عامر وجدي
حسني علام
منصور باهي
سرحان البحيري
عامر وجدي
عامر وجدي
حسني علام
منصور باهي
سرحان البحيري
عامر وجدي
Неизвестная страница
ميرامار
ميرامار
تأليف
نجيب محفوظ
عامر وجدي
الإسكندرية أخيرا.
الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع. •••
العمارة الضخمة الشاهقة تطالعك كوجه قديم يستقر في ذاكرتك، فأنت تعرفه ولكنه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك. كلحت الجدران المقشرة من طول ما استكنت بها الرطوبة. وأطلت بجماع بنيانها على اللسان المغروس في البحر الأبيض، يجلل جنباته النخيل وأشجار البلح، ثم يمتد حتى طرف قصي حيث تفرقع في المواسم بنادق الصيد. والهواء المنعش القوي يكاد يقوض قامتي النحيلة المقوسة، ولا مقاومة جدية كالأيام الخالية.
ماريانا، عزيزتي ماريانا، أرجو أن تكوني بمعقلك التاريخي، كالظن وكالمأمول، وإلا فعلي وعلى دنياي السلام. لم يبق إلا القليل، والدنيا تتكرر في صورة غريبة للعين الكليلة المظللة بحاجب أبيض منجرد الشعر.
ها أنا أرجع إليك أخيرا يا إسكندرية. •••
Неизвестная страница
ضغطت على جرس الشقة بالدور الرابع. فتحت شراعة الباب. فتحت شراعة الباب عن وجه ماريانا. تغيرت كثيرا يا عزيزتي. ولم تعرفني في الطرقة المظلمة. أما بشرتها البيضاء الناصعة وشعرها الذهبي فقد توهجا تحت ضوء ينتشر من نافذة بالداخل. - بنسيون ميرامار؟ - نعم يا فندم. - أريد حجرة خالية.
الباب فتح. استقبلني تمثال العذراء البرنزي. ثمة رائحة ما لعلي أفتقدها أحيانا. وقفنا نتبادل النظر. طويلة رشيقة، الشعر ذهبي، والصحة لا بأس بها، ولكن بأعلى الظهر احديداب، والشعر مصبوغ حتما، واليد المعروقة وتجاعيد زاويتي الفم تشي بالعجز والكبر. إنك يا عزيزتي في الخامسة والستين رغم أن الروعة لم تسحب منك جميع أذيالها. ولكن هل تتذكرينني؟
نظرت باهتمام تجاري بادئ الأمر، ودققت النظر، ثم اختلجت العينان الزرقاوان. ها أنت تتذكرين، وها أنا أسترد وجودي الضائع. - أوه .. أنت! - مدام!
تصافحنا بحرارة، غلبها الانفعال فقهقهت ضاحكة، كنساء الأنفوشي قهقهت. وأطاحت بالوقار بضربة واحدة. - يا خبر أبيض، عامر بك، أستاذ عامر، ها .. ها.
جلسنا على كنبة الآبنوس تحت العذراء وشبحانا يتخايلان في زجاج صوان المكتب القائم للزينة.
نظرت فيما حولي وقلت: مدخل البنسيون هو هو لم يتغير.
فقالت محتجة، ملوحة بيدها بفخار: بل تجدد وطلي مرات، وعندك أشياء جديدة كالنجفة والبارفان والراديو. - إني سعيد يا ماريانا، الشكر لله على أنك في صحة جيدة. - وأنت أيضا يا مسيو عامر، المس الخشب. - عندي المصران الغليظ والبروستاتا، نحمده على أي حال. - أتجيء بعد زوال الصيف؟
قلت باهتمام: بل جئت للإقامة، متى تلاقينا آخر مرة؟ - منذ .. منذ .. أقلت للإقامة؟ - نعم يا عزيزتي، رأيتك آخر مرة منذ حوالي عشرين عاما. - واختفيت طيلة ذلك العمر! - العمل، الهموم ... - أراهن على أنك زرت الإسكندرية مرات ومرات في تلك الأعوام. - أحيانا، ولكن وطأة العمل كانت شديدة، وأنت أدرى بالصحافة. - وأعرف أيضا جحود الرجال. - ماريانا يا عزيزة، أنت أنت الإسكندرية. - تزوجت طبعا. - كلا بعد!
تساءلت مقهقهة: ومتى تتم النية وتقدم؟
قلت بنبرة لم تخل من امتعاض: لا زواج، لا أبناء، اعتزلت العمل، انتهيت يا ماريانا.
Неизвестная страница
شجعتني بحركة من يدها فواصلت قائلا: عند ذاك نادتني الإسكندرية، مسقط رأسي، ولما لم يكن لي فيها من قريب حي فقد قصدت الصديق الباقي لي في دنياي. - جميل أن يجد الإنسان صديقا يقاسمه وحدته. - أتذكرين أيام زمان؟
قالت بصوت مأساوي: ذهبت بكل جميل.
ثم في شبه غمغمة: ولكن علينا أن نعيش.
وجاء وقت الحساب والمساومة. قالت إنه لم يعد لها من مورد إلا البنسيون، ولذلك فهي ترحب بنزلاء فصل الشتاء ولو كانوا من الطلبة المزعجين، وفي سبيل ذلك تستعين بالسماسرة وبعض خدم الفنادق. رددت ذلك بحزن عزيز قوم ذل. واختارت لي الحجرة رقم 6 في الجناح البعيد عن البحر. واتفقنا على أجرة معقولة تصلح لشهور العام عدا فصل الصيف، على أن يكون لي حق الاستمرار في الإقامة صيفا إذا دفعت أجرة المصيفين. تم الاتفاق على كل شيء بما فيه الفطور الإجباري، وأثبتت المدام أنها تستطيع في الوقت المناسب أن تستنقذ قلبها من الذكريات لتحسن المساومة والتدبير. وسألتني عن حقائبي، فأجبت بأنها في أمانات المحطة. فقالت ضاحكة: لم تكن متأكدا من وجود ماريانا.
