لكن مصر فقدت في نصف القرن الأخير كثير من القيم التي كانت تؤمن التوازن بين المصريين بصورة مقبولة، ما السبب؟ الإجابة ليست سهلة؛ لأن مربع التفاعلات تضخم نتيجة أبعاد جديدة سياسية وإيديولوجية وقيمية، لكنها لم تحظى بثبات زمني يجعل ممارسة المصريين قادرة على انتقاء القيم الاجتماعية الاقتصادية بالتطور التدريجي من الداخل بحيث تظهر قيم وسلوكيات مقبولة لدى قطاع كبير من الناس.
فهل نشهد جمود أسس حضارة حائرة تطغى عليه أسس جديدة أو سالفة؟
الإجابة على التساؤل صعبة وتتناول الكثير من العناصر الفاعلة؛ أولها: تزايد السكان، وثانيها: الاستجابات السريعة لمشكلة تناقص الأرض الزراعية، وثالثها: المزيد من التحكم في مائية النيل، ورابعها: عدم التوافق بين أنظمة الزراعة الحديثة والموروث عند الفلاح من ممارسات استزراع الأرض، وخامسها: طغيان عوائد البترول والغاز الطبيعي والسياحة وهجرة العمل إلى الخارج مما أدى إلى فقدان التوازن بين استثمارات النشاط الزراعي بإجمال في الناتج الوطني العام، وسادسها: استثمارات محدودة لتطوير الإنتاج الصناعي الكبير والمتوسط مما أدى إلى ضعف مساهمته في الناتج العام، وسابعها: دخول الاستثمارات الأجنبية والرأسمالية الوطنية والأجنبية في الصناعات المصرية الغذائية المنتجة للسوق المصري والشرق الأوسط، وربما هناك عناصر أخرى كثيرة لكننا نتوقف عند هذه العناصر الهامة شديدة التأثير على التوجهات الاقتصادية في مصر، وربما كانت هي أحد أسباب البلبلة في اتجاهات الأنشطة بين الإنتاج - زراعة وصناعة وتصدير خامات الطاقة - وبين الخدمات التي تتوفر في السياحة والتجارة والنقل السلعي ونقل الأفراد.
الخلاصة أننا فقدنا توازنات كثيرة في الاقتصاد القومي ومن ثم العمالة والبطالة، وكلها أنجبت الكثير من القلق الاجتماعي السياسي معا الذي ظهر جليا في تكون أحزاب سياسية متعددة ليس لأغلبها برنامج مدروس بكفاية وإنما معالجات لمواقف منفصلة كحزب لسكان الجنوب أو آخر يدعو إلى العودة إلى نظام الملكية العامة مناهضا للخصخصة، والآخر يعترض على رواسب إنتاج العقود الأخيرة ويطلب إصلاحا سياسيا ديموقراطيا دون أن يكون له كيان سياسي شعبي وبرامج واضحة، وإنما يتخذ شكل تجمع غالبا ينفض إلى شعب متعددة عند مواجهة وقائع الأمور. (6) موجز المشكلات المصرية
مخططات تنموية أم شيزوفرينيا محلية؟
شيزوفرانيا تعني آراء وقرارات متناقضة تجاه نفس الشيء، ولدى الساسة ومتخذي القرار على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي يشمل عدد كبير من المتناقضات الناجمة عن اختلاف النظرية في الحكم والاقتصاد، واختلاف أبعاد الرؤى في كل مجتمع على حدة؛ ففي الأقاليم التي توصف بسيادة النظم الديموقراطية حالات تختلف كثيرا عن غيرها من أنظمة حكم أخرى فيما يخص القوانين والتشريع والتطبيق ومحاسبة كل من يخرج عن الإجماع المتفق عليه؛ بينما في النظم الأخرى التي تملك وتحكم بنظام الأبوة لشعب يحتاج قيادة تتقرر أهداف التغير المجتمعي القانوني والتشريعي بالارتباط بمصالح عليا محلية ودولية. ولأنها عادة غير نابعة من احتياجات الداخل تتساقط أهداف في دائرة النسيان فنعود من جديد نبني نقائض أخرى، وهكذا تسير الأمور غالبا «محلك سر» أو تقود إلى تغيير بطيء شديد التكلفة في الوقت والمال والجهد المبذول، ولو كان العالم النامي يرتب الأوليات والنقائض موضوعيا فلا بد أن الانطلاق سوف يصل إلى هدف أو آخر، لكن التوازنات الدولية والقومية وقوة الأقطاب العالمية لها حسابات أخرى معظمها لصالح القوى والفتات لصالح الشعوب.
هذه المقدمة قد تبدو معماة ولكنها كبد الحقيقة، ولو ألقينا عليها أضواء من تجارب مصر وممارساتنا المضنية سوف تتضح لنا أوضاع موجعة برغم كونها أصلا مفروشة بالنيات الحسنة.
نماذج مصرية خلال إطار زمني طويل أو قصير (1)
إن مصر بحكم تكوينها الجيولوجي فقيرة في المعادن مع استثناءات محدودة العدد، ربما كنا أغنى معدنيا في العصور القديمة، لكن الفراعنة قد استنفذوا الكثير المطلوب آنذاك من المعادن في جبال البحر الأحمر وسيناء الغربية وبخاصة الذهب والنحاس، وفي عصرنا الحالي، وبتكنولوجيا التعدين الحديثة بدأت مشروعات استخدام بعض الموارد التعدينية مثل فحم المغارة في شمال سيناء، وفوسفات أبو طرطور في الوادي الجديد، وحديد الواحة البحرية، فضلا عن موارد الطاقة الحفرية من البترول والغاز الطبيعي في الصحاري والمياه البحرية الإقليمية، ومن المعروف أن أهداف هذه المشروعات لا تتضمن إقامة مستوطنات عمرانية جديدة لحل مشاكل التكاثف السكاني، وتزاحمهم في الدلتا والوادي وفي المدن والحواضر؛ ذلك أن مناطق التعدين في أغلبها الأعظم ليست إلا مجرد معسكرات عمل هي ديموجرافيا معسكرات رجال لا يكونون مجتمعا متكاملا؛ لأن الموارد التعدينية غالبا ذات مخزون محدود حين يستهلك أو يصبح استخراجه أعلى تكلفة من سعره المحلي أو العالمي، يهجر العاملون المكان، وتبقى بعض أطلاله شاهدا على فترة زمنية ماضية مثل أطلال الفراعنة في استخراج المعادن. (2)
ما زال البترول (متناقص الموارد)، والغاز الطبيعي (متوازن المصادر) يشكلان ثروة مصر التعدينية الرئيسية، أما فحم المغارة فهو من نوع رديء (لجنايت) لا سوق له إلا في حالة الضنك التي لم نصل إليها بعد، ومن ثم فشل المشروع بعد إنفاقات استثمارية، والفوسفات أنفق عليه مليارات، وعلى الأغلب هو نوع جيد لكن سوقه العالمي مغرق وبالتالي فقد توقف العمل إلا قليلا، وأنواع الأسمدة الفوسفاتية كثيرة وتقوم عليها صناعة أحماض فسفورية مهمة، وعلى وجه العموم فإن الزراعة في أراض جديدة كمناطق استصلاح تحتاج إلى الأسمدة من كل الأنواع وبالتالي هناك حاجة له في مصر وآسيا وأفريقيا، ولا شك في أن المسئولين يقومون بتقصي حركة السوق العالمي وبخاصة في الصين والهند المستهلكين الأول للأسمدة عالميا.
Неизвестная страница