منهاج البلغاء وسراج الأدباء
المعاني
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد.
قال الإمام الحافظ البليغ الحجة في مقام الأدب ومضماره حازم بن محمد القرطاجني.
أو منافرة لها (......) إلى (......) صحيح (......) .
المنهاج الأول في الإبانة عن ماهيات المعاني وأنحاء وجودها ومواقعها، و(ال) تعريف بضروب هيئاتها و(جهات) التصرف فيها وما تعتبر (به) أحوالها في جميع ذلك، من حيث تكون (ملائمة) للنفوس أو منافرة لها.
أ- معلم (دال) على طرق (العلم بالمعاني) وحقائقها وأنحاء (النظر) فيها (وبما ينبغي) أن تعتبر به أحوالها، من جهة ما يرجع إليها وما هو خارج (عنها) (......) هنالك موجودات خارج الذهن عن أمثلة لها وجود (......) وهي الهيئات النطقية.
لما كانت المعاني إنما (تتحصل) في الأذهان عن الأمور الموجودة في الأعيان وكانت تلك (المعاني) إنما تتحصل في الذهن بأعلام من العبارة توضع للدلالة (......) عن علم على صورة صورة منها، فتتمثل بحصول تلك الصورة في ال (......) الموجودة في الأعيان التي تلك الصور الحاصلة في الذهن (......) كانت تلك الصور الذهنية إنما يتخيل بها ما هي صور (......) (خارجة) عن الذهن (بوجه) مخصوص وترتيب مخصوص (......) تلك الصور الذهنية في الألفاظ إنما تدل على (......) .
(......) عليها هو الذي ران على قلوب شعراء المشرق المتأخرين (وأعمى) بصائرهم عن حقيقة الشعر منذ مائتي سنة. فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة من نحا نحو الفحول ولا من ذهب مذاهبهم في تأصيل مبادئ الكلام وإحكام وضعه وانتقاء مواده التي يجب نحته منها. فخرجوا بذلك عن مهيع الشعر ودخلوا في محض التكلم. هذا على كثرة المبدعين المتقدمين في الرعيل الأول من قدمائهم والحلبة السابقة زمانا وإحسانا منهم.
المنهج الثاني في الإبانة عن طرق اجتلاب المعاني وكيفيات التئامها وبناء بعضها على بعض، وما تعتبر به أحوالها في جميع ذلك، من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.
ب- معلم علة طرق العلم باقتباس المعاني وكيفية اجتلابها وتأليف بعضها إلى بعض
يحب على من أراد جودة التصرف في المعاني وحسن المذهب في اجتلابها والحذق بتأليف بعضها إلى بعض أن يعرف أن للشعراء أغراضا أول هي الباعثة على قول الشعر. وهي أمور تحدث عنها تأثرات وانفعالات للنفوس، لكون تلك الأمور مما يناسبها ويبسطها أو ينافرها ويقبضها أو لاجتماع البسط والقبض والمناسبة والمنافرة في الأمر من وجهين. فالأمر قد (يبسط) النفس ويؤنسها بالمسرة والرجاء ويقبضها بالكآبة والخوف. وقد يبسطها أيضًا بالاستغراب لما يقع فيه من اتفاق بديع. وقد يقبضها ويوحشها بصيرورة الأمر من مبدإ سار إلى مآل غير سار. وإذا ارتيح للأمر من جهة واكترث له من جهة على نحو ما (......) جرى مجرى ذلك كانت أقوالا شاجية.
١- إضاءة: والارتياح للأمر السار إذا كان صادرا عن قاصد لذلك أرضى فحرك إلى المدح. والارتماض للأمر الضار إذا كان صادرا عن قاصد لذلك أغضب فحرك إلى الذم. وتحرك الأمور غير المصودة أيضا، من جهة ما تناسب النفس وتسرها ومن جهة ما تنافرها وتضرها، إلى نزاع إليها أو نزوع عنها وحمد وذم أيضا. وإذا كان الارتياح لسار مستقبل فهو رجاء. وإذا كان الارتماض لضار مستقبل كانت تلك رهبة. وإذا كان الارتماض لانقطاع أمل في شيء كان يؤمل، فإن نحي في ذلك منحى التصبر والتجمل سمي تأسيا أو تسليا، وإن نحي به منحى الجزع والاكتراث سمي تأسفا أو تندما. ويسمى استدفاع المخوف المستقبل استلطافا. وإذا استدفع المتكلم ذلك فأسعف به وضمن وصف الحال في ذلك كلاما سمي إعتابا. والتعزير على الأمر المرتمض منه والملامة فيه تسمى معاتبة. فإن كان الارتياح لأمر شأنه أن يسر محضره إلا أنه يكون بعيدا من المتكلم، من جهة زمان ماض أو مستقبل أو مكان أو إمكان، حرك ذلك إلى الاستراحة لذكره والتشوف إليه، فتكون الأقوال في الأشياء التي علقتها بأغراض النفوس على هذا النحو متنوعة إلى فنون كثيرة نحو التشوقيات والإخوانيات وما جرى مجرى ذلك.
1 / 1
٢- تنوير: فقد تبين بهذا أن أغراض الشعر أجناس وأنواع تحتها أنواع. فأما الأجناس الأول فالارتياح والاكتراث وما تركب منهما نحو إشراب الارتياح الاكتراث أو إشراب الاكتراث الارتياح، وهي الطرق الشاجية. والأنواع التي تحت هذه الأجناس هي: الاستغراب والاعتبار والرضى والغضب والنزاع والنزوع والخوف والرجاء. والأنواع الأخر التي تحت تلك الأنواع هي: المدح والنسيب والرثاء والتذكرات وأنواع المشاجرات وما جرى مجرى هذه الطرق من المقاصد الشعرية. وسيأتي تفصيل هذه الجملة في موضعها في القسم الرابع إن شاء الله.
٣- إضاءة: فمعاني الشعر، على هذا القسم، ترجع إلى وصف أحوال الأمور المحركة إلى القول أو إلى وصف أحوال المتحركين لها أو إلى وصف أحوال المحركات والمحركين معا. وأحسن القول وأكمله ما اجتمع فيه وصف الحالين.
٤- تنوير: ولا يخلو الشيء في جميع تلك الأحوال من أن ينسب إلى الشيء بإيجابه له أو تزال نسبته إليه بسلبه عنه أو ينسب إليه لا على جهة إيجاب ولا سلب ولكن على جهة الاحتمال والإمكان. وكل ذلك لا تخلو أن تكون راجعة إلى ما يرجع إلى الشيء ويخصه في ذاته أو يكون غير راجع إلى ما يخصه في ذاته بل لأمر عرض له من غيره أو لما تدركه منه القوى الحسية أو التصورية أو بحسب نسبته إلى شيء تأخر في زمان أو مكان أو بحسب موقعه من اعتقاد ما أو بحسب ما يجعل شرطه فيه أو بحسب مقايسته بشيء آخر أو بحسب الفرض.
٥- إضاءة: والمتصرف في هذه المعاني لا يخلو من أن يكون مثبتا لشيء ببعض تلك الاعتبارات أو مبطلا أو مسويا بين شيئين أو مباينا بينهما أو مرجحا أو متشككا، ولا يخلو من أن يكون معمما أو خاصا حاصرا أو غير حاصر آخذا للشيء بجملته أو محاشيا بعضه. وللعبارة عن جميع ذلك أدوات وضعت للاختصار. وقد يعبر عن جميع ذلك بغير تلك الأدوات. فهذه وأشباهها من المعاني، التي تدل على مقاصد المتكلم واعتقاداته وأحكامه في التصورات والتصديقات المتعلقات بغرضه، معان ثوان ينوطها بمعاني كلامه لتبين فيها أحكاما وشروطا.
