الأرض حينما تقوم وتتواجد، تجد لها حبيبا عاشقا مولعا بها، متيما بحبها ومغرما بترابها .. وقد يصل به فرط الحب إلى أنه يحبها أكثر من حبيبة القلب والعين معا .. كما أن الأرض تجد لها أيضا من يريد اغتصابها واقتناءها والاستحواذ عليها .. وأرض مصر دون سائر الأراضي جميعا هي الدرة الوحيدة البراقة والمتلألئة في تاج الدنيا بأسرها؛ لذا كانت طمع الطامعين ومحط أنظار الغاصبين؛ اشتهاها هواة السلب والنهب والجشع .. وتاريخ مصر حافل بأسماء هؤلاء الغازين الغاصبين الناهبين، وأنا لست بصدد ذكر أسمائهم، فليس هذا مقالا تاريخيا .. وإنما هو مجرد كلمة حب كتبتها من أجل مصر، قلب مصري يعشق أرض مصر؛ لأنه ترعرع في كنفها، وجرى فوق بساطها الأخضر السندسي، وعلى رمالها الصفراء الذهبية، وفوق طينها الذي أروته أحلى مياه جادت بها السماء وأعذب ماء موجود في الدنيا .. «ماء النيل» الطويل الجليل، البالغ الجبروت، والعذب السلسبيل.
وأرض مصر، يا سادة، أرض كثيرة العطاء، تعطيك بلا حساب وبلا توقف .. إنها جوادة سخية تعرف واجباتها والتزاماتها في مواعيدها وفي غير مواعيدها. وأنا لا أتذكر أنه حدث في تاريخ مصر القديم أو الحديث، أن أجدبت أرض مصر أو أصابها قحط، باستثناء قصة السنين السبع العجاف، وهي قصة قديمة قدم الزمان، ولم تتكرر مرة ثانية لعلة غير خافية .. لأن الله سبحانه وتعالى جعل أرض مصر، بعد هذه الحادثة، أرضا مشتهاة، مطلوبة ومرغوبة من دون سائر أراضي الدنيا قاطبة؛ لأنها أرض مباركة وزرعها وفير ممتاز، ولا ضريب لقطنها في كافة بلاد العالم، وقمحها أبيض ناصع البياض، وذرتها وأرزها وقصبها الحلو من أجود الأصناف وأرقاها. ثم إن الله جل وعلا قيض لهذه الأرض بالذات أمهر الفلاحين ذوي المجد العريق والجد والاجتهاد والصبر والجلد، المحبين لأرضهم والعاشقين لها والمهيمنين عليها، والعالمين ببواطنها وأسرارها وخفاياها، والسادة عليها بلا سيادة ولا تعليم ولا ثقافة، ولا تدريس ولا تلقين .. فلاح مصر فلاح فنان أصيل، يهندس بلا هندسة ولا آلات ولا عدد ولا ماكينات .. يهندس ويبدع ويفلح؛ لأن أرض مصر المباركة تخضع من تلقاء نفسها لمشيئته وإرادته، ويسرها أن ترضخ لسيطرته ولتوجيه يديه المباركتين الرفيقتين ... أرض مصر زوجة لهذا الفلاح تطيعه طاعة عمياء، تأتمر بأمره، وتسعد لسعادته وتهنأ لهنائه .. يهمها أمره، ويعنيها رخاؤه وراحته ونعمته؛ لذلك فهي تعطيه بسخاء وبأقل جهد ممكن؛ لأنها أروع زوجة في ميدان الوفاء والعطاء والإباء والطاعة والهمة والمعاملة والتعامل، والشرف والعزة والكرامة.
مباركة أنت يا أرض مصر، فدعيني أقبلك بفمي وقلبي قبلات المعترف بجميلك والشاكر لفضلك العالم بقدرك والهائم بحبك، الممتن، الممنون، حافظ الجميل العزيز .. ودعي الملايين الرابضين فوق صدرك يقبلونك معي، فهم أيضا يشعرون بمثل شعوري ويحسون بنفس أحاسيسي، ولعلهم مثلي تواقون إلى ما أتوق إليه أنا شخصيا، فأنت، يا أرض الفراعين، أهل لهذا، بل ولأكثر من هذا.
أنا فداك يا أرض مصر .. أنا لك .. أنا أهواك وأهوى ذرات ترابك وطينك الطري، ورمال صحاريك العسجدية .. إن فمي ليقبلك كما يقبل أجمل امرأة في الوجود. كما أنني أشتهي أن «أبوسك» فأطبع ألف «بوسة» على وجنتيك؛ حتى أحظى بأسمى شرف يمكن لمصري أن يحظى به.
أموت وتحيا مصر
ما من مصري يحجم عن الموت في سبيل الحبيبة مصر .. ما من مصري يضن بروحه وأنفاسه وأمواله من أجل العظيمة «مصر» .. ما من حنجرة في حلق مصري لا يسعدها أن تهتف وتقول: «نموت وتحيا مصر».
ليس هذا وطنية صادقة أصيلة فحسب، بل هو حق وإعزاز وشكر وامتنان، وإحساس حقيقي نحو الحبيبة الوافية المخلصة، التي لم تمسك يديها يوما عن بنيها وأهلها وعشيرتها .. فمصر بلد عجيب .. بلد ثابت الأركان وآية في الأمان ومفخرة للأوطان .. مصر لا تشرب دماء بنيها ثم تنكرهم أو تنساهم .. ما مات من أجلك مصري إلا وخلد ذكره، وأصبح اسمه قدوة للأجيال والأقوام.
وكم يسعدني أنني أعيش في زمن فيه الموت من أجل مصر أمنية كل شاب وشابة .. وكم يسعدني أيضا أنني خرجت من بيتي مرات كثيرة لأهتف باسم مصر، قائلا: «أموت وتحيا مصر». وكان قلبي يتوق إلى الموت فعلا وحقيقة، وليس مجرد نزوة عابرة، ولكنها كانت حقيقة واقعة، فالموت من أجل مصر ربح أي ريح. فالنفس رخيصة فداء لها، والروح مشتاقة إلى لقياها والارتماء في أحضانها .. كنا نتسابق إلى الموت من أجل مصر الغالية .. وكان إحساسا صادقا قويا صادرا من قلوب مؤمنة بزعامة مصر وخلود مصر وأصالة مصر وعظمة مصر عبر التاريخ والأجيال.
وكم من شاب يافع ممتلئ قوة وشبابا وحيوية، مات من أجل مصر معرضا صدره لرصاص الإنجليز، وكان وهو يلفظ آخر أنفاسه، يهتف بقوة يقول: «نحن فداك يا مصر .. أموت وتحيا مصر».
حقا، ما أحلى الموت! وما أعظم الاستشهاد من أجل هدف جليل! وما أجمل الموت من أجل تحرير الوطن العزيز! وما أسعد الذين ماتوا من أجل مصر .. فماتوا شهداء كأحلى ما يموت الشهداء!
Неизвестная страница