منذ نحو ثلاثة أشهر دخلت المبنى الفاخر للتليفزيون والإذاعة في أسوان - القناة الثامنة - من أجل حديث عن النوبة والنوبيين ومستقبل الجنوب بما في ذلك السد العالي ومشروع توشكى. ومنذ ذلك التاريخ وأنا أتابع إرسال القناة الثامنة كلما سنحت لي الفرصة. وأصبحت معجبا بالنشاط الإعلامي للشباب من أهل أسوان والجنوب الذين يقدمون برامج ذات موضوعات جيدة هي في الواقع ليست تكرارا لما نراه في قنوات مصرية أخرى.
والحق أن منطقة جنوب مصر من قنا جنوبا هي مختلفة عن بقية الصعيد. فالسكان هنا ينتمون إلى عدة مجموعات ذات أصول قبلية وإثنولوجية متنوعة. فإلى جانب الخليط السلالي الذي نسميه أهل الصعيد، والذين يمتدون في مراكز قنا والأقصر وإسنا، فهناك مجموعات أصغر عددا هي العبابدة المستقرون على الحاجز بين الصحراء والوادي المزروع، ويكثرون في الأقصر وكوم أمبو. وهناك الجعافرة المتمركزين في إدفو وشمالا إلى إسنا وجنوبا إلى كوم أمبو، وأخيرا وفد إليهم سكان النوبة في شرق حوض كوم أمبو بعد تهجيرهم في أوائل الستينيات على إثر إنشاء السد العالي.
وكل هؤلاء يسكنون الآن إلى الشمال من مدينة أسوان الحالية. وفي الماضي القريب كان النوبيون يسكنون إقليما طويلا من مدينة أسوان جنوبا إلى الحدود مع السودان وعبره إلى شمال السودان. وسواء كان هناك سكان في بلاد النوبه جغرافيا أو تغمرها مياه بحيرة ناصر، فإن أسوان كانت منذ ستة آلاف سنة وإلى اليوم بوابة مصر الجنوبية إلى كل الأقاليم السودانية والأفريقية. وسبق أن ذكرت في الفصل الأول أن أسوان كلمة مصرية قديمة تعني السوق، وقد كانت فعلا السوق الذي يتجمع فيه كل سلع المناطق المدارية من أفريقيا - عاج وريش نعام ونباتات طبية وجلود حيوانات مختلفة وأنواع من أخشاب الروائح الزكية مثل الصندل وغير ذلك كثير. بل أيضا كانت هناك سلع من شرق السودان وإريتريا وجنوب البحر الأحمر، وبخاصة أنواع من نباتات البخور التي تأتي في السفن من الصومال واليمن وحضرموت أو في قوافل برية عبر الأودية الصحراوية الكبيرة وبخاصة وادي العلاقي ووادي كورسكو.
لهذه الأهمية كانت لمنطقة أسوان استراتيجية خاصة مماثلة لرفح والعريش في الشمال، بل ربما أكثر وأهم لأسباب منها: أنه في فترات كانت هناك ضغوط من الشعوب الزنجية شمالا في اتجاه مصر وبخاصة في عصر الدولة القديمة. هذه الحركات الشعوبية ربما نشأت مع متغيرات المناخ إلى الجفاف في شمال السودان الحالي ومن ثم الالتجاء إلى أراضي الوفرة النيلية في مصر. ولوقف الزحف الجنوبي وللحفاظ على منابع النيل في منطقة الجنادل - التي كان المصريون في فترة ما يعتقدون أنها حقا منابع النيل، عين الفراعنة منذ الأسرة الرابعة والخامسة أمراء من الأسر الحاكمة ولاة وحكاما في أسوان لضبط الأمور بتفويض أميري يستطيع اتخاذ السياسات والمبادرات على أرض الواقع. وكان مقر الحكم في جزيرة أسوان الحالية التي يقع فيها متحف أسوان وقرى النوبيين وفندق أوبروي. كان هذا المقر يسمى «آبو» بمعنى سن الفيل، وهو المعنى الذي حدا بالإغريق إلى ترجمته إلى «إلفنتين»، وما زالت تشتهر به في الكتابات الأجنبية. وكان حاكم آبو ينظم كل أشكال البعثات التجارية حسب مواسم المطر والجفاف إلى شمال السودان مع النيل إلى دنقلة، ومن ثم جنوبا إلى كردفان ودارفور أو استمرارا مع النيل إلى مروى ووادي العطبرة إلى جبال إثيوبيا.
وحينما تغلغلت دولة الفراعنة عسكريا واقتصاديا وسياسيا جنوب أسوان أنشئوا قلعة جديدة وسوقا في سمنة عند الشلال الثالث، ومن ثم تمصرت منطقة النوبة الجغرافية من الشلال الرابع عند أهرامات نباتا إلى أسوان.
من هم سكان هذه المنطقة؟ على الأغلب أنهم في النوبة السفلى من الشلال الثالث إلى أسوان لم يكونوا مختلفين كثيرا عن أصول المصريين من أسوان إلى إدفو وإن أخذت بعض ملامح الزنجانية تغزوهم بعض الشيء. أما سكان نباتا ودنقلة فالأغلب أنهم كانوا في مواجهة المد الزنجي القادم من الجنوب بحكم موقعهم الجغرافي. وتداخلت مجموعات أخرى من شبه البدو الأفريقيين وأشهرهم البليمي - ربما كانوا أجداد قبائل البجة من البشارية والعبابدة وغيرهم، والنوباتاي قدموا من الغرب - ربما من الواحات - بتشجيع من السلطة الحاكمة في مصر لصد البليمي. ومن هؤلاء شاع اسم النوبا والنوبة على إقليم النوبة السفلي، برغم أن «ن ب» أو «ن و ب» كلمة فرعونية تعني الذهب. أما النوبة العليا فقد شاع تسميته «إثيوبيا» في العصر الهلنستي (إغريقي- روماني).
وفي العصر الإسلامي كانت أسوان منطقة تجمع القبائل العربية التي غزت السودان تدريجيا من القرن العاشر الميلادي وما بعده، فعربت وجه السودان الشمالي والأوسط والغربي وأصابت عملية التعريب بلاد الكنوز وإن ظلوا محتفظين بلغتهم الأصلية.
واليوم أسوان ما زالت بوابة الجنوب بما فيها من خليط سكاني قديم وحديث، وما تزخر به من آثار وتاريخ وجمال طبيعي وقوة عمران المدن السياحية والإدارية والصناعية معا.
الفصل الخامس
السياحة كصناعة
Неизвестная страница