هكذا كان لسينج لا يخرج من محنة إلا ليدخل محنة جديدة، ولا تلوح له بوارق الأمل إلا لتختفي بعد حين. أقفل مسرحه القومي أبوابه، وفشل مشروع دار النشر في تحقيق الثروة المرموقة، وفكر لسينج في مخارج تنقذه من ورطته؛ فكر مثلا في الرحيل إلى فينا ليتصل بيوزف الثاني (ابن ماريا تريزيا)، الذي اشتهر بتشجيعه الأدباء والفنانين وأهل الفكر، خاصة بعد أن نجحت بعض مسرحياته على مسرح فينا وعرفه الجمهور النمساوي. وفكر في الرحيل إلى روما حيث كان منصب مدير عام الآثار قد خلا بموت فنكلمان عام 1768م، ولكنه لم يخرج مشروعاته هذه إلى حيز التنفيذ، وأخيرا توسط له بعض أصدقائه لدى ولي عهد براونشفايج ليعينه أمينا لمكتبة «فولفنبوتل» المعروفة باسم «ببليوتيكا أوجوستيا »، وهي المكتبة التي كان الفيلسوف الشهير «لايبنتس» أمينا لها، ونجحت الوساطة. وانتقل لسينج عام 1770م إلى مقر عمله الجديد، ليظل به 11 عاما من النشاط الفكري الكبير وقد انتهت مشكلاته المالية تماما.
ولم تكن مشكلاته المالية لتنتهي إلا لتفسح مكانا لمشكلات من نوع آخر، بعضها عائلية وبعضها دينية. كان لسينج قبل مبارحته هامبورج قد تلقى خبر وفاة صديقه كونيج في الخارج، فوفى بوعده الذي قطعه على نفسه برعاية الأسرة وظل يرعاها حتى مات. وقد تحولت صلته بأرملة كونيج إلى ميل متبادل ثم إلى خطبة في عام 1771م، ولم تؤد الخطبة إلى قران إلا عام 1776م؛ فقد كانت الأرملة كونيج منهمكة في إدارة تجارة زوجها الراحل، وكان العمل يضطرها إلى السفر إلى فينا، بل وإلى الإقامة بها سنوات. وأخيرا انتظمت التجارة وتم عقد القران.
كان العمل في مكتبة فولفنبوتل تحولا صعبا في حياة لسينج الذي كان ظل طول حياته - باستثناء الفترة البرسلاوية - كاتبا حرا، لا يتقيد بوظيفة بعينها، ولا يلتزم بالبقاء في مكان بعينه، فإذا به الآن يدعى ليلتزم مكانا صغيرا بمدينة صغيرة تركها أمراؤها وسكنوا بعيدا عنها، وليعيش عيشة روتينية ترسم ظروف العمل صورتها. وكان يتسلى عن ذلك بالكتب التي أغرم بها - كانت المكتبة تضم نحو 70000 مجلد - وبالرد على استفسارات العلماء ردا علميا مستندا على المراجع النادرة بالمكتبة، ثم شرع ينشر مقالات علمية متفرقة عن محتويات المكتبة، جمعها بعد ذلك في ست مجلدات تحت عنوان «في التاريخ والأدب: من كنوز المكتبة الأميرية بفولفنوبوتل». كذلك أتم مسرحية «إميليا جالوتي» التي كان قد بدأها في ليبتسج عام 1758م، وأخرجها للناس عام 1771 / 1772م، عملا فريدا يحمل بين طياته تعبيرا صامتا عن أحاسيس فنان لم يغرب الأسى عن قلبه، وظل سنين يكافح ويكافح، وأخيرا لم ينل من الدنيا سوى الوحدة والعزلة والفراق. كتاباته كلها في ذلك الوقت تدل على ألمه لبعد خطيبته عنه، حتى إنه فكر في ترك العمل بمكتبه فولفنوبوتل والانتقال إلى فينا حيث كانت الأرملة كونيج تقيم مؤقتا، وشجعه على هذا التفكير نجاح مسرحيته «إميليا جالوتي» نجاحا كبيرا في فينا عام 1775م، واهتمام ماريا تريزيا ووزيرها كاونيتس به، ولكنه ظل في فولفنبوتل، ورافق الأمير ليوبولد في رحلة إلى إيطاليا دامت بضعة شهور.
