فأهل المدينة يأتون ليشتروا حوائج منزلية، وليتبادلوا الأخبار المختلفة، والفلاحون يبادلون ما يحملونه من قطعان الحقول ومحصولاتها بالبضائع التي لا توجد إلا في المدن، ويجيء كثير من السيدات النبيلات - يتبعهن الخدم - لينتقوا من بين المعروضات ما يروقهن من الجلابيب المزخرفة والصنادل الجميلة.
وكنا نرى غير ذلك كثيرا من الغرباء، وقد رأينا حيثيا من قادش وحوله مظهر خاص به يميزه عما سواه؛ يضع على رأسه غطاء عالي القمة، وبشرته صفراء، وحذاؤه ثقيل، ويسير ملتفتا حواليه وعيناه تبرقان بحب الاستطلاع والجشع، كأنه يعتقد أن طيبة خير مدينة للنهب والسلب. وشاهدنا كاهنا من الطبقة العليا، يسير برأسه المحلوق لافا حول كتفيه جلد نمر، ممسكا بيده درجا من درج البردي، ويتبعه سرديني يسير متغطرسا، وقد انعكست أشعة الشمس على قرني خوذته، وتمايل السيف المعلق بجانبه، وليبي من رماة القوس يتبعه بقوسه، ويلفت الأنظار إليه بريشتيه المعلقتين في غطاء رأسه.
وكان الجميع منهمكين في البيع والشراء والمبادلة. والنقود التي نستعملها الآن كانت مجهولة في تلك الأيام، ولهذا كانت المبادلة أساس المعاملة التجارية.
وكثيرا ما كانت المناقشة تحتد والأصوات تعلو إذا ما اختلف على عدد السمكات - مثلا - التي يصح أن تبادل بفراش، أو على عدد أكياس البصل التي تقدم في مقابل مقعد فخم، وهكذا. ولما كان المصري - بطبعه - ميالا للمساومة ماهرا فيها، فقد كانت ضوضاء الكلام لا تنخفض أبدا، وكثيرا ما كان يخرج بعض التجار عن العادة المتبعة في المبادلة، فيبادلون بالخواتم النحاسية والفضية والذهبية بدلا من البضائع. فإذا أراد فلاح أن يبيع ثورا يقدم له التجار نظيره تسعين خاتما نحاسيا، ولكن الفلاح يشكو قلة الثمن، ويصرح بأن مثل هذه المبادلة تعد سرقة، وبعد مشادة طويلة يرفع التاجر عدد الخواتم إلى أحد عشر فوق المائة، فيتم الاتفاق بذلك؛ ولكي يتحقق الفلاح بأنه لم يخدع يعمد لوزن الخواتم، ويأتي بميزان كبير، ويضع الخواتم في كفة، ويضع في الكفة الأخرى أثقالا (على شكل رءوس الثيران)، ولا يهدأ ثائره إلا إذا انخفضت كفة الخواتم، ولكن رغم حذره وشدة احتراسه، فإنه لا يجمع الخواتم في كيسها ويسير في حال سبيله، حتى يكون التاجر قد استرجع كثيرا من الخواتم إلى محلها الأول.
وبعد ذلك ضربنا خيمتنا، وعرضنا فيها ما حملنا من نفائس البضائع، وكانت أقمشة ذات ألوان زاهية، وكان جارنا صائغا، وهو دائما منهمك في عمله، قابض على منفاخه، وأمامه فرنه الصغير، وكان يلحم سوارا لامرأة تنتظره بصبر وأناة .
وفي إحدى نواحي السوق يقع منزل كبير، ولم تكن به بضائع ولا معروضات، وكان الناس يدخلونه زرافات زرافات، وكان كثير من العمال يدخلونه، ثم يغيبون برهة، ويخرجون وهم يمسحون أفواههم ويترنحون في ضعف وانحلال.
ولقد رأيت شابا يترنح يتجه نحو باب المنزل، وكان بجانبي رجلان، فلما رآه أحدهما قال لزميله: «إن بنتوير ذاهب مرة أخرى ليمضي يوما في سرور؛ سوف تكون نهاية هذا الشاب سيئة.»
وخرج - بعد وقت قصير - بنتوير، وكانت قدماه لا تستطيعان حمله، وبعد أن تمايل ذات اليمين وذات اليسار، سقط على الأرض لا حراك به كمن فقد الحياة، وترك على هذه الحالة المخزية، والمارة يضحكون منه دون أن يكترثوا لشأنه، وحدث أن مر به رجل وابنه، ولما تأمله قال لابنه: «انظر إلى هذا الشاب يا بني، واتعظ بمصيره، وعاهد نفسك ألا تشرب خمرا، فإنها تتلف صحتك، وتلوث نفسك بالأوحال، فإن صرعت يسخر منك الناس، ولا يمد لك أحد يد المعونة، حتى رفقاؤك، فإنهم يتركونك ويذهبون ليشربوا، ولا ترى إلا راقدا في الطين وغائبا عن الوجود.»
ولكن أمثال هذه النصائح كانت تذهب هباء؛ لأن المصري ميال بطبعه لقضاء اليوم الطيب - كما كان يدعو اليوم الذي يمضيه في الحان- حتى السيدات الجميلات كن يشربن حتى يتعذر عليهن المشي، ويرفعن وهن في حالة إعياء إلى منازلهن.
مضينا في سيرنا ببطء وتمهل، حتى اقتربنا من الحي المقدس في المدينة؛ حيث لاحت لأنظارنا المعابد العالية والمسلات العظيمة من فوق أسطح المنازل.
Неизвестная страница