Египет от Насера до Октябрьской войны
مصر من ناصر إلى حرب
Жанры
1
لن أتناول هنا سيرة حياة الرئيس السادات؛ فهي معروفة بالطبع للجميع. لقد أصبح السادات رئيسا للبلاد على إثر وفاة ناصر في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر 1970م. وكان السادات في الأيام الأخيرة التي سبقت وفاة ناصر نائبا للرئيس - النائب الوحيد - ولعل هذا الأمر من بين الأسباب التي لعبت دورا حاسما في أن يكون هو وليس غيره رئيسا لمصر.
سرعان ما دفع الموت المفاجئ لناصر بالمشكلة الأهم، وهي من الذي سيصبح رئيسا للبلاد. وطبقا للدستور المصري يصبح نائب الرئيس في هذه الحالة هو الرئيس المؤقت للبلاد لمدة ستة أشهر. وفي السياق العادي للأحداث يكون من المنطقي أن يعتلي منصب الرئاسة الشخص الأقرب وفقا لمنصبه الحكومي. وقد كان هذا الشخص هو السادات الذي سرعان ما بدأ الحديث في الدوائر الحاكمة عمن سيصبح رئيسا بعد وفاة عبد الناصر، ذلك أن فكرة أن يصبح السادات هو الرئيس بدت للكثيرين (إن لم يكن للأغلبية) من الشخصيات البارزة أمرا سخيفا. وقد أعرب عن رغبتهم أو استعدادهم لتسليم مقاليد الحكم شخصيات من أمثال: زكريا محيي الدين وهو سياسي بارز ذو توجه رأسمالي، صاحب عقل راجح وأهداف واضحة، كما أن له خبرة في مجال إدارة الدولة. حسين الشافعي، من أوائل أعضاء تنظيم «الضباط الأحرار»، ومن أنصار الرئيس ناصر في الثورة، غير أنه يتميز بفكر سياسي رجعي وأفق محدود. اهتم بالإسلام بالدرجة الأولى، وإن ظلت لديه طموحات كبيرة، ومن بين الذين تطلعوا إلى كرسي الرئاسة علي صبري، أحد المقربين من ناصر، وهو مثقف تقدمي من أسرة ثرية، ولكنه كان يسعى في الوقت نفسه إلى تقدم مصر ودعم علاقاتها بالاتحاد السوفييتي. وبطبيعة الحال كان هناك النائب الوحيد للرئيس، الذي تسلم هذا المنصب منذ فترة غير بعيدة، ويمكن القول: إنه جاء إليه بالصدفة نتيجة نزوة «تغيير الكوادر» دوريا التي كان يطبقها ناصر.
كان من الممكن أن يؤدي الصراع على السلطة إلى عواقب وخيمة على البلاد في تلك الفترة التي كان جثمان ناصر إبانها لا يزال في انتظار مواراته الثرى، وقد احتدم الجدل بين قادة البلاد حول كيفية حل مشكلة الرئاسة. كنت في القاهرة آنذاك ضمن الوفد السوفييتي الذي وصل لحضور مراسم جنازة ناصر. كان سؤال لمن ستئول السلطة في القاهرة يثير اهتمامنا بطبيعة الحال؛ فقد كانت هناك أمور عديدة تتوقف على من بيده اتخاذ هذا القرار، ولعل من أهم تلك الأمور هو مصير مصر في القريب العاجل، ثم النهج السياسي الذي ستتبعه، والعلاقات مع الاتحاد السوفييتي، وكلها كانت تشكل أمورا جوهرية سواء لمصر نفسها، أو للاتحاد السوفييتي.
