وأخذ علم الطب عن أبي مروان بن جريول، ودرس الفقه حتى برع فيه، وأقبل على علم الكلام والفلسفة وعلوم الأوائل حتى صار يضرب به المثل فيه، فمن تصانيفه ما ذكره ابن أبي أصيبعة. [يذكر هنا الذهبي قائمة مؤلفات ابن رشد كما جاءت في عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة مع بعض التغييرات، وسنثبتها فيما بعد].
قلت: ذكر شيخ الشيوخ تاج الدين: لما دخلت إلى البلاد سألت عنه، فقيل: إنه مهجور من داره من جهة الخليفة يعقوب، ولا يدخل أحد عليه، ولا يخرج هو إلى أحد، فقيل: لم؟ قالوا: رفعت عنه أقوال رديئة ونسب إليه كثرة الاشتعال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل، ومات وهو محبوس بداره بمراكش في أواخر سنة أربع وتسعين.
وذكره ابن الأبار فقال: لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، قال: وكان متواضعا منخفض الجناح، عز بالعلم حتى حكي عنه أنه لم يدع النظر والقراءة مذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة عرسه، وأنه سود فيما صنف وقيد واختصر نحوا من عشرة آلاف ورقة.
ومال إلى علوم الأوائل فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه مع الحظ الوافر من العربية، قيل: وكان يحفظ ديواني: حبيب والمتنبي، وله من المصنفات: كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، علل فيه ووجه، ولا نعلم في فنه أنفع منه ولا أحسن مساقا، وله كتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وكتاب في العربية وغير ذلك.
وقد ولي قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث، فحمدت سيرته وعظم قدره، سمع منه أبو محمد بن حوط الله وسهل بن مالك وجماعة، وامتحن بآخره، فاعتقله السلطان يعقوب وأهانه، ثم أعاده إلى الكرامة فيما قيل، واستدعاه إلى مراكش، وبها توفي في صفر، وقيل: في ربيع الأول، وقد مات السلطان بعده بشهر.
وقال ابن أبي أصيبعة: هو أوحد في علم الفقه والخلاف، تفقه على الحافظ أبي محمد بن رزق، وبرع في الطب، وألف كتاب الكليات أجاد فيه، وكان بينه وبين أبي مروان بن زهر مودة.
حدثني أبو مروان الباجي، قال: كان أبو الوليد بن رشد ذكيا رث البزة قوي النفس، اشتغل بالطب على أبي جعفر بن هارون، لازمه مدة، ولما كان المنصور بقرطبة وقت غزو ألفنس استدعى أبا الوليد واحترمه وقربه حتى تعدى به المجلس الذي كان يجلس فيه الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاني، ثم بعد ذلك نقم عليه لأجل الحكمة، يعني الفلسفة. (4-1) محنة ابن رشد (الذهبي، تاريخ، نفس المخطوط ورقة 87ظ)
وسببها أنه أخذ في شرح كتاب الحيوان لأرسطوطاليس فهذبه، وقال فيه عند ذكره الزرافة: «رأيتها عند ملك البربر» كذا غير ملتفت إلى ما يتعاطى خدمة الملوك من التعظيم، فكان هذا مما أحنقهم عليه ولم يظهروه، ثم إن قوما مما يناوبه بقرطبة ويدعي معه الكفاءة في البيت والحشمة سعوا به عند أبي يوسف بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص فوجدوا فيه بخطه حاكيا عن بعض الفلاسفة: «قد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة.» فأوقفوا أبا يوسف على هذا.
فاستدعوه بمحضر من الكبار بقرطبة، فقال له: أخطك هذا؟ فأنكر، فقال: لعن الله كاتبه ، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه مهانا وبإبعاده وإبعاد من تكلم في شيء من هذه العلوم وبالوعيد الشديد، وكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في تركها وبإحراق كتب الفلسفة سوى الطب والحساب والمواقيت.
ثم لما رجع إلى مراكش نزع عن ذلك كله، وجنح إلى تعلم الفلسفة، واستدعى ابن رشد للإحسان إليه فحضر، ومرض ومات في آخر سنة أربع، وتوفي أبو يوسف في غرة صفر، وولي بعده ولي عهده ابنه أبو عبد الله محمد، وكان قد جعله في سنة ست وثمانين ولي العهد، وله عشر سنين إذ ذاك.
Неизвестная страница