٦- تنوير: وهنا معان أخر، وهي أنحاء المخاطبات مثل أن يكون المتكلم مخبرا أو مستخبرا آمرا أو ناهيا داعيا أو مجيبا.
٧- إضاءة: فقد تبين بهذا أن المعاني صنفان: وصف أحوال الأشياء التي فيها القول، ووصف أحوال القائلين أو المقول على ألسنتهم، وأن هذه المعاني تلتزم معاني أخر تكون متعلقة بها ومتلبسة بها، وهي كيفيات مآخذ المعاني وموقعها من الوجود أو الفرض أو غير ذلك ونسب بعضها إلى بعض، ومعطيات تحديداتها وتقديراتها، ومعطيات الأحكام والاعتقادات فيها، ومعطيات كيفيات المخاطبة.
٨- تنوير: ويجب على من أراد حسن التصرف في المعاني، بعد معرفة ضروبها التي أجملت ذكرها، أن يعرف وجوه انتساب بعضها إلى بعض. فيقول: إنه قد يوجد لكل معنى من المعاني التي ذكرتها معنى أو معان تناسبه وتقاربه، ويوجد له أيضًا معنى أو معان تضاده وتخالفه. وكذلك يوجد لمضاد هـ في أكثر الأمر معنى أو معان تناسبه. ومن المتناسبات ما يكون تناسبه بتجاور الشيئين واصطحابهما واتفاق موقعيهما من النفس، ومنه ما تكون المناسبة باشتراك الشيئين في كيفية، ولا يشترط فيه التجاور ولا الاتفاق في الموقع من هوى النفس. وما جعل فيه أحد المتناسبين على هذه الصفة مثالا للآخر ومحاكيا له فهو تشبيه.
٩- إضاءة: فإذا أردت أن تقارن بين المعاني وتجعل بعضها بإزاء بعض وتناظر بينها فانظر مأخذ يمكنك معه أن تكون المعنى الواحد وتوقعه في حيزين، فيكون له في كليهما فائدة، فتناظر بين موقع المعنى في هذا الحيز وموقعه في الحيز الآخر فيكون من اقتران التماثل، أو مأخذا يصلح فيه اقتران المعنى بما يناسبه فيكون هذا من اقتران المناسبة، أو مأخذا يصلح فيه اقتران المعنى بمضادة فيكون (هذه مطابقة أو مقابلة، أو مأخذا يصلح فيه اقتران الشيء بما يناسب) مضاده فيكون هذا مخالفة، أو مأخذا يصلح فيه اقتران الشيء بما يشبهه ويستعار اسم أحدهما للاخر فيكون هذا من تشافع الحقيقة والمجاز.
1 / 2
١٠- تنوير: وقد يكون المأخذ في العبارة المقترن فيها معنيا بأحد هذه الاقترانات على أن يكون كلا المعنيين عمدة في الكلام وركنا يثلم الغرض إزالته. وقد يكون المأخذ فيها على أن يكون أحد المعنيين عمدة والآخر فضلة أو كالفضلة لضروب من التتميميات والتعريضات وتحقيق صحة مفهوم أحدهما ببيان الصحة في مفهوم الآخر كمن يقول: العفاف فضيلة كما أن الفسوق رذيلة.
١١- إضاءة: وإذ قد عرفنا كيفية التصرف في المعاني التي لها وجود خارج الذهن والتي جعلت بالفرض بمنزلة ما له وجود خارج الذهن فيجب أيضًا أن (يشار) إلى المعاني التي ليس لها وجود خارج الذهن أصلا، وإنما هي أمور ذهنية محصولها صور تقع في الكلام بتنوع طرق التأليف في المعاني والألفاظ الدالة عليها والتقاذف بها إلى جهات من الترتيب والإسناد، وذلك مثل أن تنسب الشيء إلى الشيء على جهة وصفه به أو الإخبار به عنه أو تقديمه عليه في الصورة المصطلح على تسميتها فعلا أو نحو ذلك. فالإتباع والجر وما جرى مجراهما معان ليس لها خارج الذهن وجود لأن الذي خارج الذهن هو ثبوت نسبة شيء إلى شيء أو كون الشيء لا نسبة له على الشيء. فأما أن يقدم عليه أو يؤخر عنه أو يتصرف في العبارة عنه نحوا من هذه التصاريف فأمور ليس وجودها إلا في الذهن خاصة.
١٢-تنوير: وإذ قد تبين هذا فيجب أن نشير إلى ما يحسن اعتماده في التصرف في هذه المعاني الذهنية. وإن تعددت في الشيء الواحد بحسب وضعه (و) ترتيبه فالواجب أن يعتمد من تلك الصور المتعددة وإن استوت دلالة ومعنى به يليق (......) عبارة لا تسد مسد عبارة في حسن وقع وإن كان مفهومهما واحدا، لان إحداهما أليق بالموضع وأشدهما مناسبة لما وقع في جنبتي الكلام المكتنفتين له أو لما وقع (......) إحداهما. ويكون هذا التناسب يقع بين المفهومات أو بين المسموعات الدالة عليها.
١٣- إضاءة: ويحسن أيضًا أن يقصد تنويع الكلام من جهة الترتيبات الواقعة في عباراته وفي ما دلت عليه بالوضع في جميع ذلك والبعد به عن التواطؤ والتشابه، وأن يؤخذ الكلام من كل مأخذ حتى يكون كل مستجدا بعيد من التكرار، فيكون أخف على النفس وأوقع منها بمحل القبول. ويقتدر على هذا بعرفتة كيفيات تصاريف العبارات وهيآت ترتيبها وترتيب ما دلت عليه، والبصيرة بضروب تركيباتها وشتى مآخذها، وبقوة ملاحظات الخواطر لضروب تلك العبارات وأصناف هيآتها وهيآت ما دلت عليه، وللحيل التي تنتظم بها تلك العبارات على الهيآت المختارة لمسلك الوزن باختصار أو حشو أو إبدال لفظة مكان لفظة أو تقديم أو تأخير، وبسرعة التنبه للموضع الذي تطابقه العبارة من الوزن في ترتيب الحركات والسكنات فيطبعها في ذلك الموضع ويصلها بما قبلها بزيادة أو نقص أو إبدال أو غير ذلك. وإن اتفق ألا يحتاج في صلتها بما قبلها إلى شيء من ذلك فهو أحسن. ولما كان التصرف في ترتيب العبارات بإزاء التصرف في ترتيب المعاني جعلت هذه الإضاءة الموضحة عن الوجوه التي يجب اعتمادها في جميع ذلك.
١٤- تنوير: يشترط في النقلة من بعض هذه المعاني الذهبية إلى بعض أن يكون ذلك غير خارج عن الهيآت التي وقعت للعرب في النقلة من بعض ذلك إلى بعض. ويشترط في المعاني التي خارج الذهن أن ينتقل في أمثلتها الذهبية يكون النظر في صناعة البلاغة من جهة ما يكون عليه اللفظ الدال على الصور الذهنية في نفسه ومن جهة ما يكون عليه بالنسبة إلى موقعه من النفوس من جهة هيأته ودلالته، ومن جهة ما تكون عليه تلك الصور الذهنية في أنفسها، ومن جهة مواقعها من النفوس من جهة هيآتها ودلالاتها على ما خارج الذهن، ومن جهة ما تكون عليه في أنفسها الأشياء التي تلك المعاني الذهنية صور لها وأمثلة دالة عليها، ومن جهة مواقع تلك الأشياء من النفوس.
