وربما كانت أولى مساعي الهيمنة على العالم ذي الأهمية الإنتاجية والتجارية قد بدأ بنشأة ممالك إيرانية متعددة - ميديا وبارثيا وفارس - منذ نحو 550ق.م، امتدت حدودها في عهد الأخمينيين - جهود قمبيز وداريوس - من السند وأطراف وسط آسيا إلى مصر وشمال اليونان، متضمنة سهول الرافدين وبلاد الشام والأناضول. وبذلك سيطرت على كل تجارة الشرق من الهند والصين، وتجارة الشمال من سهول روسيا والبحر الأسود، وتجارة الجنوب والغرب من الشام ومصر وأعالي النيل، ولكن الإمبراطورية الإيرانية تحطمت في الغزوة الأسطورية الخاطفة للإسكندر المقدوني في 330ق.م، في فتوحات زادت في اتساعها على مساحة الإمبراطورية الإيرانية. وبالرغم من تفكك إمبراطورية الإسكندر بسرعة إلى ثلاث ممالك، إلا أن أكبر الأثر لهذه الممالك هو نشر الثقافة الهلينية - الإغريقية - في الأرجاء، وكانت الكتابات العلمية والفلسفية بهذه اللغة هي التي حفظت التراث القديم، الذي نقل إلى العربية في عصر الخلافة العباسية، ومن ثم إلى اللاتينية ولغات أوروبية فيما بعد.
ومنذ القرن الأول الميلادي تصارعت الإمبراطوريتان الفارسية والرومانية على حكم العالم ذي الأهمية. خط الصراع كان دائما سهول الرافدين. وبذلك لأول مرة نرى عالمين متعولمين على مساحات كبيرة: الفارسية في الشرق إلى الهند ووسط آسيا، والرومانية في الغرب من الشام ومصر إلى أوروبا الغربية. وقد كانت عولمة الإمبراطورية الفارسية إيرانية هندية الطابع، بينما عولمة الإمبراطورية الرومانية إغريقية لاتينية. كل الثروات بما فيها تجارة الصين وبلاد البلطيق وأفريقيا كانت تنصب في عاصمتي فارس وروما. وقد فرض كل منهما هيمنته العسكرية في تنظيمات إدارية محكمة أشهرها ما عرف في التاريخ باسم «السلام الروماني
». وهو المصطلح الذي استعارته الإمبراطورية البريطانية فيما بعد
، ويستعمله البعض الآن لوصف الهيمنة الأمريكية
بدعوى أنهم خلفاء روما - فيا للعجرفة ومنتهى الغرور!
وفي القرن السابع الميلادي سقط العالم الفارسي تماما أمام الحضارة الإسلامية، وكذلك سقط الجزء الأكبر من بيزنطة - خليفة روما - وامتد العالم الإسلامي من حدود الصين والهند إلى وسط آسيا والقوقاز، وإلى الشام ومصر وكل أفريقيا الشمالية والأندلس. وبذلك انتهت ازدواجية القوى الشرقية والغربية إلى قوة واحدة ذات حضارة إسلامية واحدة متعددة اللغات، وإن ظلت اللغة العربية هي لغة الكتاب والثقافة لفترة طويلة. لقد استوعبت العولمة الإسلامية في أرجاء هذا العالم كل الأصول الإيرانية الهندية التركمانية من ناحية، والكثير من الثقافات الإغريقية والتنظيمات الرومانية المنتشرة في حوض البحر المتوسط. كما امتدت إلى شرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وأنشأت علاقات تجارية مباشرة مع الصين وبلاد الروس والبلطيق وأوروبا.
وفي القرن 13 تكونت إمبراطورية المغول العسكرية من الصين إلى شرق أوروبا، وأغارت على البقية الباقية من الخلافة العباسية، وربما كانت بذلك أكبر إمبراطورية متكاملة على يابس أوراسيا، لكنها سرعان ما انقسمت بتأثير الحضارات التي ضمتها: فالمغول في الشرق صاروا صينيين، وفي الغرب والجنوب صاروا مسلمين، وفي شرق أوروبا تحولوا تدريجيا إلى المسيحية الأرثوذكسية. فقد كان العالم المغولي مجرد فتوح عسكرية دون عولمة ثقافية متأصلة الجذور، ودون تنظيم اقتصادي شامل، بل كان يعتمد على النظم السابقة إلى أن ابتلعتهم الثقافات والحضارات التي حكموها.
ويمثل المغول آخر العوالم الكبرى في العصور الكلاسيكية. فقد أخذ العالم يتفتت إلى إمبراطوريات وأمم محدودة المساحة، ومبنية على مؤسسات ثقافية محدودة كاللغة أو الدين فقط، مثل ذلك الإمبراطورية العثمانية يقابلها ممالك أوروبية في طور النمو والتقدم، أهمها إمبراطوريات النمسا وفرنسا وبريطانيا وروسيا، إلى جانب إسبانيا والبرتغال اللتان سعيا للخروج من غلالة الحضارة الإسلامية طوال القرنين 14 و15، ثم راحت تبحث عن طرق التجارة العالمية بعيدا عن احتكار العالم الإسلامي. وبذلك تأصلت نظرية «الدولة القومية»، وهي عكس أفكار العولمة القائمة على تخطي مؤسس حضاري واحد كاللغة أو السلالة والعرق أو الدين والمذهب. فكأن العالم دار دورة كاملة وعاد من حيث أتى دولا صغيرة كدول الحضارات الأولى!
ولكن المنافسات المميتة بين الدول القومية من أجل الهيمنة على طرق التجارة العالمية كتبت تاريخا طويلا من الصراع بين أساطيل هذه الدول وأساطيل شركاتها الكبرى: صراع وحروب بين الأسبان والبرتغال والهولنديين والفرنسيين والإنجليز في بحار الهند والعرب وجنوب شرق آسيا والبحار الأمريكية. وفي النهاية فازت بريطانيا بالجزء الأكبر، وأصبحت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. والخلاصة: أنه أصبحت هناك ثلاثة عوالم: الإنجليزية - بما في ذلك الولايات المتحدة - والفرنسية والإسبانية. وبعد استقلال المستعمرات في النصف الثاني من القرن العشرين حلت مؤسسات قانونية لتجمعات سياسية محل العوالم السابقة، فأصبح هناك رابطة الكومنولث البريطاني، والتجمع الفرانكوفوني، والروابط الثقافية بين دول أمريكا اللاتينية وبين إسبانيا والبرتغال.
وفي ذات الوقت كانت روسيا تتقدم ببطء منذ القرنين 17 و18 على المحاور البرية المؤدية إلى اتجاهات: هي الاتجاه جنوبا في البلقان والقوقاز على أنقاض الدولة العثمانية، والاتجاه جنوبا بشرق إلى وسط آسيا صوب إمارات سمرقند وبخارى وغيرهما، والاتجاه شرقا مع غابات سيبيريا حتى المحيط الهادي قبالة الصين واليابان، ثم عبروا المحيط واستعمروا ألسكا - إحدى ولايات أمريكا الآن - والجزر القريبة من الساحل الكندي الغربي، وبذلك كونت روسيا دولة شاسعة تشابه الدول الكلاسيكية في الأزمان الماضية، وحين تفكك الاتحاد السوفيتي صار هناك كومنولث يربط روسيا والدول التي انسلخت عنها - تماما كما حدث للإمبراطورية البريطانية. فالسوابق واللواحق واحدة، انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية في ستينيات القرن العشرين لحقه بعد أربعة عقود الانهيار السوفيتي قرب نهاية القرن!
Неизвестная страница