لم نتدخل بالطبع في الشئون الداخلية لمصر، على أنه نما إلى أسماعنا، إذا جاز القول، أصداء الصراع من أجل السلطة، فعلمنا، حتى من خلال الحديث أحيانا مع رجال دولة أجانب من بين الذين وصلوا إلى القاهرة للمشاركة في الجنازة. لقد تناولت هذا الموضوع - على وجه الخصوص - في حديثي مع ألكسي كوسيجين ومع الأتاسي رئيس سوريا آنذاك، وكذلك مع الرئيس الجزائري بو مدين، ومع رئيس المجلس الثوري للسودان النميري. كان الأخير شديد القلق ألا يصل إلى السلطة في مصر الشخص المناسب، إلى حد أنه - بما كان يتميز به في تلك الفترة من سذاجة وسلامة طوية - راح يلح على ألكسي كوسيجين أن «يجمع كل رجال الدولة في مصر ومعهم النميري ليقترحوا من الذي ينبغي أن يكون هو الرئيس». وإلا، وفقا لمخاوف النميري، تفرق شمل القادة المصريين أو اختاروا، دون تنسيق، رئيسا رجعيا. بالنسبة للسودان، كانت العلاقة مع مصر تمثل أهمية قصوى. وكما علمنا بعد ذلك، فقد اقترح عزيز صدقي، رجل الدولة البارز والمؤيد لتطوير التعاون مع الاتحاد السوفييتي، حلا وسطا. طرح صدقي فكرة أن يشغل منصب الرئيس الذي يبدو تعيينه أكثر منطقية ولو من الناحية الشكلية؛ فهذا الحل ذو الطابع الوسط يمكن أن يهدئ النفوس ولو مؤقتا، ولا يسمح بخلق انطباع بوجود قلاقل سياسية في مصر. وجد هذا المبدأ قبولا، ولم يكن من الصعب أن نخمن أن المرشح المناسب وفقا لهذا المبدأ هو السادات وحده، باعتباره نائب الرئيس، والذي تسلم مقاليد السلطة رسميا، «ولو مؤقتا»، في يديه. وقد أبلغنا السادات بذلك وهو في غاية السرور بالطبع . وفي نفس لحظة تعيينه قام بما لديه من صلاحيات بتعيين كل من حسين الشافعي وعلي صبري نوابا للرئيس. أما الشافعي فلأنه كان يطمح إلى منصب رئيس الوزراء، عوضا عن منصب الرئيس، والذي لم يكن أهلا له على الإطلاق. وأما علي صبري، فاختاره السادات لكي يخفف من حدة التناقضات معه، وهي تناقضات سرعان ما ظهرت على نحو درامي بالنسبة لعلي صبري نفسه. وجاء منصب رئيس الوزراء من نصيب محمود فوزي، أقدم رجال الدولة وأكثرهم خبرة وصاحب التوجهات البرجوازية. على هذا النحو بدت كل القوى، التي كانت طامحة للسلطة في البلاد، كما لو كانت قد ارتضت بالفعل بالوضع باعتباره وضعا مؤقتا، عدا تلك القوى اليمينية صراحة مثل زكريا محيي الدين، ثم الدوائر الدينية اليمينية. وقد قبل الضباط الأحرار القدامى بتعيين الشافعي، وقبلت البرجوازية المصرية الكبيرة بتعيين فوزي، والجزء الأكثر تقدمية من الناصريين بتعيين علي صبري. وقد تم إعلان أن السادات سوف يشغل منصب الرئيس مؤقتا لحين إجراء استفتاء شعبي عام. وهذا القرار كان يعكس في الواقع عدم الثقة في موقف السادات نفسه، وكان - على الأرجح - حلا وسطا وافق عليه كل من كان طامحا إلى هذا المنصب؛ إذ كان من الممكن إعلان السادات تلقائيا رئيسا، باعتباره شاغلا لمنصب نائب الرئيس ليظل في هذا المنصب لمدة طويلة، وليس فقط لسنوات ست كما ينص الدستور على ذلك، وإنما إلى أن يتم حل الصراع مع إسرائيل؛ فقد كان ناصر يمتلك هذه المهلة. تم تعيين السادات رئيسا بصفة مؤقتة، وقد قرر أن يسعى لتصفية حساباته فيما بعد مع الذين أصروا على الأرجح، على تعيينه «مؤقتا» بصوت أعلى من الآخرين.