كان لسينج في معرض اهتمامه بتقصي أصول الثقافة الأوروبية، واستجلاء ما غمض منها، يهتم إلى جانب العنصر الإغريقي اللاتيني بالعنصر المسيحي، ويجتهد في فهم اللاهوت وعلوم الدين المسيحي بطريقة جديدة تتفق مع روح العصر الذي سيطرت عليه طرق البحث العلمي ومذاهب الفلسفة العقلية. وتصادف أن وجدت ابنة الأستاذ الهامبورجي «هرمن رايماروس» (توفي عام 1768م) في مخلفات أبيها مؤلفا يعالج أمور الدين، فسلمته إلى لسينج وصرحت له بنشره. وكان المعروف عن رايماروس أنه في حياته كان يبشر كفلاسفة التنوير ب «دين الفطرة» و«مذهب العقل» ولكنه لم يكن يمس المسيحية مسا مباشرا. أما كتابه الذي وقع في يد لسينج فكان فيه هجوم صريح على المسيحية بشكلها الكنسي التقليدي وعلى أصولها المختلفة، يعتمد فيه على شواهد من الفلسفة والتاريخ. واستحسن لسينج الكتاب وبدأ يجرب نشره قطعة قطعة، فنشر في الكراسة الثالثة من مقالاته عام 1774م، أول قطعة، دون الإشارة إلى اسم مؤلفها، ثم عاد بعد مضي بضع سنوات إلى نشر قطعة أخرى كان فيها هجوم على موضوعات أساسية في الدين، منها الإلمام والوحي والإعجاز، وأبرز لسينج طريقة التدليل التاريخي في صورة ناضجة، وفتح بذلك بابا جديدا هاما في ميدان الفكر.
تسبب نشر هذه القطعة في إثارة معركة كبيرة هاجمه فيها الكثيرون هجوما عنيفا، فرد على الهجوم بمقالات حاسمة منها «إثبات الروح والقوة» و«إنجيل يوحنا»، وتأججت المعركة. ووقف أمام لسينج أساسا «يوهان ملشيور جوتسه» الراعي الأول في «سانت كاتارينا». وكان لسينج قد تعرف عليه في هامبورج وشرب معه خمرا معتقة من مخزون الراعي، وتناقش معه آنئذ في موضوعات عديدة، مناقشات من نوع تبادل الآراء، فإذا به يتحول الآن إلى غريم لا يتورع في هجومه عن اللجوء إلى التشهير والافتراء، وقد رد عليه لسينج بسلسلة من المقالات بعنوان «ضد جوتسه».
لم تكن جبهة «جوتسه» هي الجبهة الوحيدة التي يقف فيها لسينج؛ فقد شاء القدر أن يمتحنه في جبهة أخرى. كانت حياة لسينج قد بدأت تستقر بزواجه من إيفا كونيج، وظن الاثنان أن سعادتهما بدأت تكتمل باقتراب مولد طفل لهما، ولكن ظنهما كان سرابا، فمات الطفل بعد مولده، وتبعته أمه. وبقي لسينج يعاني أقسى محنة مرت به، لكنه تمالك نفسه وترك الحياة تسير في بيته عادية، وظل يرعى أولاد زوجته بحنان أبوي فياض، ولكن أعراض الإعياء كانت قد بدأت تظهر عليه.
لم يتوقف لسينج عن متابعة نشر مقتطفات أخرى من كتاب رايماروس؛ ففي عام 1778م، نشر قطعة بعنوان «هدف يسوع وتلاميذه» تحتوي على تشكيك في صعود المسيح وذهاب إلى أنه من اختراع التلاميذ. واشتد الهجوم الذي كان الجمهور يتابعه بحماس بالغ. ورأى أعداء لسينج أنهم لن يغلبوه بالنقد العلمي، فلجئوا إلى القوة واستعملوا نفوذهم لدى السلطات، فصدر في 13 يوليو 1779م، قرار بوضع نشريات لسينج تحت رقابة شديدة، ومنعه من التعرض للموضوعات الدينية، وبمصادرة مؤلفات رايماروس. وعارض لسينج القرار دون جدوى، فنقل ميدان المعركة إلى هامبورج، وكان القرار الصادر ضده من سلطات براونشفايج لا يسري إلا عليها. ونشر في هامبورج مقالا بعنوان «رد ضروري على سؤال لا ضرورة له»، ثم قرر أن يعتلي منصته الحقيقية، منصة المسرح، ويوجه إلى جوتسه وغيره من المكابرين ردا بليغا، فكتب قصيدته المسرحية الخالدة «ناتان الحكيم» يدعو فيها إلى التسامح، وإلى السمو بالإنسانية فوق المهاترات. وظهرت المسرحية في شتاء 1778 / 1779م، فنفدت الطبعة فورا، وتكرر طبعها مرارا في عام واحد، فكان استقبال الجمهور لها بمثابة استفتاء شعبي صوتت فيه الأغلبية للتسامح والإنسانية، ورفضت التعصب والتزمت.
ومات جوتسه، وماتت مقالاته وتشهيراته وبقي العمل العظيم، العمل الخالد، بقي «ناتان الحكيم»، بقيت دعوة التسامح والإنسانية والتقدم ضمن مقدسات الأمة الألمانية - على حد قول جوته - بل ضمن مقدسات البشرية كلها.
كان لسينج قد وضع آخر قوته في «ناتان الحكيم»، وختم به حياته الأدبية الحافلة. وفي 15 فبراير 1781م، لفظ أنفاسه الأخيرة وله من العمر 52 عاما، على أثر نوبة قلبية لم تمهله. (1-1) أعمال لسينج (وينطق لسينغ أيضا) (أ) النقد
رسائل خاصة بالأدب الحديث (1759-1765م).
Неизвестная страница