1 / 3
١٥- إضاءة: وقد تقدم الكلام في ما تكون عليه الألفاظ في أنفسها وبالنظر إلى هيآتها ودلالتها وكيفية مواقع تلك الهيآت بدلالتها من النفوس. وبقي الآن أن نتكلم في المعاني الذهبية وفي بعض ما يحتاج إليه في هذه الصناعة مما يتعلق بالأشياء التي تلك المعاني الذهبية صور لها مما تكون عليه تلك الأشياء وما تكون عليه صورها، ومن جهة مواقعها من النفوس، وكونها مما يستميل النفس أو ينفرها لكونها ملائمة لها أو منافرة، أو بإيهام النفس ذلك فيها بتخييل شعري أو إقناع خطابي وما يكون فيه معونة على تقوية ذلك.
١٦- تنوير: وأنا أدرج تفاصيل هذه الجملة في ما أشرعه إثر هذا من المعالم والمعارف بحسب ما يتوجه إليه النظر في معلم معلم ومعرف معرف من ذلك، لتعرف بذلك الطرق الصحيحة في اعتبار ما تكون عليه أحوال المعاني الذهنية وما هي أمثلة له بالنظر إلى ما يستحسن في كل مذهب من مذاهب هذه الصناعة وما لا يستحسن من ذلك. وقد سلكت من التكلم في جميع ذلك مسلكا لم يسلكه أحد قبلي من أرباب هذه الصناعة لصعوبة مرامه وتوعر سبيل التوصل إليه. هذا على أنه روح الصنعة وعمدة البلاغة. وعلى هذا جريت في أكثر ما تكلمت به فيما عدا هذا القسم من أقسام الكتاب. فإني رأيت الناس لم يتكلموا إلا في بعض ظواهر ما اشتملت عليه تلك الصناعة، (فتجاوزت أنا تلك الظواهر) بعد التكلم في جمل مقنعة مما تعلق بها التكلم في كثير من خفايا هذه الصنعة ودقائقها على حسب ما تقدم وما يأتي إن شاء الله.
ب؟- معرف دال على طرق المعرفة بأنحاء وجود المعاني
إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم. فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ. فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ من لم يتهيأ له سمعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيآت الألفاظ فتقوم بها في الأذهان صور المعاني فيكون لها أيضًا وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليها.
١- إضاءة: قد تبين أن المعاني لها حقائق موجودة في الأعيان ولها صور موجودة في الأذهان ولها من جهة ما يدل على تلك الصور من الألفاظ وجود في الأفهام، ولها وجود ما يدل على تلك الألفاظ من الخط يقيم صور الألفاظ وصور ما دلت عليه في الأفهام والأذهان.
٢- تنوير: وقد تقدم الكلام في كثير مما يجب معرفته من المعاني من حيث توجد في الألفاظ. وبقي أن نتكلم الآن فيها من حيث توجد في الأذهان، وأن نشفع ذلك بذكر بعض ما يتعلق بها من جهة وجودها خارج الذهن مما يتأكد معرفته في هذه الصناعة، وأن نستدرك ما لعلنا لم نذكره مما يتعلق بجهة وجودها في الألفاظ. فأما الوجود الذي لها من جهة الخط فليس التكلم فيه من مبادئ هذه الصناعة.
ج_ معلم دال على طرق العلم بكيفيات مواقع المعاني من النفوس من جهة ما تكون قوية الانتساب إلى طرق الشعر المألوفة والأغراض المعروفة عند جمهور من له فهم بالطبع، أو ضعيفة الانتساب إلى ذلك.
لما كان علم البلاغة مشتملا على صناعتي الشعر والخطابة وكان الشعر والخطابة يشتركان في مادة المعاني ويفترقان بصورتي التخييل والإقناع وكان لكلتيهما أن تخيل وأن تقنع في شيء شيء من الموجودات الممكن أن يحيط بها علم إنساني وكان القصد في التخييل والإقناع حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده وكانت النفس إنما تتحرك لفعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن واحد واحد من الفعل والطلب والاعتقاد بأن يخيل لها أو يوقع في غالب ظنها أنه خير أو شر بطريق من الطرق التي يقال بها في الأشياء إنها خيرات أو شرور
1 / 4
١- إضاءة: والأشياء التي يقال فيها إنها خيرات وشرور أو يتوهم أنها كذلك منها أمور يشترك في معرفتها وإدراكها الخاصة والجمهور ومنها أمور ينفرد بإدراكها ومعرفتها الخاصة دون الجمهور_ وكانت علقة جل أغراض الناس وآرائهم بالأشياء التي اشترك الخاصة والجمهور في اعتقادهم أنها خير أو شر، وكان أحق تلك الأشياء بأن يميل الناس إليها أو ينفروا عنها الأشياء التي فطرت النفوس على استذاذها أو التألم منها أو حصل لها ذلك بالاعتياد، وجب أن تكون أعرق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت علقته بأغراض الإنسان وكانت دواعي آرائه متوفرة عليه، وكانت نفوس الخاصة والعامة قد اشتركت في الفطرة على الميل إليها أو النفور عنها أو من حصول ذلك إليها بالاعتياد، ووجب أن يكون ما لم تتوفر دواعي أغراض الإنسان عليه وما انفرد بإدراكه المكتسب الخاصة دون الجمهور غير عريق في الصناعة الشعرية بالنسبة إلى المقاصد المألوفة والمدارك الجمهورية.
٢- تنوير: فأما بالنظر إلى حقيقة الشعر فلا فرق بين ما انفرد به الخاصة دون العامة وبين ما شاركوهم فيه، ولا ميزة بين ما اشتدت علقته بالأغراض المألوفة وبين ما ليس له كبير علقة إذا كان التخييل في جميع ذلك على حد واحد، إذ المعتبر في حقيقة الشعر إنما هو التخييل والمحاكاة في أي معنى اتفق ذلك.
٣- إضاءة: ولنبين الآن الطرق التي بها تكون علقة المعاني بالأغراض المألوفة عند الجمهور أكيدة وكيف لا تكون علقتها بذلك متأكدة: فأقول: إن الأقاويل المخيلة لا تخلو من أن تكون المعاني المخيلة فيها مما يعرفه جمهور من يفهم لغتها ويتأثر له، أو مما يعرفه ولا يتأثر له، أو مما يتأثر له إذا عرفه، أو مما لا يعرفه ولا يتأثر له لو عرفه. وأحق هذه الأشياء بأن يستعمل في الأغراض المألوفة من طرق الشعر ما عرف وتؤثر له، أو كان مستعدا لأن يتأثر له إذا عرف وكان في قوة كل واحد من جمهور من جبلته في الفهم صالحة أن يتصور ذلك إذا عرف به وذلك كالأخبار التي يحيل عليها الشعراء.
٤- تنوير: وأحسن الأشياء التي تعرف ويتأثر لها أو يتأثر لها إذا عرفت هي الأشياء التي فطرت النفوس على استلذاذها أو التألم منها أو ما وجد فيه الحالان من اللذة والألم كالذكريات للعهود الحميدة المتصرمة التي توجد النفوس تلتذ بتخيلها وذكرها وتتألم من تقضيها وانصرامها. فإذن طرق الشعر إذا في ثلاث جهات: إما أن تكون مفرحة محضة يذكر فيها لقاء الأحبة في حال وجوده واجتلاء الروض والماء وما ناسبهما والتنغم بمواطن السرور ومجالس الأنس، وإما أن تكون (مفجعة) يذكر فيها التفرق والتوحش وما ناسب ذلك وبالجملة أضداد المعاني المفرحة المنعمة، وإما أن تذكر فيها مستطابات قد انصرمت فيلتذ لتخيلها ويتألم لفقدها فتكون طريقة شاجية. واستقصاء القول في هذا يجيء في القسم الرابع ولعلي أن أدرج أيضًا في هذا القسم فضل بيان لذلك.