ثم واصلت بحماس: لتكن إقامة دائمة.
فنظرت إلى يدي التي ذكرتني بيد مومياء في المتحف المصري. •••
لا تقل حجرتي في شيء عن الحجرات المطلة على البحر، مستوفية لحاجتها من الأثاث والمقاعد المريحة ذات الطابع القديم. ولتبق الكتب في صندوقها إلا ما ندر مما قد أراجعه فيمكن وضعه فوق الترابيزة أو التسريحة. لا يعيبها شيء إلا أن جوها يسبح في مغيب دائم لأنها تطل على منور كبير يتسلق على جدرانه سلم الخدم حيث تهر القطط ويتناجى العاملون. وزرت الحجرات كلها. الوردية والبنفسجية والسماوية وكانت جميعها خالية. في كل أقمت صيفا أو أكثر في زمن مضى. ورغم اختفاء المرايا القديمة والسجاجيد الفاخرة والقناديل المفضضة والفنايير البلورية فما زالت مسحة أرستقراطية باهتة تعلق بالجدران المورقة والأسقف العالية الموشاة بصور الملائكة.
قالت وهي تتنهد وقد لمحت لأول مرة طاقم أسنانها: كان بنسيون السادة.
فقلت مواسيا: سبحان من له الدوام!
فعادت تقول وهي تلوي بوزها: أكثر النزلاء شتاء من الطلبة، وأما في الصيف فأستقبل كل من هب ودب. ••• - عامر بك، كن شفيعي عند دولة الباشا.
Неизвестная страница
وقلت للباشا: يا دولة الزعيم، ليس الرجل ذا كفاءة ممتازة ولكنه فقد ابنه في الجهاد وهو جدير بأن يرشح عن الدائرة.
وافق على اقتراحي، أسكنه الله أعز مكان في جنته. كان يحبني ويتابع مقالاتي باهتمام صادق. ومرة قال لي: أنت كلب الأمة الخافك.
كان رحمه الله ينطق القاف كافا. وسمع بها بعض الزملاء القدامى من رجال الحزب الوطني؛ فكانوا كلما رأوني صاح صائحهم: «أهلا بكلب الأمة.»
لكنها كانت أيام المجد والجهاد والبطولة.
كان عامر وجدي شخصا فريدا، له في الرجاء جانب يرده الأصدقاء، وفي الخوف جانب يتجنبه الأعداء. •••
في الحجرة أتذكر أو أقرأ أو أستسلم للنعاس. وفي المدخل مجال سمر مع الراديو وماريانا. وإن شئت تنويعا في التسلية ففي أسفل العمارة مقهى الميرامار. من البعيد جدا أن أعثر على أحد أعرفه أو يعرفني، ولا في التريانون نفسه. ذهب الأصدقاء وذهب زمانهم . وإني لأعرفك يا إسكندرية الشتاء. تخلين ميادينك وشوارعك مع المغيب فيمرح فيها الهواء والمطر والوحشة، وتعمر حجراتك بالمناجاة والسمر. ••• - ذلك العجوز الذي يخفي جسده المحنط تحت بدلة سوداء من عهد نوح.
وقال من عينه الزمن الهازل رئيسا للتحرير: زمن البلاغة ولى، هل عندك عبارة تصلح لراكب طيارة؟
راكب طيارة! أيها «القره جوز» المفعم شحما وغباء .. إنما خلق القلم لأصحاب العقول والأذواق لا للمجانين المعربدين من ضحايا الملاهي والحانات .. ولكن قضي علينا طول العمر بالسير في ركاب زملاء جدد في المهنة، لقنوا علمهم في السيرك ثم اجتاحوا الصحافة ليلعبوا دور البهلوانات. •••
جلست على الفوتيل مرتديا الروب، استسلمت ماريانا إلى مسند الكنبة الأبنوس تحت تمثال العذراء، وانبعث من المحطة الإفرنجية موسيقى راقصة. وددت أن أسمع لونا آخر، ولكني تجنبت إزعاجها. استرخت جفونها كمن تحلم وحركت رأسها في طرب كأيام زمان. - كنا وما زلنا أصدقاء يا عزيزتي. - طول العمر. - لم نتبادل العشق ولا مرة!
ضحكت ضحكة عالية وقالت: ذوقك بلدي، لا تنكر. - عدا مرة عابرة، هل تذكرين؟
Неизвестная страница
ضحكت طويلا ثم قالت: نعم، جئت مرة بخواجاية فاشترطت عليك تكتب في السجل «عامر وجدي وحرمه». - وسبب آخر أبعدني عنك، كنت حسناء فاخرة يحتكرك الوجهاء.
تهلل وجهها في سعادة شاملة، ماريانا، مهم عندي جدا أن يمتد بك العمر بعدي ولو يوما واحدا حتى لا أضطر إلى البحث عن مأوى جديد. ماريانا، إنك شاهد حي على أن التاريخ ليس وهما، من عهد الإمام إلى اليوم. ••• - سيدي الأستاذ، أستودعك الله.
رمقني في ضجر، وهو يضيق بي كلما رآني. قلت: آن لي أن أعتزل.
قال وهو يداري ارتياحه: خسارة كبيرة ولكنني أرجو لك حياة طيبة.
انتهى كل شيء.
انطوت صفحة تاريخ بلا كلمة وداع ولا حفلة تكريم ولا حتى مقال من عصر الطائرة. أيها الأنذال، أيها اللوطيون، ألا كرامة لإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة؟ •••
قلت وأنا أرنو إليها تحت تمثال العذراء: ولا هيلانة في زمانها!
ضحكت وقالت: قبل أن تجيء كنت أجلس وحدي، لا أنتظر أحدا أعرفه . مهددة دائما بأزمة كلى. - سلامتك، ولكن أين أهلك؟
وهي تتنهد: هاجر النساء والرجال.
