والمطلوب في استزراع المناطق الصحراوية نمط جديد من الري بالرش أو التنقيط أو الري المحوري - حسب نوع المحصول، بعيدا عن الري بالغمر الذي درج عليه الفلاح آلاف السنين. لكن ذلك بعيد المنال لا يتحقق بسرعة فليس بالإمكان تغيير ممارسة الفلاح المعتادة بالسرعة المطلوبة حتى مع الإرشاد. وقد شاهدت ذلك رؤية العين في مناطق استصلاح محدودة وبالذات في بعض المستوطنات الزراعية في واحة الفرافرة وواحة أبو منقار الصغيرة إلى الجنوب منها، حيث هناك قرى صغيرة تشبه إلى حد كبير قرى الوادي والدلتا من حيث تكاثف المساكن واستخدام الحطب والري بالغمر ... إلخ. ومثل هذا في بعض مناطق استصلاح غرب الدلتا وبخاصة مديرية التحرير - سابقا - والنوبارية. هنا أو هناك أساليب زراعية موروثة وناجحة على مقاييس صغيرة؛ لأن الشرط الأول والهام جدا هو وفرة المياه الباطنية في الفرافرة «لكم من السنين؟» أو مياه النيل في الترع والرياحات في مستصلحات غرب الدلتا وشرقها. (13)
تنقسم أبو منقار - على صغرها - إلى قسمين هما: قسم موزع على الأهالي وقسم موزع على الخريجين. وعلى نقيض النجاح النسبي في أبو منقار الأهالي نجد نجاحا متدنيا أو متراجعا في أبو منقار الخريجين. لماذا ينجح الأهالي بدرجة أعلى من الأرض المخططة والموزعة على الخريجين؟ سؤال مهم ليس فقط بالنسبة لحالة أبو منقار، بل أيضا تكاد تنطبق بصور أخرى على أراضي الخريجين بوجه عام مثل أرض البنجر في شمال ترعة النوبارية أو أراضي الحبوب على بحر يوسف في المنيا. هل هناك أسباب معلومة هي المسئولة مثل عدم رغبة الخريج في ممارسة الزراعة؛ لأن هناك أعمالا أخرى وخدمات في المدينة تجذبه وأسرته ومن ثم ينظر إلى الأرض التي وزعت عليه نظرة المالك الغائب فيتركها إيجارا أو مشاركة مع فلاحين حقيقيين لكنهم لا يلتزمون بحسن الأداء؛ لأن الأرض لا تخصهم حيازة أو ملكا؟ أم أن هناك أسبابا أخرى إضافية كالغربة في حقول بعيدا عن قريته أو بلدته وبالتالي هي أسباب نفسية عميقة الأثر. أم هناك مؤثرات إدارية في التوزيع أو في الحصول على مياه الري أو الشرب أو تسويق المحصول لشركة احتكارية واحدة؟ كل هذه أسئلة قد لا نجد إجابة واحدة فكل منطقة لها خصائص مختلفة وناس من موروثات مختلفة وإدارة مختلفة النشاط ... إلخ. (14)
هل مخطط أراضي الخريجين قانون أبدي لا يمكن تدارك بعض أو كل سلبياته؟ ألا يوجد من يصارح بالفشل، أو نجاح غير محسوس ومن ثم تتخذ إجراءات، أو لوائح جديدة، أو تترك للراغبين من الفلاحين سواء كانوا ملاكا أو معدمين. وربما كان الملاك أكثر قدرة على الزراعة في أرض الاستصلاح، وبالتالي تفعيل الهدف من قيام الدولة بالأعمال الأساسية في الاستصلاح وتحصيل إنفاقاتها على سنوات عديدة؟ ولكن علينا أيضا أن نرفع مساحات التخصيص من خمسة أو عشرة أفدنة إلى حدود عشرين أو أكثر كي تصبح الأرض قادرة على الوفاء بحياة الفلاح المالك؛ لأن هذه أرض هامشية الإنتاج باعتبار أصلها الصحراوي، وقد تحتاج لكي تتحسن مكونات تربتها إلى عقد أو أكثر. (15)
ألا يلقى مشروع أراضي الخريجين ضوءا على مشروع مواز هو مشروع أو مشروعات إسكان الشباب؟ ألم يأذن الوضع بمراجعة مثل هذه المشروعات في المدن الجديدة؟ ألا يخرج المسئولون إلى بعض هذه المخصصات ليروا على الواقع كم هناك من شقق وزعت على خريجين، أو شباب لكنها شقق غير مسكونة، أو مؤجرة، أو كالبيت الوقف لا يحل فيه ولا يربط؟ (16)
الموضوع ليس ضد الغرض في مساعدة الشباب والخريجين، ولكن هناك عشرات الأسباب للعزوف ومعظمها معروف، وتتلخص في أن هذه المناطق «منامة» أكثر منها سكن في مدينة متفاعلة بأعمال تستوعب الشباب من خدمات تعليم، وصحة، ورعاية اجتماعية، ومحلات للسلع والأغذية، وغير ذلك من لزوميات المعيشة المستقرة بدلا من أن يسكن في مكان ويدفع يوميا مصاريف انتقال إلى العمل تحصد جانبا من مدخوله المحدود! لماذا لا يعاد النظر ويستفتى المستفيدون أو تترك الأمور لتقدير الناس؟ اللوائح والتشريعات ليست أزلية ويمكن تعديلها، أو تحويلها إلى منافع أجدى ... (17)