٥- إضاءة: فما فطرت نفوس الجمهور على استشعار الفرح منه والحزن أو الشجو أو حصل لها ذلك بالعادة هو المعتمد في الأغراض المألوفة في الشعر والمبنى عليه طرقها. وما لم توجد نفوسهم مفطورة عليه من ذلك بما اعتادته فإنما تقع في الأغراض المألوفة بحسب التبعية لما كانت مفطورة عليه أو معتادة له. وذلك بأن يستدرج مما وجد في النفس بحسب الجبلة والعادة إلى ما وجد بالكسب والاستفادة. وتذكر هذه على أنها بعيدة عن التأثير. فلذلك لا يحسن إيراد مثل هذه الأقاويل في الأغراض المألوفة من الشعر ولا يحسن أن تحاكى الأشياء العريقة في الشعر التي اشترطنا فيها الشروط المتقدمة إلا بمثلها مما توجد فيه تلك الشروط.
1 / 5
٦- تنوير: فالمتصورات التي في فطرة النفوس ومعتقداتها العادية أن تجد لها فرحا أو ترحا أو شجوا هي التي ينبغي أن نسميها المتصورات الأصلية. وما لم يوجد ذلك لها في النفوس ولا معتقداتها العادية فهي المتصورات الدخيلة، وهي المعاني التي إنما يكون وجودها بتعلم وتكسب كالأغراض التي لا تقع إلا في العلوم والصناعات والمهن. فالمعاني المتعلقة بهذه الطرق الخاصة ببعض الجماهير لا تحسن في المقاصد العامة المألوفة التي ينحى بها نحو ما يستطيبه الجمهور أو يتأثرون له بالجملة. فإذا استعملت فيها فإنها معيبة لكونها دخيلة في الكلام بحسب الغرض. وإنما تكون أصيلة في الشعر إذا كان غرض الكلام مبنيا على ذلك. فأما إذا لم يكن قصده بنية الكلام على تخييل ما لا يعرفه الجمهور ولا تتأكد علقته بالأغراض، ولكن يورد ذلك على سبيل التبعية على جهة من المحاكاة أو غير ذلك، فإن ذلك غير أصيل في الشعر، ويكون الكلام معيبا بذلك.
٧- إضاءة: والمعاني الشعرية منها ما يكون مقصودا في نفسه بحسب غرض الشعر ومعتمدا إيراده ومنها ما ليس بمعتمد إيراده ولكن يورد على أن يحاكى به ما اعتمد من ذلك أو يحال به عليه أو غير ذلك. ولنسم المعاني التي تكون من متن الكلام ونفس غرض الشعر المعاني الأول، ولنسم المعاني التي ليست من متن الكلام ونفس الغرض ولكنها أمثلة لتلك أو استدلالات عليها أو غير ذلك لا موجب لإيرادها في الكلام غير محاكاة المعاني الأول بها أو ملاحظة وجه يجمع بينهما على بعض الهيآت التي تتلاقى عليها المعاني ويصار من بعضها إلى بعض المعاني الثواني. فتكون معاني الشعر منقسمة إلى أوائل وثوان.
٨- تنوير: وحق الثواني أن تكون أشهر في معناها من الأول لتستوضح معاني الأول بمعانيها الممثلة بها، أو تكون مساوية لها لتفيدتأكيدا للمعنى. فإن كان المعنى فيها أخفى منه في الأول قبح إيراد الثواني لكونها زيادة في الكلام من غير فائدة، فهي بمنزلة الحشو غير المفيد في اللفظ، ولمناقضة المقصد الشعري في المحاكاة والتخييل يكون إتباع المشتهر بالخفي حيث يقصد زيادة المشتهر شهرة أو تأكيد ما فيه من الاشتهار مناقضا للمقصد من حيث كان الواجب في المحاكاة أن يتبع الشيء بما يفضله في المعنى قصد تمثيله به أو يساويه أو لا يبعد عن مساواته، وهي أدنى مراتب المحاكاة.
فالأول هي التي يكون مقصد الكلام وأسلوب الشعر يقتضيان ذكرها وبينة الكلام عليها. والثواني هي التي لا يقتضي مقصد الكلام وأسلوب الشعر بنية الكلام عليها.
٩- إضاءة: ومن المتصورات ما يليق بحقيقة مقاصد الشعر المألوفة وأغراضه المتداولة، وتصلح أن تورد فيها أوائل وثواني، ومنها ما لا يليق بها ولا يصلح فيها أن تورد أوائل ولكن تورد ثواني على ما تقدم ذكره. فالتي يصلح أن تورد أوائل وثواني هي ما تعلق المتصور فيه بشيء معروف عند الجمهور من شأنهم أن يرتاحوا إليه أو يكترثوا له، كان ذلك الشيء مدركا بالحس أو بغيره.
والتي لا يصلح أن تورد أوائل وتورد ثواني هي ما تعلق التصور فيها بحقيقة شيء لا تعم معرفته جميع الجمهور.
١٠- تنوير: فالأصيل في الأغراض المألوفة في الشعر من هذين الصنفين ما صلح أن يقع فيها أولا وثانيا متبوعا وتابعا، لأن هذا يدل على شدة انتسابه إلى طرق الشعر وحسن موقعه منها على كل حال. وهي المعاني الجمهورية. ولا يمكن أن يتألف كلام بديع عال في الفصاحة إلا منها.
1 / 6
والصنف الآخر وهو الذي سميناه بالدخيل لا يأتلف منه كلام عال في البلاغة أصلا إذ من شروط البلاغة والفصاحة حسن الموقع من نفوس الجمهور، وذلك غير موجود في هذا الصنف من المعاني. وأيضا فإنه لا يقع في أغراض الشعر المألوفة إلا (ثانيا وتابعا) . ومن تتبع المعاني الواقعة في الشعر التي مرادها ما ذكرت، وكان له أدنى حظ من البلاغة، واعتبر كلا منها بالقوانين الموضوعة في أصول البلاغة، علم صحة ما قلته. وأنا أقرب على من لم يشد شيئا من علم البلاغة مرام التوصل إلى صحة ما ذكرته، بأن يتتبع في كتب الآداب والبلاغة مذاهب العلماء بالشعر في أي بيت -قالته الشعراء من المتقدمين والمحدثين- أو شعر في كل طريق من طرق الشعر التي منها النسيب والمديح والرثاء والهجاء. فإنه لا يجد مواد ما نص على فضله إلا من المعاني التي ذكرت أنها تقع أولا وثواني، ولا يجد فيها من المواد التي ذكرت أنها لا تقع إلا ثواني شيئا البتة. ولو لم يكن في ذلك إلا أن البصراء بهذه الصناعة، كأبي الفرج قدامة وأضرابه قد نص جميعهم على قبح إيراد المعاني العلمية والصناعية والعبارات المصطلح عليها في جميع ذلك، ونهوا عن إيراد جميع ذلك في الشعر.
وسيأتي في ما أذكره بعد، في هذا القسم إن شاء الله، ما يؤكد صدق القول وصحة المذهب في قبيح تلك المعاني بالنسبة إلى الأغراض المألوفة في الشعر.
١١- إضاءة: وإنما احتجت إلى هذا لأن الطباع منذ اختلت، والأفكار منذ قصرت، والعناية بهذه الصناعة منذ قلت، وتحسين كل من المدعين صناعة الشعر ظنه بطبعه، وظنه أنه لا يحتاج في الشعر إلى أكثر من الطبع، وبنيته على أن كل كلام مقفى موزون شعر، جهالة منه: أن الطباع قد تداخلها من الاختلال والفساد أضعاف ما تداخل الألسنة من اللحن، فهي تستجيد الغث وتستغث الجيد من الكلام ما لم تقمع بردها إلى اعتبار الكلام بالقوانين البلاغية، فيعلم بذلك ما يحسن وما لا يحسن.