ولوت بوزها المجعد ثم واصلت: قلت أين أذهب؟ لقد ولدت هنا، لم أر أثينا أبدا في حياتي، ثم إن البنسيونات الصغيرة لن تؤمم على أي حال. •••
Неизвестная страница
يعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل، وأن تقوم المحبة بين الناس مكان القانون. لا فض فوك. لقد أكرمك الله بتمثالين والموت. ••• - مصر وطنك، والإسكندرية ليس كمثلها شيء.
عزف الهواء في الخارج. والظلام يهبط خلسة. قامت فأشعلت من النجفة ثلاثة مصابيح في أسفلها مثل عنقود العنب. عادت إلى مجلسها وهي تقول: كنت سيدة، سيدة بكل معنى الكلمة. - ما زلت سيدة يا عزيزتي. - هل تشرب كأيام زمان؟ - كأس واحدة عند العشاء، طعامي خفيف جدا، وذاك سر حيويتي رغم تقدم العمر. - آه يا مسيو عامر، تقول إن الإسكندرية ليس كمثلها شيء؟ كلا، لم تعد كما كانت على أيامنا، الزبالة ترى الآن في طرقاتها.
قلت بإشفاق: عزيزتي، كان لا بد أن تعود إلى أهلها.
قالت بحدة: ولكننا نحن الذين خلقناها. - عزيزتي ماريانا، ألا تشربين كأيام زمان؟ - كلا، ولا كأس واحدة، عندي ضغط من الكلى. - ما أجمل أن نوضع في متحف جنبا إلى جنب، ولكن عديني بألا تموتي قبلي. - مسيو عامر، قتلت الثورة الأولى زوجي الأول، أما الثورة الثانية فجردتني من مالي وأهلي، لماذا؟ - إنك مستورة والحمد لله، ونحن أهلك، والعالم يشهد أمثال هذه الحوادث كل شروق شمس. - يا له من عالم! - ألا نغير المحطة الإفرنجية؟ - عدا ليلة أم كلثوم، فلا محطة غيرها! - أمرك يا عزيزتي. - خبرني لماذا يعذب الناس بعضهم البعض، ولماذا يتقدم بنا العمر؟
ضحكت دون أن أنبس.
أجلت البصر في الجدران المنقوش عليها تاريخها. هاك صورة الكابتن بقبعته العالية وشاربه الغزير في البدلة العسكرية، زوجها الأول، ولعله حبيبها الأول والأخير، الذي قتل في ثورة 1919. في الجدار المقابل وفوق المكتبة صورة أمها العجوز، كانت مدرسة. على مرمى البصر في الصالة فيما وراء البارفان صورة الزوج الثاني ملك البطارخ وصاحب قصر الإبراهيمية، أفلس ذات يوم فانتحر. - متى فتحت البنسيون؟ - قل متى اضطررت لفتحه من فضلك!
ثم أجابت: عام 1925.
عام محنة وكدر. ••• - ها أنا شبه سجين في بيتي، وعرائض التأييد تزف إلى الملك. - زيف وكذب يا دولة الزعيم. - حسبت الثورة قد طهرت النفوس من ضعفها. - الجوهر سليم والحمد لله ... سأسمع دولتكم مقالة الغد. •••
راحت تدلك بشرة وجهها بليمونة وهي تقول: كنت سيدة يا مسيو عامر، أحب الحياة الحلوة والنور والفخامة والأبهة والملابس والصالونات، وكنت أهل على المدعوين كالشمس. - رأيت ذلك بعيني. - لكنك لم تر إلا صاحبة البنسيون. - كانت تهل أيضا كالشمس. - وكان النزلاء من السادة، ولكن لم يعزني ذلك عن تدهوري. - ما زلت سيدة بكل معنى الكلمة.
هزت رأسها ثم سألت: والأصدقاء القدامى ماذا حل بهم؟ - حل بهم المكتوب عليهم. - لماذا لم تتزوج يا مسيو عامر؟ - سوء الحظ، ليتنا أنجبنا ذرية. - أوه .. كان كلا الزوجين عاقرا!
Неизвестная страница
يغلب علي الظن أنك أنت العاقر، إنه أمر مؤسف إذ إننا لم نوجد إلا لكي ننجب. •••
ذلك البيت الكبير الذي تحول مع الأيام إلى فندق، يراه السائر في خان جعفر كقلعة صغيرة، وحوشه القديم الذي شق فيه طريق إلى خان الخليلي، قد نقش في قلبي هو وما يكتنفه من بيوت قديمة والكلوب العتيق، صورة تذكارية لنشوة الحب المشبوب المرتطم بخيبة الأمة. العمامة واللحية البيضاء وقسوة الشفتين وهما تلفظان «لا» فتقضي في تعصب أعمى على الحب الذي هبط إلى الدنيا قبل الأديان بمليون سنة. - مولاي، إني أنشد القرب منكم على سنة الله ورسوله.
صمت وبيننا فنجان قهوة لم يمس، فقلت: إني صحفي، ذو مال، وابن شيخ كان خادما لمسجد سيدي أبي العباس المرسي.
قال: رحمه الله، كان من التقاة المؤمنين.
وقبض على المسبحة ثم استطرد: يا بني، كنت منا، جاورت الأزهر زمنا.
ذاك التاريخ متى ينسى! قال: ثم طردت من الأزهر، أنت تذكر ...؟ - مولاي، ذلك تاريخ قد انقضى، لأتفه الأسباب كان يحق الطرد، شاب هزه الشباب فاشترك في تخت مطرب ذات ليلة، أو طرح بعض أسئلة ببراءة.
قال بامتعاض: قضى عليه قوم عقلاء بتهمة شنيعة. - مولاي من ذا يستطيع أن يقضي على إنسان بتهمة كالإلحاد، ولا مطلع على الفؤاد إلا الله؟ - يستطيع ذلك من يسترشد بالله.
