ثم أرسل «أبو الذهب» بعض جواسيسه إلى المغاربة في جيش علي يغريهم على خيانة رئيسهم، فوافقوه، ووافقه غيرهم كثيرون من بكوات علي، وفي جملتهم «إبراهيم بك» و«مراد بك» وهذا الأخير اشترط أن يأخذ مقابلا لخيانته هذه ما يخلفه «علي» من المتاع والنساء، وخصوصا امرأته «نفيسة»، وكان «علي» يحبها ويحترمها لما كانت عليه من الفطنة والجمال. فلما انتشبت الحرب في الصباح التالي، انحاز جميع المغاربة والبكوات الذين خانوا، إلى عسكر «أبي الذهب» وكانت جنود «علي بك» قريبة من الفوز. فلما رأت تلك الخيانة تضعضعت، وفر الجند يطلبون النجاة بأنفسهم بعد أن قتل «علي بك الطنطاوي» و«الشيخ شبلي» ونجا «الشيخ كريم» والشيخ «حسن» و«رضوان بك» من المعركة وساروا إلى فسطاط «علي بك» وأعلموه بما حصل، وطلبوا إليه أن يمتطي فرسه، ويسير برفقتهم إلى غزة، حيث يلاقيهم الشيخ «ضاهر» بمن معه من الجند. (9) مقتل علي بك
أما «علي بك»، فأبت نفسه الإصغاء لما أرادوا، فجلس بباب خيمته وقال لهم: «إني ملازم هذا الموضع لا أبرحه حتى تبرحني نفسي؛ لأن الموت هنا أفضل عندي من الفرار، أما أنتم إذا شئتم النجاة بأنفسكم، فبادروا إلى الفرار قبل أن يغشاكم ما ربما لا تقوون على دفعه.»
فاضطر ابن أخيه ورجاله الباقون أن يذعنوا لما أمر، فودعوه، وحولوا الأعنة في طريق خان يونس، قاصدين «غزة» فلقوا الشيخ «ضاهرا» هناك، فأعلموه بما كان، وبوفاة ابنه فأسف كثيرا.
ومكث «علي بك» بعد ذهاب أصدقائه بضع ساعات ينتظر منيته، وبجانبه عشرة من مماليكه وإذا بخمسين رجلا تحت قيادة الكخيا؛ نائب «محمد أبي الذهب»، قد وصلوا الخيمة ودخلوها وقتلوا من كان فيها من المماليك. ثم وثبوا على «علي»، وكان المرض مشتدا عليه وفيه جروح، لكنه نهض بسيفه فقتل أول قادم عليه، وجرح اثنين آخرين فخاف الباقون الاقتراب منه، فأطلقوا عليه البنادق فجرحوه جروحا بليغة في زراعه اليمنى وفخذه، فجعل يدافع بيسراه دفاعا شديدا إلى أن وثب عليه الكخيا بنفسه، فدافعه «علي» حتى أصيب بذراعه اليسرى، وفي أماكن أخرى، فسقط على الأرض وهو لا ينفك عن الدفاع، فتكاثرت عليه الرجال حتى أمسكوه حيا، وساروا به إلى «محمد أبي الذهب» وطرحوه عند قدميه فأمر بحمله إلى القاهرة، فحملوه إليها، وأنزلوه في داره بدرب عبد الحق في شارع البكري - وراء صندوق الدين - فلبث فيها سبعة أيام ثم توفاه الله. وقد قال بعضهم إن «أبا الذهب» أدخل السم في جراحه فقتله - والله أعلم - ودفنوه بتربة أستاذه «إبراهيم كخيا» بجوار الإمام الشافعي. وكان لموت هذا الرجل تأثير عظيم في قلب كل من عرفه حتى إن أبا الذهب نفسه لم يسعه إلا الندم في سره، لما فرط منه، وما أتاه من نكران الجميل وارتكاب مثل هذه الخيانة. (10) مناقبه
ومن مناقب «علي بك» أنه كان عظيم الهيبة حتى اتفق لأناس أنهم ماتوا خوفا من هيبته، وكانت تأخذ الرعدة بعضهم بمجرد المثول بين يديه، فيأخذ هو بتلطيف رعبه فيقول: «هون عليك!» وكان صحيح الفراسة، شديد الحذق، يفهم ملخص الدعوى الطويلة بين المتخاصمين، ولا يحتاج في التفهيم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق، بل يقرؤها هو بنفسه، ولا يختم ورقة حتى يقرأها ويفهم فحواها. (10-1) مآثره
البناية العظيمة «بطنطا»، وهي المسجد والجامع والقبة على مقام السيد البدوي، والمكاتب والميضاة الكبيرة، والحنفيات، والمنارتان العظيمتان، والسبيل المواجه للقبة، والقيسارية العظيمة. وجدد أيضا قبة الإمام الشافعي، وبنايات ووكالات في بولاق مصر، ولا يزال هذا الرجل مميزا عن المؤرخين بلقب الكبير، فيدعونه: «علي بك الكبير».
وقد ضرب نقودا باسمه بمصر، وقد أضاف اسمه إلى اسم السلطان أحمد خان على الطغراء اسم السلطان المذكور، واسم «علي» على الجانب الآخر.
وبموت «علي بك» انتهى الدور الثالث من سلطة العثمانيين على مصر.
الدور الرابع من سلطنة العثمانيين على مصر
من سنة 1187-1213ه ومن 1774-1798م
Неизвестная страница