ولا شك أن الطباع أحوج إلى التقويم في تصحيح المعاني والعبارات عنها من الألسنة إلى ذلك في تصحيح مجاري أواخر الكلم، إذ لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها وجودة أفكارها عن تسديد طباعها وتقويمها باعتبار معاني الكلام بالقوانين المصححة لها، وجعلها ذلك علما تتدارسه في أنديتها ويستدرك به بعضهم على بعض وتبصير بعضهم بعضا في ذلك. وقد نقل الرواة من ذلك الشيء الكثير لكنه مفرق في الكتب، لو تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك لاستخرج منه علما كثيرا موافقا للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة.
١٢- تنوير: وكيف يظن ظان أن العرب، على ما اختصت به من جودة الطباع لنشئهم على الرياضة واستجداد المواضع وانتجاع الرياض العوازب فضلا عن هذه الطباع التي داخلها الفساد منذ زمان واستولى عليها الخلل، كانت تستغني في قولها الشعر الذي هو بالحقيقة شعر ونظمها القصائد التي كانت تسميها أسماط الدهور عن التعليم والإرشاد إلى كيفيات المباني التي يجب أن يوضع عليها الكلام، والتعريف بأنحاء التصرف المستحسن في جميع ذلك، والتنبيه على الجهات التي منها يداخل الخلل المعاني ويقع الفساد في تأليف الألفاظ والمعاني.
وأنت لا تجد شاعرا مجيدا منهم إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة الطويلة، وتعلم منه قوانين النظم، واستفاد عنه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية. فقد كان كثير أخذ الشعر عن جميل، وأخذه جميل عن هدبة ابن خشرم، وأخذه هدبة عن بشر بن أبي خازم، وكان الحطيئة قد أخذ علم الشعر عن زهير، وأخذه زهير عن أوس بن حجر، وكذلك جميع شعراء العرب المجيدين المشهورين. فإذا كان أهل ذلك الزمان قد احتاجوا إلى التعلم الطويل فما ظنك بأهل هذا الزمان، بل أية نسبة بين الفريقين في ذلك؟!
1 / 7
١٣- إضاءة: وأنت تجيد الآن الحريص على أن يكون من أهل الأدب المتصرفين في صوغ قافية أو فقرة من أهل زماننا يرى وصمة على نفسه أن يحتاج مع طبعه إلى تعليم معلم أو تبصير مبصر. فإذا تأتى له تأليف كلام مقفى موزون، وله القليل الغث منه، بالكثير من الصعوبة، بأى وشمخ، وظن أنه قد سامى الفحول وشاركهم، رعونة منه وجهلا، من حيث ظن أن كل كلام مقفى موزون شعر. وإن مثله في ذلك مثل أعمى أنس قوما يلقطون درا في موضع تشبه حصباؤء الدر في المقدار والهيئة والملمس، فوقع بيده بعض ما يلقطون من ذلك فأدرك هيأته ومقداره وملمسه بحاسة لمسه، فجعل يعني نفسه في لقط الحصباء على أنها در، ولم يدر أن ميزة الجوهر وشرفه إنما هو بصفة أخرى غير التي أدرك. وكذلك ظن هذا أن الشعرية في الشعر إنما هي نظم أي لفظ اتفق كيف اتفق نظمه وتضمينه أي غرض اتفق على أي صفة اتفق، لا يعتبر عنده في ذلك قانون ولا رسم موضوع. وإنما المعتبر عنده إجراء الكلام على الوزن والنفاذ به إلى قافية. فلا يزيد بما يصنعه من ذلك على أن يبدي عن عواره، ويعرب عن قبح مذاهبه في الكلام وسوء اختياره.
١٤- تنوير: وإنما احتجت إلى الفرق بين المواد المستحسنة في الشعر والمستقبحة وترديد القول في إيضاح الجهات التي تقبح وإلى ذكر غلط أكثر الناس في هذه الصناعة لأرشد من لعل كلامي يحل منه محل القبول من الناظرين في هذه الصناعة إلى اقتباس القوانين الصحيحة في هذه الصناعة، وأزع كل ذي حجر عما يتعب به فكره ويصم شعره.
١٥- إضاءة: واعلم أن من المعاني المعروفة عند الجمهور ما لا يحسن إيراده في الشعر. وذلك نحو المعني المتعلقة بصنائع أهل المهن لضعتها. (فإن غالب) عباراتهم لا يحسن أن تستعار ويعبر بها عن معان تشبهها لأنها مزيلة لطلاوة الكلام وحسن موقعه من النفس.
١٦- تنوير: ومن المعاني التي ليست بمعروفة عند الجمهور ما يستحسن إيراده في الشعر، وذلك إذا كان مما فطرت النفوس على الحنين إليه أو التألم منه، وبالجملة على ما تتأثر له النفس تأثر ارتياح أو اكتراث بحسب ما يليق بغرض من ذلك، وكان من أوائلها الأصلية أو ما يناسبها مما هو بها شديد التعلق، ومن شأنه أن يستطرد منه إليها أبدا كأوصاف البروق. هذا إذا كان في قوة جميع الجمهور أن يعرف المعنى الذي بهذه الصفة إذا ألقي إليه كيفية وقوعه في الوجود ويستحسنه بعد المعرفة، وذلك كالإحالات على الأخبار القديمة المستحسنة وطرف التواريخ المستغربة. فإنها حسنة الموقع من النفوس وفي الشعر ما اشتهر من هذا القبيل، ويعبر عنه بحسان العبارات حتى يعرف الخبر منه مفصلا. ومن قصر عن تفهم شيء من ذلك لم يعوزه وجدان من يفهمه إياه، كما أن اللفظ المستعذب وإن كان لا يعرفه جميع الجمهور مستحسن إيراده في الشعر لأنه مع استعذابه قد يفسر معناه، لمن لا يفهمه، ما يتصل به من سائر العبارة. وإن لم يكن في الكلام ما يفسره لم يعوز أيضًا وجدان مفسره لكونه مما يعرفه خاصة الجمهور أو كثير منهم. والإتيان بما يعرف أحسن.
1 / 8
١٧- إضاءة: وليس الأمر في ما ذكرته كالأمر في المسائل العلمية. فإن أكثر الجمهور لا يمكن تعريفهم إياها، مع أن أحدهم إذا أمكن تعريفه إياها لم يجد لها في نفسه ما يجد للمعاني التي ذكرنا أنها العريقة في طريقة الشعر، لكون تلك المعاني المتعلقة بإدراك الذهن ليس الحسن والقبح والغرابة واضحا فيها وضوحه في ما يتعلق بالحس. وأيضا فإن المعاني التي تتعلق بإدراك الحس هي التي تدور عليها مقاصد الشعر، وتكون مذكورة فيه لأنفسها. والمعاني المتعلقة بإدراك الذهن ليس لمقاصد الشعر حولها مدار. وإنما تذكر بحسب التبعية للمتعلقة بإدراك الحسن لتجعل أمثلة لها، أو ينظر حكم في تلك بحكم في هذه، فيكون التمثيل والتنظير فيهما من قبيل تمثيل الأشهر بالأخفى وتنظير الأظهر بالأخفى. وهذه الحال في التمثيل والتنظير مناقضة للمقصود بهما، إذ المقصود بهما محاكاة الشيء بما النفوس له أشد انفعالا حيث يقصد بسطها نحو شيء أو قبضها عنه. وأيضا فإن المسائل العلمية يستبرد إيرادها في الشعر أكثر الناس ولا يستطيب وقوعها فيه إلا من صار من شدة ولوعه بعلم ما، بحيث يتشوف إلى ذكر مسائل ذلك العلم، ويجب إجراءها ولو في المواطن التي لا تليق بها ولا تقبلها البتة لكون التفرع الكلي للراحة والأنس والتفرج أو ضد ذلك قد حجر ذكرها. وأكثر الناس يستبردون ذكر الشيء من ذلك، حيث لا يليق، استبرادهم قول القائل: "والله إن كانت إلا أثيابا في أسيفاط قبضها عشاروك" في المواطن الذي قالها.