اللعنة! من ذا يزعم أنه عرف الإيمان! قد تجلى الله للأنبياء ونحن أحوج منهم إلى ذاك التجلي. وعندما نتحسس موضعنا في البيت الكبير المسمى بالعالم فلن يصيبنا إلا الدوار. •••
لنحذر الكسل. لا بأس من تجربة المشي في الصباح المشمس. ما أحلى أيام الدفء في البالما والبجعة. ولو وجدت نفسك وحيدا بين أسر تعمر بالأجيال. الأب يطالع جريدة والأم تطرز رقعة، والأبناء يلعبون. لو يخترع المخترعون للمعتزلين جهازا يبادلهم الحديث والسمر، أو شخصا إلكترونيا يلاعبهم النرد، أو يركب لهم عينا جديدة تولع مرة أخرى بنبات الأرض وألوان السماء.
وقد عشنا دهرا طويلا حافلا بالأحداث والأفكار، نوينا أكثر من مرة أن نسجله في مذكرات - كما فعل الصديق القديم أحمد شفيق باشا - ولكن لم تصدق النية ثم تبددت بين إمهال وإرجاء. اليوم لم يبق من النية القديمة إلا الحسرة بعد أن وهنت اليد وضعفت الذاكرة واضمحلت القوة. ففي ذمة الله ذكريات الأزهر، وصحبة الشيخ علي محمود وزكريا أحمد وسيد درويش، حزب الأمة ما أعجبني فيه وما نفرني منه، الحزب الوطني بحماساته وحماقاته، الوفد بثورته العالمية الخالدة، الخلافات الحزبية التي قوقعتني في حياد بارد لا معنى له، الإخوان الذين لم أحبهم، الشيوعيون الذين لم أفهمهم، الثورة ومغزاها وامتصاصها للتيارات السابقة، غرامياتي وشارع محمد علي، موقفي العنيد من الزواج. لو قيض لذكرياتي أن تكتب لكانت عجبا حقا.
Неизвестная страница
زرت بحنان أثنيوس وباستوريدس وأنطونيادس. جلست وقتا في بهو وندسور وسيسل، ملتقى الباشوات والساسة الأجانب في الزمن القديم، وخير مجال لالتقاط الأخبار ومتابعة الأحداث، فلم أر إلا قلة من الأجانب شرقيين وغربيين. رجعت ولي عند الله دعاءان: دعاء بأن يمن علي بحل مشكلة الإيمان، ودعاء بألا يصيبني بمرض يقعدني عن الحركة فلا أجد من يأخذ بيدي. •••
ما أجمل هذه الصورة النابضة بالشباب! قد وضعت على المقعد ركبة الساق اليمنى وأراحت الأخرى على الأرض، ومالت بجذعها نحو مسند المقعد ملقية معصميها عليه، واستدار وجهها ليواجه الكاميرا باسما معتزا بملاحته، وقد انحسر ديكولتيه الفستان الكلاسيكي الفضفاض عن قاعدة العنق الطويل ونحر منبسط كالمرمر.
كانت قد ارتدت معطفها الأسود والإشارب الكحلي تأهبا لزيارة الطبيب، وجلست تنتظر الوقت المناسب للذهاب. سألتها: أقلت إن الثورة جردتك من مالك؟
فرفعت حاجبيها المزججين وقالت: ألم تسمع بكارثة الأسهم؟
لعلها قرأت في عيني تساؤلا ففطنت إلى ما يدور بخلدي فقالت: ضاع ما ربحته أيام الحرب الثانية. صدقني، لقد ربحته بشجاعتي إذ أصررت على البقاء في الإسكندرية عندما هاجر الكثيرون إلى القاهرة والأرياف خوفا من غارات الألمان، طليت النوافذ باللون الأزرق وأسدلت الستائر، ودار الرقص على ضوء الشموع، ولن تجد من يضاهي ضباط الإمبراطورية في البذل والكرم.
وجدتني وحيدا بعد ذهابها أنظر إلى عيني زوجها الأول وينظر إلي. ترى من قتلك وبأي سلاح؟ وكم من جيلنا قتلت قبل أن تقتل؟ جيلنا العتيد الذي فاق الأجيال جميعا في غزارة ضحاياه. •••
الغناء الإفرنجي لا ينقطع. أقسى ما حكم الزمان به علي في عزلتي. ماريانا أخذت حماما ساخنا عقب عودتها من عند الطبيب، ها هي تجلس ملفوفة في برنس أبيض وقد عقصت شعرها المصبوغ غارسة فيه عشرات المشابك المعدنية البيضاء. خفضت صوت الراديو إلى حد الهمس لتبدأ هي إذاعتها وقالت: مسيو عامر .. لا شك أن لديك مالا وفيرا.
فسألتها بشيء من الحذر: هل عندك مشروعات؟ - كلا، ولكن في مثل عمرك - وعمري أيضا مع الفارق الكبير - لا يتهددنا شيء مثل الفقر والمرض.
قلت والحذر لم يفارقني بعد: لقد عشت مستورا وأرجو أن أموت مستورا. - لا أذكر أنك كنت مسرفا قط.
ترددت قليلا ثم قلت: أرجو أن يكون عمر المدخر من نقودي أطول من عمري.
Неизвестная страница
لوحت بيدها باستهانة وقالت: الطبيب شجعني هذه المرة فوعدته بألا أحمل هما. - جميل ألا نحمل هما. - يجب أن نفرح ونلهو عندما تأتي ليلة رأس السنة.
قلت ضاحكا: نعم، على قدر ما تسمح قلوبنا.
راحت تهز رأسها في تلذذ وتقول في مناجاة : يا ليالي رأس السنة ...
فقلت منفعلا بذكريات بعيدة: كم أحبك الكبراء! - لم أعرف الحب إلا مرة واحدة.
ثم أشارت إلى صورة الكابتن. وعادت تقول: قتله طالب من الطلبة الذين أخدمهم اليوم!