بعد برهة من الزمن، وفي ديسمبر عام 1970م، وبعدما استطاع السادات أن يتكيف بعض الشيء مع وضعه الجديد، واستطاع أن يجذب إلى جانبه عددا من الناصريين البارزين، الذين شغلوا مناصب مهمة (شعراوي جمعة، محمد فوزي، سامي شرف)، قرر إجراء استفتاء شعبي. وبمساعدة جهاز سياسي كبير يرأسه الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي شعراوي جمعة، وبمشاركة فعالة من جهاز الشرطة الذي يرأسه شعراوي جمعة أيضا، تم اختيار السادات رئيسا للجمهورية بأغلبية ساحقة لمدة ست سنوات، بينما حصل علي صبري على وعد بأن يحمل صفة «النائب الأول للرئيس»، الأمر الذي سرعان ما أثار حفيظة حسين الشافعي، الذي راح يتشبث بالصفة مدعيا أنه هو النائب الأول للرئيس.
وعلى قمة السلطة، التي كانت ديكتاتورية في جوهرها بحكم التقاليد الممتدة في مصر، ربما من عصور الفراعنة، تربع السادات بمساعدة جماعة محدودة تماما من رجال الدولة والسياسة الذين عينوا في عهد ناصر، والذين كانوا يشغلون كل المناصب المهيمنة على مسيرة الدولة. هؤلاء كانوا: شعراوي جمعة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. محمد فوزي وزير الحربية. سامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية، وهو الرجل الذي كانت تتجمع في يديه كل المعلومات العسكرية والاستخبارات السياسية. محمد فائق وزير الإعلام، المسيطر على الصحافة والإذاعة. لبيب شقير رئيس مجلس الأمة (السلطة التشريعية في البلاد). عبد المحسن أبو النور الأمين الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي العربي، إلى جانب مناصب أخرى. وقد ظلت اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، وهي هيئة استشارية تابعة للرئيس أسسها عبد الناصر، تمارس عملها وتضم كل القيادات المذكورة وكذلك قيادات أخرى. ومع ذلك كان السادات يشعر أنه لم يحكم بعد قبضته على السلطة.
كان السادات محقا في ظنه في أن الشافعي لا يمثل منافسا حقيقيا له. كانت مثالب هذا الرجل واضحة أمامه وضوح الشمس، ولم يكن باستطاعته الاعتماد عليه اعتمادا جادا. ومن ناحية أخرى، فإن علي صبري كان يعلق - على سبيل المثال - آمالا كبارا على أن السادات منحه للمرة الأولى لقب النائب «الأول» للرئيس، وهو - على حد قوله - كان له مغزى كبير «لو أن أمرا ما» وقع للسادات. الحس السياسي المحنك لم يخن السادات، وها هو يقرر أن يكون أكثر حذرا.
أثناء جنازة ناصر وقعت حادثة عجيبة؛ فبعدما تم تجهيز الموكب كيفما اتفق، وكان يضم عددا كبيرا من ممثلي الدول الأجنبية؛ رؤساء دول وحكومات، وكذلك قيادات مصرية بارزة، تحركنا جميعا في الطريق تحت شمس حامية الوطيس من باحة مبنى قيادة الثورة في الجزيرة، باتجاه موقع الدفن في المسجد المقام في هليوبوليس، وبعد برهة ظهر «موكب» آخر في مواجهة الصفوف الأولى. كانوا يحملون شخصا على كرسي. تدلى رأسه، بينما راحت ساقاه تتأرجحان. كان الرجال الذين يحملون الكرسي يهرولون وهم يشقون طريقهم عبر الزحام عكس سير الجماهير. كانوا يحملون السادات. بدا الأمر غريبا وغير مألوف لي. شيء ما حدث، ولكن ما هو؟ بعد برهة أخرى، شاهدت كيف راحت الجموع التي سرعان ما ابتلعت الموكب. ولما لم يكن باستطاعتي الخروج بعيدا عن حدود المكان، الذي تقع فيه نقطة الانطلاق، إذا بكوسيجين يسير في ملاقاتي. لقد اختلط كل شيء، ولم يكن الحديث عن أي نظام من أي نوع ممكنا. اضطر جميع الضيوف الأجانب إلى مغادرة الموكب، وحول النعش كانت الجماهير الهادرة تزحف دون أن يستطيع أحد التحكم في اتجاهها.
أخبرت ألكسي كوسيجين أنني شاهدت السادات محمولا على كرسي، وأعربت له عن فكرتي بضرورة ذهابه إليه والإعراب عن اهتمامه بأن يكون شيء ما خطير قد وقع، وعلى أية حال، فمن الواجب أن نعبر عن تعاطفنا.
Неизвестная страница