وفي هذا المجال هناك صراع فكري وإيديولوجي حول الاختيار بين بقاء بعض أشكال القطاع العام كالمواصلات الحديدية والاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل الجوي بين المدن وهيئة قناة السويس، وغيرها من المؤسسات الكبيرة، وبين التقدم في عمليات الخصخصة بصورة أكبر وأشمل. جانبا هذا الصراع يتخذ من شعار رعاية المصالح الوطنية مظلة له ولكن من منطلقين مختلفين أكثرهما اندفاعا وقوة في الوقت الحاضر التأكيد بأن القطاع الخاص أقدر على الإدارة الرابحة من القطاع العام مما يفيد المستهلك، بينما يرى مؤيدو بقاء أنواع من القطاع العام، ومشاركته بنسبة ما في مشروعات القطاع الخاص أنه أقدر على حماية المستهلك من القدرات الاحتكارية للقطاع الخاص.
والذي يهم في هذا المجال أن النمو الذي نشهده الآن للقطاع الخاص إنما هو تعبير اقتصادي عن ضرورة تراجع المركزية المصرية واقتصارها على التخطيط ورسم الأهداف وإشراف بقدر، وخاصة في المشروعات القومية الكبرى.
ولأن الموضوع الاقتصادي مرتبط بقوة بنظام الإدارة فإن تكوين وحدات إدارية في مصر أكبر من الأقسام الإدارية الحالية من أجل متسع إقليمي وسكاني للمبادآت الاقتصادية للقطاع الخاص غالبا من سيكون المطلب التالي الذي يضغط عليه القطاع الخاص لتحقيقه. وقد بدأت بعض الخطوات في هذا الاتجاه بتوسيع مساحات بعض المحافظات. وإن كانت حدود تلك التعديلات لا تزال غامضة وتلبي مطالب جيدة لكنها أعمال فرادى لا تشكل منظومة واضحة، إلا أنه مع ذلك بداية للتعديلات في أعداد وأحجام المحافظات في مستقبل قريب. (3)
نتيجة لعدم وضوح الحدود الفاصلة بين الوزارات الحالية بعضها البعض من ناحية، وعدم التفويض اللازم للسلطات المحلية من ناحية ثانية، وبخاصة المجالس المحلية المنتخبة؛ فإن الرؤية بين الأجهزة المختلفة أصبحت غير واضحة. بل تؤدي هذه الأوضاع إلى تضارب وسلبيات ساعدت على نشأة فراغات يستخدمها الأصوليون بأنواعهم في الدعوة إلى حماية الموروثات التقليدية في مواجهة التحديث والعلمانية.
الخلاصة أن المركزية تقليد مستمر في مصر لفترات ليست بالقصيرة. ولكن في بعض الفترات كان هناك حكم شبه محلي في بعض أقاليم مصر. ولا نقصد بذلك فترات تفكك الدولة في جزء من التاريخ الفرعوني، لكن القصد أن التغاير الإقليمي في الناس والإنتاج واستراتيجية المواقع وبطء الاتصالات قد جعل الفرعون يعطي تفويضا حقيقيا لبعض حكام الأقاليم ليعالجوا المواقف وهم على أرض الواقع. وقد كان هذا هو الحال بصفة شبه مستمرة في أقاليم الحدود كحكام أسوان وسيناء وغرب مصر.
ومثل هذه الأوضاع ربما تتضح للمدققين والمحللين في تاريخ الإدارة المصرية خلال كافة العهود من الفرعوني إلى المسيحي والإسلامي. لكن البحث والتقصي في هذا الموضوع يحجبه عن الرؤية قوة المقولة التي تؤكد أن المركزية المصرية وراثة ناجمة عن ظرف بيئي هو أن تنظيم مياه النيل يقتضي حكومة مركزية. هذا صحيح في جانب واحد هو تقدير الضرائب التي تذهب للخزينة المركزية، وخزائن المعابد والأبروشيات، والحكام المحليين في كل عصر من عصور مصر الطويلة. ومن هنا كان مقياس النيل ضرورة لا غنى عنها حتى الآن. وليس معنى هذا أن الأحوال تتردى خلال فترات تراخي المركزية؛ فالنيل يجري عاليا، أو منخفضا أيا كان شكل الحكم.
والحقيقة أن المركزية هي إحدي الإيديولوجيات الإدارية من أجل التنظيم الإقليمي وليست ضرورة حتمية لمكان بيئي محدد كمصر. وهي بذلك نظام قابل للتغيير حسب الظروف التي تمر بها مصر. المشكلة هي في قدر الاستجابة للتخفيف من المركزية. فإذا أمكن «فض الاشتباك» بين التخوف من فقدان السيطرة على الأمور من جانب أصحاب الفكر المركزي، وبين تطبيق أوفق لأشكال من الحكم المحلي الحالي فإن الأمور تأخذ مجرى سلس لديموقراطية أشمل على مستويات متعددة من القاعدة إلى العاصمة.
والزعم بأن المركزية الحالية قادرة على تنفيذ سياستها في كل مصر زعم فيه كثير من المبالغة. فالتحليل الدقيق يوضح كيف تستطيع الصفوة المحلية تطويع وإعاقة متطلبات القاهرة في مجالات عدة مثل زراعة محاصيل غير منصوح بها مقابل غرامة قد تدفع بالكامل، أو إقامة المساكن خارج كوردون المدن والقرى، ومن ثم الدعوة إلى تحديد كوردون جديد - هذا فضلا عن أن الكوردونات لم يتم وضعها كلها لنقص وقصور في تطبيق الصور الجوية على الخرائط المساحية.
7
كذلك علينا أن نرصد الضغوط من جانب الناس، أو مستجدات المواقف الاستثمارية الجديدة التي دعت الحكومة المركزية إلى إيجاد التعديلات الملائمة مثل تغيير حدود بعض المحافظات المصرية من منطلق أن ضم أراض صحراوية إلى المحافظات في الصعيد أو القناة يزيد من فرص الاستثمار والاستطيان خارج المعمور، وكذلك بالنسبة لمشروعات استثمارية كإنشاء المناطق الحرة وتكوين إقليم ذي مميزات إدارية خاصة في مدينة الأقصر وضواحيها. وقد احتاجت هذه التعديلات إلى مبادآت من رئيس الجمهورية لتخطي مركزية القرار. (10) لماذا نحتاج إلى تغيير الوحدات الإدارية؟
Неизвестная страница