ثم قالت بخيلاء: كان بنسيون السادة .. يعمل به طاه ومرمطون وسفرجي وغسالة وخادمان، لا أحد يخدم به اليوم سوى غسالة أسبوعية. - كبراء كثيرون يغبطونك على ما أنت فيه. - أهذا عدل يا مسيو عامر؟ - هو على أي حال طبيعي يا مدام.
اربد وجهها فضحكت متوددا وملاطفا. •••
الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسماء رفعها ووضع الميزان
مضيت أقرأ سورة الرحمن الحبيبة إلى قلبي مذ كنت في الأزهر. كنت غائصا في مقعد كبير طارحا قدمي على وسادة. هطل المطر بغزارة فارتفع رنينه فوق درجات السلم المعدني في المنور.
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
Неизвестная страница
ثمة أصوات تقتحم الصمت خارج الحجرة في البنسيون. رفعت رأسي عن الكتاب وأنصت. ضيف أم نزيل جديد؟ صوت ماريانا يرحب بحرارة لا تليق إلا بصديق حميم. وثمة ضحك أيضا. ثم وضحت نبرة غليظة من صوت أجوف. ترى من القادم؟ الوقت بعد العصر بقليل. والمطر ينهل بشدة، والغيوم تريق في الحجرة ظلمة كالليل. ضغطت على زر الأباجورة حين لمع برق خاطف نضح به الشيش، وهزم الرعد.
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان •••
يميل إلى القصر والبدانة، منتفخ الشدقين واللغد، وله عينان زرقاوان رغم سمرة بشرته، ذو طابع أرستقراطي لا تخطئه العين وينم عنه صمته المتكبر إذا صمت، وحركات رأسه ويديه المتزنة المرسومة بدقة إذا تكلم. قدمته المدام باسم «طلبة بك مرزوق» في مجلس المساء، ثم قالت تزيدني معرفة به: كان وكيلا لوزارة الأوقاف ومن الأعيان الكبار.
لم يكن عندي في حاجة إلى تعريف. عرفته من بعيد بحكم مهنتي على عهد النضال السياسي والحزبي. كان من المنتمين إلى أحزاب السراي، وبطبيعة الحال من أعداء الوفد. وتذكرت أيضا أنه وضع تحت الحراسة منذ عام أو أكثر وأنه جرد من موارده عدا القدر المعلوم. أما المدام فقد تبدت في أحسن أحوالها مرحا وعاطفية، نوهت مرارا بصداقتها القديمة لطلبة بك. وبرز حماسها المتدفق عندما دعته بمحبها القديم.
وقال لي الرجل ونحن نتبادل الحديث: قرأت لك كثيرا فيما مضى.
فضحكت ضحكة ذات مغزى فضحك بدوره قائلا: كنت تعطيني مثلا حيا لقوة البلاغة عندما تتصدى للدفاع عن باطل!
وضحك طويلا ولكنني لم أجادله. وقالت المدام تخاطبني بشماتة: طلبة بك تلميذ قديم للجزويت، سنسمع الأغاني الإفرنجية معا ونتركك لتتعذب وحدك.
ثم بسطت راحتيها في ترحيب وقالت: جاء ليقيم معنا.
فرحبت به فعادت تقول في رثاء: كان يملك ألف فدان، كان يلعب بالمال لعبا.
هنا قال الرجل بامتعاض: انقضى عهد اللعب. - وأين كريمتك يا طلبة بك؟ - في الكويت مع زوجها المقاول.
Неизвестная страница
وكنت أعلم أن الحراسة قد فرضت عليه لشبهة تهريب، بيد أنه فسر مأساته قائلا: خسرت أموالي جميعا ثمنا لنكتة عابرة!
فسألته: هل دعيت إلى تحقيق؟
فقال بازدراء: المسألة بكل بساطة أنهم كانوا في حاجة إلى مالي.
وكانت المرأة تنظر إليه بإمعان فقالت: تغيرت كثيرا يا طلبة بك.
ابتسم فوه الصغير المطوق بشدقيه ثم قال: أصابتني جلطة كادت تقضي علي.
ثم بشيء من العزاء: ولكنني أستطيع أن أشرب الويسكي في حدود الاعتدال. •••
غمس الكروسان في الشاي الممزوج باللبن ثم أكل بأناة من لم يألف الطاقم الجديد بعد. لم يكن على مائدة الإفطار سوانا. وكانت الأيام القلائل الماضية قد قربت بيننا وأزالت حواجز الحذر فغلب الأنس بروح الجيل الواحد على الخلافات البالية، وإن انطوى كل منا في أعماقه على مزاج متفرد مناقض لصاحبه: ولكن تجيء أوقات يبرز فيها المزاج الثاوي في الأعماق ليثير الغبار والتحديات. أجل، قد سألني بلا مناسبة: أتدري ما السبب وراء المصائب التي حلت بنا؟
فتساءلت بدهشة: أي مصائب تعني؟ - أيها الثعلب، إنك تعرف تماما ما أعني. - ولكن لم تحل بي المصائب من أي نوع كان.
رفع حاجبيه الأشيبين وقال: لقد اغتيلت شعبيتكم كما اغتيلت أموالنا. - لعلك تذكر أنني خرجت من الوفد، بل من الأحزاب جميعا، منذ حادث 4 فبراير. - ولو .. ثمة لطمة قد أحاطت بكبرياء الجيل كله.
فقلت زاهدا في الجدل: بصرف النظر عن موقفي فإني مشوق إلى معرفة رأيك.
Неизвестная страница
قال بهدوء وازدراء: يوجد سبب بعيد في طرف الحبل المشدود حول أعناقنا، شخص لا يكاد يذكره أحد. - من هو؟ - سعد زغلول!