١٨- تنوير: وإنما يورد المعاني العلمية في كلامه من يريد التمويه بأنه شاعر عالم. وقد بينا أنه فعل نقيض ما يجب في الشعر. فلم يثبت له أنه قال شعرا إلا عند من لا علم له. وأما العلم فلا يثبت أيضًا للشاعر بأن يودع شعره معاني منه. فليس يبعد على الناظم إذا كان قد تصور مسائل من علم وإن قلت أن يعلقها ببعض معاني شعره ويناسب بينها وبين بعض مقاصد نظمه.
١٩- إضاءة: ومن كان مقصده أيضًا أن يظهر أنه مقتدر على المناسبة بين المتباعدين وأن يغطي بحسن تأليفه ووضعه على ما بينهما من التباين بعض التغطية، فإنه يكد خاطره في ما لا تظهر فيه صناعته ظهورها في غيره، ولا يتوصل بعد ذلك إلى الغرض المقصود بالشعر من تحريك النفوس. فأولى بمن هذه صفته أن يجعل موضوع صنعته ما يتضح فيه حسن صنعته ويكون له تأثير في النفوس وتحريك لها وحسن موقع منها من أن يجعل موضوع صنعته ما لا يدل، مع كونه لا يحرك الجمهور ولا يتضح فيه إبداع الصنعة، دلالة قاطعة. فقد يمكن أن يتدرب إنسان في المناسبة بين بعض الأغراض المقولة في الشعر وبين بعض المعاني العلمية. وتحصل له بمزاولة ذلك والحنكة فيه دربة لا تكون له في تأليف معاني الشعر المحضة والمناسبة بين بعضها وبعض. وقد يمكن أيضًا أن يقع ذلك له اتفاقا في بعض المواضع من غير أن يكون له تلك قوة مستمرة في غير ذلك من شعره. فقد بان أن مستعمل هذه المعاني العلمية في شعره يسيء الاختيار، مستهلك لصنعته، مصرف فكره في ما غيره أولى به وأجدى عليه. والولع بنظم هذه المسائل العلمية في الشعر (..........................................) (.........) التي يتصور بها الغرض في تلك المعاني الخارجة عن الذهن على أكمل ما ينبغي وأشده مناسبة للنفس.
فهذه لمحة إجمالية ترشد إلى جهات اقتباس المعاني، وإلى الأنحاء التي تستحسن في تأليفها واقترانها والنقلة من بعضها إلى بعض. ومنع من تفصيل ذلك الاضطرار معه إلى الإطالة الكثيرة. فليتول الناظر تفصيل ذلك بنفسه، فإنه مفيد في هذه الصناعة. وبالله الاستعانة على كل محاولة، وبه التوفيق.
د- معرف دال على طرق المعرفة بكيفيات تركيب المعاني وتضاعفها
إن المعاني قد تكون مفردة الأجزاء ومتضاعفتها، وقد يكون بعض أجزائها مفردا وبعضها مضاعفا. وذلك بحسب تعدد الأفعال الواقعة في المواطن التي يعبر عما وقع فيها أو اتحادها، وبحسب تعدد ما تستند إليه تلك الأفعال أو اتحاده، وبحسب تعدد ما تتوجه لطلبه من المفعولات أو اتحاده.
وما يتركب من جهة التعدد والاتحاد في جميع ذلك، واقتران كل واحد من الأفعال وما تستند غليه، وما تطلبه بالآخر على حال موافقة له في التعدد والاتحاد أو مخالفة، تنقسم ثمانية أقسام: ١- متحد الفاعل، متحد المفعول، متعدد الفعل
1 / 9
٢- أو متعدد الفاعل والمفعول، متحد الفعل ٣- أو متحد الفعل والفاعل، متعدد المفعول ٤- أو متحد الفعل، متعدد الفاعل والمفعول ٥- أو متحد المفعول، متحد الفعل، متعدد الفاعل ٦- أو متحد المفعول، متعدد الفاعل والفعل ٧- أو متحد الجميع ٨- أو متعدد الجميع.
ويحتاج الشاعر أن يكون متنبها لصور التقسيمات والتفصيلات والتقطيعات التي تتدرج في هذه الجملة، ويحسن صوغ الكلام عليها وتفصيله إليها، ومتهديا إلى المآخذ المستحسنة في جميع ذلك.
١- إضاءة: وهذه الأفعال المشترك فيها قد وضعها على أن يصل من الشيء إلى غيره مثل ما وصل إليه من غيره، وقد يتسلسل هذا. ولا ينبغي أن يتجاوز في ذلك المقدار الذي توجب مقاييس البلاغة الوقوف عنده. وقد تقدم ذلك في القسم الأول. ويكون التسلسل أيضًا في الأفعال المتعددة للمرفوعات المتعددة على هذا النحو. ولا تحسن الإطالة في ذلك. بل يجب أن يحتال في تفصيل الكلام إلى مقادير لا تسلسل فيها.
٢- تنوير: وقد يشترك الشيئان أيضًا في فعل ويكون كلاهما متوجها لفعل الآخر. وهذا إذا كان في قضية واحدة خففوا بعض ما يقع فيه من التكرار بالكناية والحذف. فإذا كان في قضايا كثيرة تضاعف المقدار الباقي من التكرار بعد الكناية والحذف، فلم يحسن ذلك، على أنه قد يقع فيعدل إذ ذاك عن العبارة التي وقع فيها التكرار -بكونها جملتين يلزم في إحداهما ذكر ما في الأخرى-إلى عبارة مفردة تفيد ما تفيده تلك. وهي صيغتا الفاعل ونحو تضارب وضارب. فحينئذ لا يثقل تضاعف المعاني التي بهذه الصفة.
٣- إضاءة: وقد يكون الكلام المؤتلف من معان كثيرة مما ذكر للأفعال فيه مفعولات، وقد يكون مما لا ذكر فيه لذلك، وقد يكون مؤتلفا من النوعين.
فأما ما تعددت فيه الأفعال ومرفوعاتها ومنصوباتها وتباينت فيحتاج إلى أن يناسب بين المعاني الواقعة بهذه الصفة في وضع عباراتها وتفصيلها إلى مقادير وصور تكون متلائمة الوضع متناسبة التفصيل ليقع في الكلام بذلك خفة وتناسب.
٤- تنوير: فأما ما تلازمت فيه المعاني وارتبطت فطالت فلا يحسن تضاعفها إلا بعد اقتضاب العبارات وتصييرها إلى صيغ مختصرة. وكلما اختلفت جهات الصيغ، في ما لم يذهب به مذهب مناظرة أو تقسيم أو ما ناسب ذلك، كان أحسن.
