وانظر إلى الدول العربية التي جمعت بين الخلافة والسلطة كالعباسيين والفاطميين والأمويين في الأندلس مع ما طرأ عليها من أسباب السقوط، فقد صبرت وطال جهادها.
وإذا نظرت إلى الدول الأعجمية رأيت أطولها عمرا وأوسعها ملكا الدولة التي جمعت بين السلطتين، وهي الدولة العثمانية. وبنو أمية في الشام، لو لم يتخذوا لقب الخلافة ويقبضوا على أزمة الرئاسة الدينية ما استطاعوا إلى الحكم سبيلا، فإنهم إنما حكموا الناس وأيدوا سلطتهم بما في الخلافة من الصبغة الدينية، ووفقوا إلى أعوان علموا أن العامة لا تحكم بمثل الدين فجعلوا همهم تعظيم الخلافة حتى جعلوها فوق النبوة، وسموا الخليفة خليفة الله. وقالوا: «خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته.» والعلماء ينكرون ذلك، ولا يصدقونه. وأما العامة فكانوا يساقون به إلى الطاعة بالإرهاب رغم ما كان يعتور صحة خلافة بني أمية من شكوك.
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس، وهم من عائلة النبي ومن أولى الناس بخلافته، كان المسلمون أطوع لهم مما لبني أمية، واعتقدوا أن خلافتهم تبقى أبد الدهر حتى يأتي السيد المسيح، وغرس في أذهان الناس بتوالي الأجيال أن الخليفة العباسي إذا قتل اختل نظام العالم واحتجبت الشمس وامتنع القطر وجف النبات.
وكان الخلفاء لا يأنفون من ذلك التفخيم مع تعقله وانتشار العلم في عصره. فقد ذكروا أنه كان يحتمل أن يمدح بما يمدح به الأنبياء ، ولا ينكر ذلك ولا يرده حتى قال فيه بعض الشعراء: «فكأنه بعد الرسول رسول»! فكيف يكون حال الخلفاء في عصر الانحطاط؛ إذ يقوم الوهم مقام الحقيقة، ويكثر المتزلفون والمتملقون، ويكتفي أولو الأمر بالكلام دون الأعمال وتمسك أهلها بالعرض، وتركوا الجوهر فلا غرو إذا سموا الخليفة في أيام المتوكل: ظل الله الممدود بينه وبين خلقه. أو قالوا قول ابن هانئ للمعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فلهذا السبب كان الأمراء الذين يستقلون عن الدولة العباسية بالإدارة والسياسة لضعف الخليفة عن حربهم، لا يستطيعون الاستقلال عنه بالدين؛ إذ لا يستغنون عن بيعته لتثبيت سلطانهم. فإذا أراد أحدهم الاستقلال بولاية أو فتح بلد أو إنشاء إمارة لنفسه، بعث إلى الخليفة في بغداد يبايعه، ويطلب منه أن يعطيه تقليدا أو عهدا بولاية ذلك البلد، أو أن يلقبه ويخلع عليه. وإذا أبى الخليفة أن يجيبه غضب، وعد ذلك تحقيرا له، وقد يجرد عليه الجند ليكرهه على تثبيته.
فالإمارات أو المماليك التي استقلت عن الدولة العباسية في فارس وخراسان وتركستان، وما بين النهرين والشام ومصر وبلاد المغرب وغيرها قبل قيام الدولة الفاطمية كانوا أصحابها يخطبون لخليفة بغداد ويبعثون إليه بمال معين في العام مع أنهم في أمن من سطوته، وإنما يريدون أن يرضى العامة عن سلطانهم.
وكذلك كان شأن الأجناد الأتراك وأمرائهم فقد كانوا مع استبدادهم بخلفاء بغداد قتلا وخلعا لا يجسرون على استبقاء منصب الخلافة خاليا يوما واحدا لاعتقادهم أنه بدون الخليفة لا تصطلح العامة، حتى الملوك أو السلاطين الذين تسلطنوا على بغداد وقبضوا على كل شيء فيها. وأصبح الخليفة آلة في أيديهم مثل آل بويه، وآل سلجوق، فقد كانوا يحاربون الخليفة ويجردون عليه الجيوش، حتى إذا ظفروا به، وغلبوه، بايعوه، وأكرموه ورفعوا مقامه وتبركوا به.
فعضد الدولة البويهي ملك بغداد واستبد بها وهو شيعي على غير مذهب الخليفة، وكان يغالي في التشييع ويعتقد أن العباسيين غصبوا الخلافة من مستحقيها، فلم يكن ثمة باعث ديني يدعوه إلى طاعة خليفة بغداد. ومع ذلك فإنه بايعه، وعظم شأنه، وأعاد من أمر الخلافة ما قد نسي، وأمر بعمارة دار الخلافة، والإكثار من الآلات، وعمارة ما يتعلق بالخليفة وبطانته، وأكرمه غاية الإكرام.
Неизвестная страница