المشكلة السكانية هي موضوع آخر كثيرا ما علقنا عليه مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية هو أن النمو السكاني المصري يحصد الكثير من الإسهامات في التقدم الاقتصادي. النمو السكاني عملية تتدخل فيها عناصر بيولوجية، واجتماعية - اقتصادية ودينية وميراث تقليدي عن العزوة العددية. وقد اقتصرت الدعوة إلى تنظيم السكان في مصر على الجوانب البيولوجية وبعض الجوانب الاجتماعية كفرص التحسن الاقتصادي، والتعليمي، والصحي للأسرة. وعاكس الدعوة عناصر أخرى من رجال كافة الأديان والملل واستمرار نسبة الأمية العالية، وتقاليد اجتماعية أخرى على رأسها ضرورة إنجاب ذكور من زيجة أو أكثر؛ ولهذا اعتبر عدد الأبناء مجلبة لقوة اقتصاد الأسرة طوال نمط الأسرة الممتدة التقليدية في المدينة والقرية، حيث يستقر الولد بعد زواجه في بيت العائلة مقابل خروج البنت إلى أسرة زوجها. ولهذا فبرغم الاقتناع العقلاني بضروريات تنظيم الأسرة يظل الوضع متأزما بين الموروث من العادات والمعتقدات، وبين الاحتياج إلى تحسين أوضاع الأبناء بالتعليم، وبشكل من الحياة أوفق مما لو زاد عدد الأبناء. منذ ثلث أو ربع قرن كنا نرى أطفالا وناسا في القرية يلبسون الحد الأدنى من الملابس التقليدية النظيفة وكثير من المرقعات. والآن نرى الأطفال في القرية وقد كثر دولاب ملابسهم بالحديث من الثياب القطنية والصوفية. ربما يكون هذا إشارة إلى أن شكلا جديدا من مناحي الحياة قد حدث غالبا نتيجة التعليم وتحسن الدخل نسبيا، أو تقسيمه إلى عدد أقل من أعضاء الأسرة. ومثل هذا في المدينة وأكثر. (18)
صحيح أن النمو السكاني في مصر مازال عاليا حتى الآن لكنه أقل قليلا من المتوسط العالمي لنمو السكان. هذا المتوسط هو 2,2٪. كان النمو المصري للسكان نحو 2,5٪ في إحصاء 1980، هبط إلى نحو 2,3٪ عام 1990 ثم إلى 1,9٪ في تقديرات 2004؛ أي إننا في نحو عقدين من الزمن نجحنا في الهبوط بنسب النمو السكاني نحو 0,6٪ وهو قدر جيد ويبشر بخير. فلو استمر الهبوط بهذه النسبة فإننا قد نصل إلى 1,3٪ نمو سنوي في الفترة 2004-2024، وإلى نسبة نمو تكاد تقترب من واحد أو أقل قليلا من واحد في المائة ربما 2040. ولكن علينا أن نتذكر أن الهبوط، أو الإقلال من شيء يصبح في بدايته بطيء ثم يسرع الخطى تدريجيا. وبناء على ذلك فإن النسب المتوقعة في الهبوط سوف تزيد - بمعنى أن الهبوط الأولي في عقدي أواخر القرن الماضي كان 0,6٪ وغالبا سوف يزداد الهبوط في العقدين الأول من القرن الحالي ليصبح ما بين 0,7 إلى 0,9٪ وهكذا ربما نصل إلى نسبة نمو واحد٪ حوالي الفترة 2025-2030. لكننا قد لا نشعر بتأثير انخفاض نسبة النمو السكاني؛ لأن الكتلة السكانية المصرية كبيرة ومن ثم فنمو 1,9٪ ما زال يعطي عددا كبيرا من المواليد بينما 1,1٪ سوف يعطي أعدادا أقل، وهكذا تقل أعباء البحث عن وظائف وأعمال للزيادة السكانية السنوية تدريجيا، مع اللون الأخضر الأراضي الزراعية القديمة، والأخضر الفاتح الأرض الجديدة كما في غرب وشرق الدلتا البيضاء، النقاط البيضاء تمثل مواقع ومساحة المدن والقرى داخل الوادي والدلتا. (19)
تأهيل أحسن ينفتح معه أفق أوسع للمهن والوظائف. هذه صورة متفائلة يمكن أن تحدث إذا لم تحدث مداخلات مجتمعية أخرى تعرقل سيرها. (20)
ولا شك في أن نسبة النمو في المدن أقل من تلك بين ساكني الريف بمدنه الصغيرة وبلداته وقراه، وذلك لأسباب على رأسها عنصران هما: (أ)
حياة المدينة ليس فيها التساند الاجتماعي الذي يبدو حتى الآن عاملا فعالا في الريف حيث يعرف الكل الكل على وجه التقريب. والتساند هنا يبدأ من الأقارب إلى جيرة الحارة. أما المدينة فسكان بيوتها ليسوا بالضرورة أقارب، وقليلا ما يكونون معارف، وبالتالي فإن الأعمال غير الماهرة بين الحين والحين هي الضمان الوحيد لتجنب الجوع بين الفقراء، أو الشحاذة أو إرسال «وإلقاء» الأطفال من الجنسين إلى الشارع كي يكسبوا عيشهم - وكثيرا ما ينقادون إلى شتى أشكال الجريمة المنظمة وغير المنظمة. (ب)
Неизвестная страница