئيب، وأقبل يسعى إلى بيته الحقير متباطئا ثقيل الخطو، وفي نفسه شيء من رضا، فسيطعم امرأته وابنته ما لم تتعودا أن تصيبا منه إلا نادرا، حين يكرم النهر أو حين يتصدق الموسرون. ومهما يبلغ الفقر بالناس، ومهما يثقل عليهم البؤس، ومهما يسيء إليهم الضيق، فإن في فطرتهم شيئا من كرامة تحملهم على أن يجدوا حين يأكلون مما كسبت أيديهم لذة، لا يجدونها حين يأكلون مما يساق إليهم دون أن يكسبوه أو يحتالوا فيه؛ فقد كان قاسم في تلك الساعة يشعر بشيء من هذه الكرامة، ويريد أن يعتد بنفسه، لولا أنه كان أشد بؤسا وتضاؤلا وإذعانا للعلة من هذا الاعتداد، وهو على ذلك كان يسعى متباطئا ثقيل الخطو، ولم يكن يسوءه أن يلحظ الجيران كلما دنا من بيته، وأن يروا ما يحمل من طيبات السوق، وأن يقولوا في أنفسهم: لقد حسن صيد قاسم منذ اليوم، وسينعم مع امراته وابنته بطعام لذيذ. يقول بعضهم ذلك لنفسه مع كثير من الرفق والإشفاق، ويقول بعضهم ذلك لنفسه مع كثير من الحسد والغيظ. ويرى قاسم هذا كله في لحظ العيون، واضطراب الوجوه، ويكاد قاسم يجد في نفسه الرضا عن رفق الرفيق وحسد الحسود، ولكنه يبلغ البيت ويدفع الباب الدقيق الضئيل ويخطو، وقد جعل الدم يصاعد إلى وجهه، وجعلت عيناه تبرقان، وشفتاه تنفرجان، وهم صوته الخافت أن يصبح أهله بالخير، وهمت يداه المتهالكتان أن تضعا بين يدي زوجه ما حملا إليها من طعام، وهم أن يداعبها في بعض الحزن، ولكنه يخطو وينظر، فإذا امرأة تساقط دموعها غزارا وهي جامدة هامدة، وإذا فتاة تنتحب، وتدافع شهيقا لا تحب أن يسمع، وإذا قاسم واجم أول الأمر، ثم سائل بعد ذلك، ثم مكرر المسألة، وإذا امرأته ترد عليه في صوت مختنق منقطع بكلمات تقع من قلبه البائس موقع الجمر، وإذا يداه تسترخيان، وإذا هذا الخير الذي كان يحمله حفيا به حريصا عليه، يسقط إلى الأرض في غير نظام، وإذا عيناه تنطفئان، وإذا شفتاه تلتقيان ثم تمتدان، وإذا هو يسعى إلى حصيره ذاك البالي فيجلس عليه متهالكا، ثم يمتد وقد نهكه ما أصاب جسمه النحيل وقلبه العليل الضئيل من جهد، وإذا امرأته تسمع صوتا خافتا يأتي من بعيد جدا، وهو يقول: لو رزقنا الله مكانها غلاما لم نتعرض لهذا الخزي. ثم يعيد: لهذا الخزي. ثم ينقطع الصوت حينا، ثم يعود أشد خفوتا وأعظم بعدا وهو يقول: ما ينبغي للفقراء أن يلدوا البنات! ثم ينقطع صوته فلا تسمعه امرأته سائر النهار، ليس هو نائما وليس يقظان، وإنما هو شيء بين ذلك. وقد همت حين تقدم النهار أن تنظر إلى هذا الطعام وتحاول تهيئته، ولكنها تنظر إليه ثم تعرض عنه، وتظل في مكانها هامدة جامدة، تنهل دموعها حين تجود عيناها بالدموع، وتنقطع دموعها حين تجمد عيناها من البكاء. والفتاة ملقاة في مكانها لا هي بالحية ولا بالميتة، وإنما تأخذها رعدة بين حين وحين، ثم يشتمل عليها الخمول والجمود. ولم ير الجيران في ذلك اليوم أمونة تخرج لالتماس الحطب، ولم ير الجيران في ذلك اليوم دخانا من ذلك البيت، ولم يشم الجيران في ذلك اليوم رائحة الطعام الذي تنضجه النار، وقد كانوا مع ذلك يتوقعون هذا كله حين رأوا قاسما يروح إلى داره وقد امتلأت يداه بالخير.
وسعت الشمس إلى مغربها متباطئة، وأقبلت ظلمة الليل فنشرت أرديتها السود على كل شيء، وجثم الليل على المدينة ثقيلا مرهقا، فاضطر الناس إلى مضاجعهم وفرض الهدوء والصمت على كل شيء، وانتثرت في السماء نقطة ضئيلة من النور، ونهض من فراش قاسم شخص ضئيل يوشك أن يكون شبحا، فانسل من البيت لم يلتفت إلى أحد، ولم يلتفت إليه أحد، وغمس نفسه في ظلمة الليل وجعل يمضي فيها متباطئا وإن أراد الإسراع، متثاقلا وإن كان في نفسه خفيفا. مضى أمامه لا يرفع رأسه إلى السماء، ولا يلتفت إلى يمين ولا إلى شمال، فقد نفذت ظلمة الليل إلى نفسه، فأصبح ضميره فحمة قاتمة ليس لها حظ من صفاء، وقد نفذ سكون الليل إلى قلبه فلم يتردد فيه صدى، ولم تخطر له الآية الكريمة:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، ولم يشعر في الوقت نفسه بشيء من خوف؛ لأنه قد استحال كله خوفا.
Неизвестная страница