لم أتمالك من الضحك فراح يقول بحدة: أجل، منذ دأب على إثارة الإحن بين الناس، والتطاول على الملك، وتملق الجماهير، رمى في الأرض ببذرة خبيثة، ما زالت تنمو وتتضخم كسرطان لا علاج له حتى قضى علينا. •••
لم يكن بالبالما إلا آحاد. مضى طلبة مرزوق ينظر إلى ماء النيل شبه الساكن في ترعة المحمودية على حين مددت ساقي واستلقيت على مسند الكرسي كأنما أضطجع تحت شعاع الشمس النقي الدافئ. هاجرنا إلى أطراف الإسكندرية المزدحمة بالنبات والأزهار، التي تنعم أيام الصحو بالدفء والسلام، فآوينا إلى ركن من الجنة عامر بالبركات.
مهما يكن من غلو صاحبي وعصبيته فهو يستحق قدرا من الرثاء. عليه أن يبدأ حياة جديدة مريرة بعد الستين. إنه يغبط كريمته في مهجرها ويرى أحلاما غريبة، لا يطيق أن يسمع عن نظرية تبرر مأساته التاريخية. ويؤمن بأن الاعتداء على ماله إنما كان اعتداء على كون الله وسننه وحكمته. - كدت أعدل عن الإقامة في البنسيون عندما علمت بوجودك.
لم أصدق وسألته عن السبب: وقع اختياري على بنسيون ميرامار بأمل ألا أجد فيه إلا صاحبته الخواجاية.
فسألته عما بدد سوء ظنه بي: فكرت، ثم اقتنعت بأن التاريخ لم يعرف عميلا فوق الثمانين!
ضحكت طويلا ثم سألته: ولم تخاف العملاء؟ - لا شيء في الحقيقة غير أني أروح عن نفسي أحيانا بالكلام.
ثم واصل حديثه بعصبية: لم يعد لي مقام في الريف، وجو القاهرة يصر على إشعاري بهواني. عند ذاك فكرت في عشيقتي القديمة، وقلت لقد فقدت زوجها في ثورة، ومالها في الثورة الأخرى، وإذن فسوف نعزف لحنا واحدا.
وأثنى على صحتي رغم طعوني في السن ، وجعل يغريني على مصاحبته في دور السينما والمقاهي الشتوية. تم تساءل: لماذا عدل الله عن سياسة القوة؟
لم أدرك مرماه، فقال متبسطا في الشرح: أعني الطوفان والرياح وغيرها.
Неизвестная страница
فسألته بدوري: أتحسب أن الطوفان قد أهلك من البشر أكثر ممن أهلكتهم قنبلة هيروشيما؟
فلوح بيده ساخطا وقال: ردد دعايات الشيوعيين أيها الثعلب! إن أكبر خطأ في حق البشرية قد وقع لدى تردد أمريكا في الاستيلاء على سلطان العالم عندما كانت تملك وحدها القنبلة الذرية. - خبرني هل تجدد غرامياتك مع ماريانا؟
ضحك عاليا وقال: يا لها من فكرة جنونية، إني شيخ هدمه العمر والسياسة وهيهات أن تحركني إلا المعجزات، وأما هي فلم يبق لها من الأنوثة إلا ألوانها المجردة.
وضحك مرة أخرى ثم قال: وأنت هل نسيت تاريخك؟ لقد قرأت عن فضائحك في مجلة الكشكول، عن جريك وراء الملاءات اللف بشارع محمد علي.
ضحكت بلا تعليق فتساءل: هل رجعت أخيرا إلى الدين؟ - وأنت؟ .. يخيل إلي أحيانا أنك لا تؤمن بشيء.
فقال بحنق: كيف لا أومن بالله وأنا أحترق في جحيمه؟! ••• - لقد خلق أمثالك للجحيم، لن يبارك الله لك في شيء، اخرج مطرودا من هذا المكان الطاهر، كما طرد إبليس من رحمة الله. •••
دقت الساعة الكبيرة في الصالة معلنة انتصاف الليل. تجاوبت أركان المنور بصفير هواء قوي. أقعدني الكسل والدفء وأنا غائص في المقعد الكبير عن القيام إلى الفراش. وثقلت علي وحدتي بعد أن انفردت بي في الحجرة الخالية؛ فقلت لنفسي: ما جدوى الندم بعد الثمانين!
وإذا بالباب يفتح دون استئذان ويقف طلبة مرزوق على عتبته قائلا: معذرة، أدركت من ضوء الحجرة أنك لم تنم.
نظرت نحوه باستغراب. لقد شرب الليلة أكثر مما يشرب عادة. وسألني متهكما وحركات رأسه تواكب نبرته: أتعلم كم كان يكلفني في الشهر الواحد الدواء والفيتامينات والهرمونات والروائح والدهون وخلافه؟
انتظرت أن يتكلم ولكنه أغمض عينيه كأن الجهد أرهقه، ثم تراجع فأغلق الباب ومضى. •••
Неизвестная страница
السرادق مكتظ بالخلق، ساحة المولد كيوم الحشر، والصواريخ تنطلق في الفضاء. انشق النور وانعدم الظلام لمولد أحمد. وتهادت الرولزرويس حتى وقفت أمام السرادق. هبط منها طلبة مرزوق فخف لاستقباله أقوام وأقوام من السادة الدمرداشية؛ طريقة الرجل الذي جمع في قلبه بين الرسول والمندوب السامي. ولمحني صاحب الرولزرويس فأعرض عني في كبرياء. وقيل ليلتها إنك جئت ثملا كما جئتني الليلة. ودعي سيد المطربين إلى وسط السرادق فأنشد «يا سماء ما عليك سماء.» وفي الهزيع الأخير من الليل غنى «أحب أشوفك» فأطاح بعقول المريدين. متى كانت تلك الليلة العجيبة؟ على التحديد لا أذكر ولكنها حتما سبقت وفاة الرجل الجليل وإلا ما صفا لي الطرب. •••
كنت أجلس في المدخل ولا أحد معي في البنسيون عندما دق الجرس. فتحت الشراعة على طريقة المدام فرأيت أمامي وجها انشرح لمرآه صدري. من النظرة الأولى انشرح له صدري. وجه أسمر لفلاحة مطوقة الرأس والوجه بطرحة سوداء، أصيلة الملامح، مؤثرة جدا بنظرة عينيها الحلوة المترقبة: من أنت؟ - أنا زهرة!
