وعاد لسينج إلى ليبتسج ليبقى بها فترة قصيرة يرى فيها نهاية فرقة نويبر وغرق أفرادها في الديون والضائقات المالية. ويتدخل مرة باعتباره ضامنا لبعض الممثلين المفلسين، وما يلبث صاحب الدين أن يطالبه بما عجز المفلس عن سداده ويهدده بمقاضاته، فيترك ليبتسج في جنح الظلام كالهارب، وينتقل إلى فيتنبرج فيسجل اسمه في جامعتها طالبا بكلية الطب، لكنه لا يبقى بفيتنبرج طويلا ويتحول إلى برلين.
ظل لسينج في برلين سبع سنوات، من 1748م إلى 1755م، يزاول نشاطا فكريا ضخما في حركة التنوير الكبرى
Aufklarung
التي سبقت العصر الكلاسيكي في ألمانيا، واعتمدت على أفكار الفلاسفة الإنجليز والفرنسيين خاصة فولتير، لكن عصر احتراف الأدب والفكر لم يكن قد حل بعد، وكان رجال الفكر والأدب دائما يحترفون حرفا أخرى يتكسبون منها. كذلك لسينج، كان يترجم ترجمات تجارية من الفرنسية والإنجليزية والإسبانية ويعيش على ما يربحه منها، ويحاول أن يجد فيها شيئا من الفائدة، معتبرا إياها نوعا من التمرين على تليين الأسلوب وتطويعه.
واشتغل بالصحافة، فحرر ب «الجريدة البرلينية» صفحة أدبية بعنوان «الجديد في عالم الأدب». وفي عام 1751م قطع إقامته البرلينية، وتوجه إلى فيتنبرج حيث حصل على درجة الماجستير من جامعتها. وعاد إلى برلين ليستأنف نشاطه أديبا حرا لا يفكر في وظيفة أو عمل مقيد، واتصل لسينج برسول عصر التنوير فولتير وكان فريدريش الثاني ملك بروسيا قد استدعاه وعينه في بلاطه، ولكن العلاقة بين لسينج وفولتير لم تدم طويلا؛ فقد حدث أن دفع فولتير مرة إلى لسينج ببعض مخطوطاته، فاستعمله لسينج على نحو أغضب فولتير، فما كان من فولتير إلا أن شكاه للملك مهولا الأمر مبالغا في الإساءة إلى لسينج. وقد ظل الملك - حتى بعد أن دب الشقاق بينه وبين فولتير - يسيء تقدير لسينج إساءة بالغة. ورغم هذا فقد ظل لسينج على رأيه في فولتير، يعجب به ويرى فيه عمدة حركة التنوير في أوروبا.
أما رأي لسينج في فريدريش الثاني فكان مزيجا من الموافقة والإنكار؛ أما الموافقة فكانت تنصب على آراء فريدريش التحررية التنويرية، وأما الإنكار فكان ينصب على آراء فريدريش في الحكم المطلق وفي حق الملك في القيام بالحروب الهجومية لتوسيع سلطانه. كان لسينج يحلم بفناء الحكم المطلق وبقيام نظام شعبي حر فيه ازدهار للثقافة وتقدم للإنسانية.
نشر لسينج في الفترة من 1753م إلى 1755م ستة مجلدات بعنوان «كتابات» ضمنها مؤلفات أدبية مختلفة الأنواع؛ قصائد، مقتطفات، مسرحيات، مقالات. وأهم هذه الأعمال كلها مسرحية «مس سارا سمبسون». كتب لسينج هذه المسرحية في مطلع عام 1755م، ونشرها، فلاقت نجاحا كبيرا. ويروى أنها مثلت لأول مرة في مدينة فرنكفورت/أودر فتأثر الجمهور بها أبلغ التأثر وذرف الدموع الغزار، ثم مثلت بعد ذلك في برلين فأحدثت التأثير نفسه، وظلت تنتقل من مسرح إلى مسرح تحقق النجاح يتلوه النجاح حتى وصلت إلى خارج ألمانيا، وترجمت إلى لغات أجنبية عديدة. ويكفي لتصوير أهميتها في نظر أهل زمانها أن نذكر أن ديديرو هو الذي نقلها بقلمه إلى اللغة الفرنسية. و«مس سارا سمبسون» من نوع التراجيديا البورجوازية الذي يختلف عن التراجيديا الكلاسيكية في أن الشخصيات والحدث مأخوذة من المحيط البورجوازي، لا من المحيط الأرستقراطي، وفي أن اللغة المستعملة بها لغة النثر لا لغة الشعر. واضح أن هذا النوع لقي نجاحا مؤكدا؛ لأنه كان النوع المناسب للعقلية المسيطرة على العصر، عقلية البورجوازية الصاعدة. ونحن ربما وجدنا في هذه القطعة بعض التهويل في تصوير المشاعر والعواطف ولكننا نقدرها باعتبارها رائدة النوع (التراجيديا البورجوازية) في ألمانيا، وباعتبارها محاولة ناجحة للنزول إلى الشعب والتعبير عن ذات نفسه.