٥- إضاءة: وتحسن للكلام، أيضًا بحسب نسب بعض المعاني الواقعة فيه من بعض، من جهة مواقعها في زمان أو مكان ووضع بعضها في ذلك من بعض، ومن جهة التقاذف بالعبارات إلى تلك الأنحاء، صور أخر ربما وجد مثلها في ما تقدم وربما لم يوجد، لأن الشيء يقع مع الشيء في زمان أو مكان أو يقع بناحية منه وفي زمان غير زمانه متقدم عليه أو متأخر عنه. وقد تكتنف الشيء أشياء من جميع نواحيه. وكذلك تقع مكتنفاته في الزمان سابقة له وتالية. تترتب في القرب والبعد، في الزمان والمكان من أقرب ما يمكن إلى أقصى ما يمكن. وقد يقع الشيء في جميع نواحي الشيء في مرار عدة، أو بأن يكون شيئا يعم جهاته وكذلك في الزمان. ويتركب من هذه الأحوال شتى صور من الكلام. وتكون المعاني الواقعة بهذه الاعتبارات بحسب ما قدمته من تعدد الأفعال وتعدد مرفوعاتها ومنصوباتها أو اتحاد جميع ذلك أو اتحاد بعض من ذلك وتعدد بعض. فتتضاعف صور المعاني بذلك تضاعفا يعز إحصاؤه. والتركيبات التي بها هيآت العبارات وما تحتها من المعاني من جهة مواقع بعض المعاني من بعض في الأزمنة والأمكنة على ما تقدم راجعة إلى المعاني التي تقدم التعريف بأنها تقع تحديدات في الأزمنة والأمكنة. وكثيرا ما يتأتى في هذه التركيبات تقسيم الكلام وتفصيله على مقادير متعادلة متناسبة.
1 / 10
٦- تنوير: وتتضاعف صور العبارات بما يوقع في معانيها من تحديدات ترجع إلى ما تكون عليه في نفوسها، من كونها عامة أو خاصة، كلية أو جزئية. وتتضاعف أيضًا بحسب الأحكام الواقعة في المعاني بعد تحديداتها، من نفي وإثبات ومساواة أو ترجيح أو غير ذلك، ومن جهة كيفيات المخاطبات في المعاني وكون ذلك يكون تأدية أو اقتضاء ونحو ذلك. وكل واحد من هذه له صيغ شتى يعبر بها عنه، فمع أن المعاني تتضاعف صورها بحسب ما تقدم فإن هذه الأشياء أيضًا مما تتضاعف بها الصيغ والعبارات عن تلك المعاني فيؤدي تنوع صور المعاني والعبارات- بجميع ذلك وبما قد ذكر أيضًا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب مما تتكاثر به صور المعاني- إلى وقوع المعاني على هيآت وصور يعز حصرها ولا يتأتى استقصاؤها لكثرتها. وإنما يعرف صحتها من خللها أو حسنها من قبحها بالقوانين الكلية التي تنسحب أحكامها على صنف صنف منها، ومن ضروب بيانها. ويعلم من تلك الجمل كيفية التفصيل. ولا بد مع ذلك من الذوق الصحيح والفكر المائز بين ما يناسب وما لا يناسب وما يصح وما لا يصح بالاستناد إلى تلك القوانين على كل جهة من جهات الاعتبار في ضروب التناسب وغير ذلك مما يقصد تحسين الكلام به.
٧- إضاءة: وللأفكار تفاوت في تصرفها في ضروب المعاني وضروب تركيبها من جميع هذه الجهات التي ذكرت. ويتقوى على ذلك بالطبع الفائق والفكر النافذ الرائق، وبالمعرفة بجميع ما يحتاج إلى معرفته في هذه الصناعة من حفظ الكلام والقوانين البلاغية التي تضمن هذا الكتاب جملة كبيرة منها.
٨- تنوير: وصور المعاني ضربان: صور متكررة وصور غير متكررة. والتكرار لا يجب أن يقع في المعاني إلا بمراعاة اختلاف ما في الحيزين اللذين وقع فيهما التكرار من الكلام. فلا يخلو أن يكون ذلك إما لمخالفة في الوضع: بأن يقدم في أحد الحيزين ما أخر في الآخر، أو بأن تختلف جهات التعلق في الحيزين، أو بأن يفهم المعنى أولا من جهة من جهات الإبهام ثم يورد مفسرا من الجهة التي وقع فيها الإبهام، أو بأن يجمل ثم يفصل -وهذا يجتمع مع ما قبله من جهة ويفارقه من جهة- أو بأن يفصل ثم يجمل الضرب من المقاصد، أو بأن يورد على صورة من الجمع والتفريق كما يقال: أنت وزيد بحران لكن أنت للعذوبة وذلك للزعوفة أو بأن تبان الجهتان اللتان توافى بهما الضدان على الشيء كقوله: (الطويل -ق- المتدارك) يخشى ويتقى يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق فعلى هذه الأنحاء وما ناسبها يقع التكرار في المعاني فيستحسن. وكثيرا ما تقع التفصيلات والتفسيرات والتقسيمات في المعاني التي تكون من هذا القبيل.
٩- إضاءة: فمن أحكم التصرف في هذا الضرب من المعاني المتكرر والضرب الآخر، وتصرف فيهما من جهات أنواع التركيبات التي أشرنا إليها في ما تقدم من هذا المعرف، كان كلامه ممتعا من كل فن من فنون البلاغة، وكان حسن الموقع من النفوس.
ومن كان له ذهن يتمكن به -له أن يفصل ما أجملت في هذا الباب ويفرع ما أصلت- انتفع بهذا الباب نفعا كثيرا في هذه الصناعة، إذ لم يمكنا نحن أن نتفرع إلى تفريع ذلك وتفصيله وتمثيله. فإن ذلك محوج إلى إطالة كثيرة. وإنما نتحرى أن نعل بين الأبواب أو نقارب العدل في ما نذكره، ليكون كل باب قد تضمن قسطا مقنعا مما يجب. فأما ما وراء الإقناع. فلا يمكن استقصاء ذلك في باب، فإن ذلك يضاعف حجم الكتاب، ويؤدي إلى إقطاع هذه الصناعة من عناية النفس فوق ما يجب لها إذ قدر العناية بالشيء إنما يجب أن يكون بإزاء قدر المستفاد منه، وفائدة هذه الصناعة بحسب ما سحب عليها الزمان من أذيال الإذالة وألحفها من معرة الخمول قليلة نزرة، بل غنما غاية محكمها إذاية أهل الفدامة له ممن يظن أن له قدما في الفصاحة، وهو منها بمنزلة الحضيض من السماك. فلذلك كان خليقا أن تكون العناية بهذه الصناعة غير بالغة أو تصرف عنها العناية بالجملة. ولا توفيق إلا بالله.
هـ- معلم دال على طرق العلم باستثارة المعاني من مكامنها واستنباطها من معادنها
1 / 11
لما كانت الموصوفات والأوصاف وجهات انتساب بعضها إلى بعض وجهات تعلق الأغراض بها من ذوي الأغراض لا تحصى كثرة وجب أن تكون المعاني التي هي مركبة من تلك الأوصاف على حسب الأغراض أجدر بأن لا يستطاع إحصاؤها، ولكن يمكن أن ينبه على الطرق التي بها تتطرق الخواطر إليها وتتهدى منها إلى تأليفها.
فأقول: إن الأصل الذي به يتوصل إلى استثارة المعاني واستنباط تركيباتها هو التملؤ من العلم بأوصاف الأشياء وما يتعلق بها من أوصاف غيرها، والتنبه للهيئات التي يكون عليها التآم تلك الأوصاف وموصوفاتها ونسب بعضها إلى بعض أحسن موقعا من النفوس، والتفطن إلى ما يليق بها من ذلك بحسب موضع موضع وغرض غرض.
١- إضاءة: ولاقتباس المعاني واستثارتها طريقان: أحدهما تقتبس منه لمجرد الخيال وبحث الفكر، والثاني تقتبس منه بسبب زائد على الخيال والفكر.