قالتها ببراءة وثقة كأنما تنطق باسم علم من الأعلام. سألتها وأنا أبتسم: ماذا تريدين يا زهرة؟ - الست ماريانا.
فتحت لها الباب فدخلت حاملة بقجة صغيرة. نظرت فيما حولها ثم سألت: أين الست؟ - ستجيء بعد قليل. اجلسي.
جلست على مقعد واضعة البقجة على حجرها فعدت إلى مجلسي في نشاط جديد. جعلت أنظر إليها، إلى تكوينها القوي الرشيق، وملاحتها الفائقة، وشبابها الغض، وأنا في غاية من الارتياح. واستسلمت لرغبة في محادثتها فقلت: قلت إن اسمك زهرة؟ - زهرة سلامة. - من أين يا زهرة؟ - من الزيادية بحيرة. - على ميعاد مع المدام؟ - لا. - إذن؟ - جئت لأقابلها. - تعرفك طبعا؟ - نعم.
تمليت جمالها وشبابها بارتياح لم أشعر بمثله من دهر، ثم عدت أسألها: هل تعيشين في الإسكندرية من زمن طويل؟ - لم أعش في الإسكندرية، ولكن زرتها مرارا مع المرحوم أبي. - وكيف عرفت المدام؟ - كان أبي يجيئها بالجبن والزبد السمن والدجاج، وكنت أجيء معه أحيانا. - فهمت، تنوين يا زهرة أن تحلي محل أبيك. - لا.
حولت عينيها إلى البارفان كأنما لتتفادى من المزيد، فاحترمت سرها وازددت لها حبا. وبكل حنان دعوت لها في سري أن يحفظها الله. •••
قلت وأنا أقبل يدها المعروقة المدبوغة: «ببركة دعواتك أصبحت رجلا ولا كل الرجال، هلمي معي إلى القاهرة.» فقالت وهي تتطلع نحوي بحنان: «فليزدك الله من خيره وبركاته، أما أنا فلن أغادر البيت، إنه حياتي وعمري.»
بيت نحيل، مقشر الجدران، تلطمه الرياح وتستقر أملاح البحر على أحجاره، وتلفحه روائح السمك المكدس على شاطئ الأنفوشي.
قلت: «لكنك تعيشين هنا وحدك.»
Неизвестная страница
فقالت: «معي خالق الليل والنهار.» •••
دق الجرس فقامت زهرة ففتحت الباب. نظرت إليها المدام بدهشة ثم هتفت: زهرة! .. غير معقول!
لثمت الفتاة يدها مشرقة الوجه لحرارة الترحيب. - جميل أن أراك، الله يرحم والدك، تزوجت يا زهرة؟ - كلا. - غير معقول!
وضحكت عاليا ثم التفتت إلي قائلة: زهرة بنت رجل طيب يا مسيو عامر.
ومضتا معا إلى الداخل حين جاش صدري بحنان وأبوة. •••
ولما جمعنا مجلس الليل - أنا وطلبة وماريانا - قالت المدام: أخيرا ارتحت.
وسكتت لحظة ثم واصلت: زهرة ستعمل عندي.
اجتاحني إحساس غريب بالفرح والضيق معا ثم سألت: أجاءت لتعمل خادمة؟ - نعم، لم لا، ستكون على أي حال في مركز ممتاز. - ولكن ما ... - كانت تستأجر نصف فدان وتزرعه بنفسها، ما رأيك في ذلك؟ - جميل، ولكن لم تركت أرضها؟
نظرت إلي مليا ثم قالت: لقد هربت. - هربت!
قال طلبة ساخرا: اعتبروها إقطاعية! - أراد جدها أن يزوجها من عجوز مثله لتخدمه، والباقي معروف.
Неизвестная страница
قلت بحزن: حدث خطير لا تهضمه القرية. - لا أحد لها بعد جدها إلا شقيقتها الكبرى وزوجها. - وإذا عرفوا أنها هنا؟ - محتمل، ولكن ما يهم؟ - ألا تخشين ...؟ - ليست صغيرة، وما فعلت إلا أنني آويتها وأعطيت لها عملا شريفا.
ثم بإصرار: مسيو عامر، لن أتخلى عنها. •••
لن أتخلى عن واجبي ما دام في عرق ينبض، ولتفعل بنا القوة ما تشاء. •••
وراحت تعلمها وزهرة تتعلم بسرعة فائقة، وماريانا تقول بسرور: البنت مدهشة يا عامر بك، مدهشة، ذكية وقوية، من مرة واحدة تعرف المطلوب، أنا بختي عال.
وقالت لي في مرة أخرى: ما رأيك، خمسة جنيهات غير الأكل واللبس؟
أعلنت ارتياحي ثم قلت برجاء: لا تلبسيها بطريقة عصرية! - أتريدها أن تلبس كالفلاحات؟ - عزيزتي، البنت جميلة، فكري في الأمر. - أنا عيني مفتوحة دائما، والبنت طيبة يا مسيو عامر.
هكذا خطرت زهرة في فستان من الكستور فصل على جسمها الرشيق ليبرز محاسنه، ربما لأول مرة، بعد طول اختفاء تحت الجلباب الفضفاض المسترسل حتى الكعبين، ومشط شعرها جيدا بعد أن غسل بالجاز ثم فرق في وسط الدماغ ليجتمع في ضفيرتين انسابتا في امتلاء وراء الأذنين.
ورآها طلبة مرزوق فنظر إليها متفرسا ثم مال نحوي بعد ذهابها وهمس قائلا: سنشاهدها في الصيف القادم في الجنفواز أو مونت كارلو.
فقلت باستياء: فال الله ولا فالك يا شيخ!