في عام 1755م، انتقل لسينج من برلين إلى ليبتسج، مدينة المسرح بلا منازع، وتعرف على فرقتها المسرحية الشهيرة، فرقة كخ. وهناك سنحت له فرصة عظيمة للتجول في أوروبا؛ إذ اقترح عليه تاجر شاب غني من أهالي ليبتسج يدعى فنكلر أن يجوبا معا أقطار أوروبا، وبخاصة هولندا وإنجلترا، في رحلة تدوم سنتين أو ثلاث سنوات. وقبل لسينج الدعوة المغرية، وذهب الاثنان إلى أمستردام ليبحرا من هناك إلى إنجلترا. وفجأة وصلت الأخبار بأن ملك بروسيا يزحف على ساكسونيا وبأنه احتل ليبتسج، فخشي فنكلر على أملاكه في ليبتسج ورجع ومعه لسينج إلى هناك، حيث نزل لسينج عليه ضيفا في بيته المعروف باسم «كرة النار» (وهو البيت الذي سيأتي جوته للسكنى به بعد عشر سنوات تقريبا). وسرعان ما دب الشقاق بين لسينج وفنكلر، فترك لسينج ليبتسج وعاد إلى برلين، ليجد صديقا له يدعى نيكولاي قد تولى إدارة دار للنشر يملكها أخوه، وأصدر مجلة أسبوعية اسمها «رسائل عن الأدب الجديد»، فقام لسينج بالكتابة فيها، بل يروى أنه كان يكتب كل مادتها طوال السنتين الأوليين. أظهر لسينج في هذه الرسائل مقدرة فائقة على النقد الفني، فكان يتناول بالتعليق كل ما يصدر من أدب جديد فيفحصه فحصا دقيقا ويقدره تقديرا متزنا بغض النظر عن مكانة صاحبه أو شهرته. وأضاف لسينج إلى نشاطه في ميدان النقد نشاطا مساويا في ميدان الترجمة، فنشر ترجمات لمسرحيات من أعمال ديديرو (1760م) عرفت الجمهور الألماني به. وكان ديديرو قد سلك أيضا طريق التراجيديا البورجوازية، وأنتج فيها أعمالا طيبة، فلا غرابة أن يهتم به صاحب «مس سارا سمبسون» اهتماما خاصا.
لكن هذه الأعمال كلها لم تكن تكفي لتثبيت أركان حياة لسينج من الناحية المالية. ورأى أصحابه ما هو فيه من ضيق، فتدخلوا بنفوذهم، وبحثوا حتى وجدوا للسينج عملا ثابتا في معية أحد الكبراء. وهكذا دخل لسينج في خدمة الجنرال البروسي فون تاوتنسيين سكرتيرا له. وانتقل لممارسة مهام وظيفته إلى برسلاو (سيليزيا)، وقال للمقربين إليه إن الوقت قد حان ليملأ جيبه بالمال كما ملأ رأسه بالعلم، وليخالط الناس كما خالط الكتب. كان العمل في معية الجنرال البروسي على هوى لسينج؛ في الصباح إنجاز الأعمال الإدارية، وفي الظهر الاشتراك في اجتماعات الجنرال بمعاونيه، ومن بعد الظهر إلى اليوم التالي تحت تصرفه الخاص. وظل لسينج يمارس هذه الوظيفة أربع سنوات، كسب خلالها مالا كثيرا، صرفه كله أو جله؛ كان عليه أن يجاري الوسط الراقي الذي يخالطه في المعيشة الفاخرة وأن يشاركه في لعب القمار من ناحية، وكان ينفق الكثير ليقتني كتبا يكون بها بالتدريج مكتبة خاصة من ناحية ثانية، وكان من ناحية ثالثة يحول إلى أبيه مبالغ كبيرة ليستعين بها على الحياة وعلى الإنفاق على أبنائه العديدين.
لم تحقق السنوات البرسلاوية للسينج إذن ما كان يرجوه من ثروة، ولكنها هيأت له مادة عدد من أهم أعماله:
Неизвестная страница