ثم مر بها وهو في طريقه إلى الخارج فسألها مداعبا: هل فيك عرق أجنبي يا زهرة؟
Неизвестная страница
شيعته بنظرة متسائلة. واضح أنها لم تستلطفه. ونظرت نحوي فقلت لها: إنه يداعبك، فاعتبري قوله نوعا من الثناء.
ثم قلت باسما: وأنا أيضا من عشاقك يا زهرة.
فابتسمت ابتسامة صافية، فلم أشك في أنها تبادلني مودة بمودة وسررت بذلك جدا. وكانت المدام تدعوها - بعد انتهاء العمل - للجلوس معنا في المدخل حول الراديو، فكانت تختار مقعدا بعيدا بعض الشيء عنا وعلى كثب من البارفان وتتابع أحاديثنا برغبة جادة في الاستطلاع والفهم، واستأنستها بمودتي فصرنا صديقين، وتبادلنا الكلام كثيرا في الفرص المتاحة.
وقصت علينا ذات ليلة قصتها بنفسها وهي تظن أننا نسمعها لأول مرة. ثم قالت تعليقا على بعض ظروفها: أراد زوج أختي أن يأكلني، فزرعت أرضي بنفسي. - ألم يشق عليك ذلك يا زهرة؟ - كلا، إني قوية بحمد الله، لم يغلبني أحد في المعاملة، لا في الحقل ولا في السوق.
فقال طلبة مرزوق ضاحكا: ولكن الرجال يهتمون بأمور أخرى أيضا؟
فقالت بتحد لطيف: أكون رجلا عند الضرورة.
فأمنت على قولها بحماس. وقالت المدام: زهرة ليست غشيمة، كانت تصحب أباها في جولاته، كان يحبها جدا.
فقالت بحزن: وكنت أحبه أكثر من عيني، أما جدي فلا يفكر إلا في الانتفاع من ورائي.
ولكن طلبة عاد إلى معاكستها قائلا : لو كان باستطاعتك أن تكوني رجلا فلم اضطررت إلى الهرب؟
فقلت مدافعا عنها: يا طلبة بك، أنت أدرى بجو القرى، وقداسة الأجداد، والتقاليد الرهيبة، كان عليها أن تبقى لتصير زوجة زائفة أو أن تهرب.
Неизвестная страница
رمقتني بامتنان، ثم قالت بأسف: تركت أرضي.
وإذا بطلبة يقول: سيقولون إنك هربت لكيت وكيت ...
حدجته بنظرة غاضبة، واكفهر وجهها كأنما اتخذ من ماء الفيضان بشرة جديدة، وفردت سبابتها والوسطى وهي تقول بخشونة: أغرزهما في عين من يتقول علي بالباطل.
هتفت المدام: زهرة، ألا تفرقين بين الجد والدعابة؟
وقلت بدوري ملاطفا وقد أخذت بغضبتها: إنه يداعبك يا زهرة.
وملت نحوه متسائلا: أين لباقتك يا عزيزي؟
فأجابني باستهانة: موضوعة تحت الحراسة! •••
عيناها عسليتان، وجنتاها دسمتان موردتان، في ذقنها غمازة. بالكاد حفيدتي الصغرى، أما جدتها المحتملة فقد مرت في لمح البصر. لم يدركها حب ولا زواج. المستحيل تذكر ملامحها. بيرجوان والدرب الأحمر وسيدي أبو السعود طبيب الجراح. ••• - حتى متى تبقى هنا يا سيدي؟
كانت تجيئني في حجرتي بقهوة العصر فأستبقيها حتى أفرغ؛ رغبة في حديثها. - إني مقيم هنا يا زهرة. - وأسرتك؟
قلت ضاحكا: لا أحد لي في الدنيا سواك.
Неизвестная страница
فضحكت من أعماق قلبها في مرح. يدها صغيرة صلبة خشنة الأنامل. قدماها مفلطحتان كبيرتان. أما الجسم والوجه فسبحان الله العظيم!
ومرة همست لي: إنه ثقيل الدم!
قلت لها مستعطفا: إنه رجل كبير سيئ الحظ، وبه مرض. - يظن نفسه باشا وقد مضى عهد الباشوات.
وقع قولها من أذني موقعا غريبا، فدار رأسي في دائرة سحرية قطرها قرن كامل. ••• - يأبون زيارة وزير الحقانية لأنه أفندي. - يا دولة الزعيم، لرجال القضاء مهابتهم! - إني فلاح قبل كل شيء، أما هم فشراكسة.
ثم ماضيا في تصميم: اسمع، طالما عيروني بالغوغاء ففاخرتهم بأنني زعيم الرعاع ذوي الجلاليب الزرق. اسمع، لا بد أن تتم الزيارة .. وبكل احترام. •••
حتى أنواع الويسكي حفظت أسماءها وهي تبتاعها من بقالة الهاي لايف. وكانت تقول لي: كلما طلبتها رمقتني الأبصار وضحكت الوجوه.
فرددت في نفسي «ليحفظك الله!» •••
يا لها من ضوضاء . الأصوات ليست بالغريبة ولكنها تصرخ محتدمة. ماذا يجري خارج الغرفة؟ غادرت الفراش والساعة تدق الخامسة مساء. تلفعت بالروب ومضيت إلى الخارج. لمحت طلبة وهو يختفي في حجرته ضاربا كفا على كف. رأيت زهرة جالسة مقطبة وشبه باكية مقوسة الظهر، والمدام واقفة أمامها في غاية من الكدر. ماذا هناك؟ قالت المدام لما رأتني: زهرة سيئة الظن جدا يا عامر بك.
تشجعت زهرة بحضوري فقالت بخشونة: أراد أن أدلكه!
بادرتها المدام: إنك لا تفهمين، إنه مريض، كلنا نعلم ذلك، في حاجة إلى تدليك، كان يسافر كل سنة إلى أوروبا، وما دمت لا تريدين فلن يرغمك أحد.
Неизвестная страница