فالأول يكون بالقوة الشاعرة بأنحاء اقتباس المعاني وملاحظة الوجوه التي منها تلتئم، ويحصل لها ذلك بقوة التخيل والملاحظة لنسب بعض الأشياء من بعض ولما يمتاز به بعضها من بعض ويشارك به بعضها بعضا. ولكون خيالات ما في الحس منتظمة في الفكر على حسب ما هي عليه، لا يتباين فيه ما تشابه في الحس ولا يتشابه فيه ما تباين في الحس. فإذا كانت صور الأشياء قد ارتسمت في الخيال على حسب ما وقعت عليه في الوجود وكانت للنفس قوة على معرفة ما تماثل منها وما تناسب وما تخالف وما تضاد، وبالجملة ما انتسب منها إلى الآخر نسبة ذاتية أو عرضية ثابتة أو منتقلة أمكنها أن تركب من انتساب بعضها إلى بعض تركيبات على حد القضايا الواقعة في الوجود التي تقدم بها الحس والمشاهدة، وبالجملة الإدراك من أي طريق كان أو التي لم تقع لكن النفس تتصور وقوعها لكون انتساب بعض أجزاء المعنى المؤلف على هذا الحد إلى بعض مقبولا في العقل ممكنا عنده وجوده، وأن تنشئ على ذلك صورا شتى من ضروب المعاني في ضروب الأغراض.
٢- تنوير: والطريق الثاني الذي اقتباس المعاني منه بسبب زائد على الخيال هو ما استند فيه بحث الفكر إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو تاريخ أو حديث أو مثل. فيبحث الخاطر فيما يستند إليه من ذلك على الظفر بما يسوغ له معه إيراد ذلك الكلام أو بعضه بنوع من التصرف والتغيير أو التضمين فيحيل على ذلك أو يضمنه أو يدمج الإشارة إليه أو يورد معناه في عبارة أخرى على جهة قلب أو نقل إلى مكان أحق به من المكان الذي هو فيه، أو ليزيد فيه فائدة فيتممه أو يتمم به أو يحسن العبارة خاصة أو يصير المنثور منظوما أو المنظوم منثورا خاصة. فأما من لا يقصد في ذلك إلا الارتفاق بالمعنى خاصة، من غير تأثير من هذه التأثيرات، فإنه البكي الطبع في هذه الصناعة الحقيق بالإقلاع عنها وإراحة خاطره مما لا يجدي عليه غير المذمة والتعب.
٣- إضاءة: وبحثه في ما استند إليه من تاريخ، على أن يناسب بين بعض مقاصد كلامه ويينه، فيحاكيه به أو يحيل به عليه أو يستشهد في ذلك على الحديث بالقديم، ويتصرف فيه بالجملة نحوا من التصاريف التي قدمنا ذكرها.
٤- تنوير: وبحثه فيما استند إليه من حكمة أو مثل على أن يردف معاني كلامه بها مضمنا لها بالجملة أو مشيرا إليها على جهة استدلال أو تعليل أو نحو ذلك. وقد يتصرف المثل بإبرازه في عبارة جديدة لا تشبه عبارته الأولى. وقد تختصر العبارات عن الأمثال فيورد منها في البيت الواحد المثلان والثلاثة. وقد يتمثل بالمثل على غير ما تمثل به الأول. فربما حسن موقعه من الكلام الثاني أكثر من حسنه في الكلام الأول. فإن كان موقعه في الكلام الأول أحسن عد مورده في الكلام الثاني مسيئا مقصرا. وقد يتصرف في الأمثال والتواريخ والمنظوم والنثور أنحاء من التصرف غير هذه. وإنما ذكرت من ذلك ما تيسر.
ومعرف دال على طرق المعرفة بما توجد المعاني معه حاضرة منتظمة في الذهن على ما يجب أن يكون من بعض عائد إلى بعض، وما به يكون كمال التصرف فيها وفي سائر أركان هذه الصناعة على المذهب المختار.
لما كان الشعر لا يتأتى نظمه على أكمل ما يمكن فيه إلا بحصول ثلاثة أشياء، وهي: المهيئات والأدوات والبواعث، وكانت هذه المهيئات تحصل من جهتين: ١- النشء في بقعة معتدلة الهواء، حسنة الوضع، طيبة المطاعم، أنيقة المناظر، ممتعة من كل ما للأغراض الإنسانية به علقه.
1 / 12
٢- والترعرع بين الفصحاء الألسنة المستعملين للأناشيد المقيمين للأوزان.
وكان المهيء الأول موجها طبع الناشئ إلى الكمال في صحة اعتبار الكلام محسن الروية في تفصيله وتقديره ومطابقة ما خارج الذهن به إيقاع كل جزء منه في كل نحو ينحى به أحسن مواقعه وأعدلها حتى يكون حسن نشء الكلام مشبها حسن نشء المتكلم به. وقد تكون النشأة حسنة على غير هذا النحو. وذلك بأن تستجد الأهوية للناشئ وترتاد له مواقع المزن ومواضع الكلإ والنبات الغض، ولا يخيم به في الموضع إلا ريثما يصوح كلأه ويغيض ماؤه، فإن الطباع الناشئة أيضًا على هذه الحال، وإن لم تكن في الأقاليم المعتدلة، جارية مجرى تلك في سداد الخاطر والتنبه لما يحسن هيآته اللفظية والمعنوي' إلى ما تهدوا. ولو اتفق النشء على هذه الحال من استجداد الأهوية وارتياد الأماكن أزمنة شبابها لأمة تكون أرضهم التي يترددون فيها أحسن الأرض بقعة وأمتعها وأعد لها هواء وكانت دواعيهم تتوفر على جعل الكلام عدة لما يراد من استثارة الأفعال الجمهورية أو كفكفتها بالإقناعات والتخييل المستعملة فيه نحو توفر دواعي العرب إلى ذلك لكانت هذه الأمة أجدر أمة أن تحوز قصبات السبق في الفصاحة وأن تستولي على الأمر الأقصى في ذلك. وأفصح قبائل العرب من شارف هذه الحال التي وصفنا أو قاربها.
والمهيئ الثاني موجه إياه لحفظ الكلام الفصيح وتحصيل المواد اللفظية والمعرفة بإقامة الأوزان.
وكانت الأدوات تنقسم إلى العلوم المتعلقة بالألفاظ والعلوم المتعلقة بالمعاني.
وكانت البواعث تنقسم إلى أطراب وإلى آمال. وكان كثير من الأطراب إنما يعتري أهل الرحل بالحنين إلى ما عهدوه ومن فارقوه، والآمال إنما تعلق بخدام الدول النافعة وجب ألا تكمل تلك المهيآت للشاعر إلا بطيب البقعة وفصاحة الأمة وكرم الدول ومعاهدة التنقل والرحلة. فقلما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة، ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة، ولا في جودة النظم من لم يحمله على مصابرة الخواطر في إعمال الروية الثقة بما يرجوه من تلقاء الدولة، ولا في رقة أسلوب النسيب من لم تشط به عن أحبابه رحلة ولا شاهد موقف فرقة.
١- إضاءة: ولما كان القول في الشعر لا يخلو من أن يكون وصفا أو تشبيها أو حكمة أو تاريخا احتاج الشاعر أن تكون له معرفة بنعوت الأشياء التي من شأن الشعر أن يتعرض لوصفها، ولمعرفة مجاري أمور الدنيا وأنحاء تصرف الأزمنة والأحوال، وأن تكون له قوة ملاحظة لما يناسب الأشياء والقضايا الواقعة من أشياء أخر تشبهها، وقضايا متقدمة تشبه التي في الحال.
٢- تنوير: ولا يكمل لشاعر قول على الوجه المختار إلا بأن تكون له قوة حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة.
فأما القوة الحافظة فهي أن تكون خيالات الفكر منتظمة، ممتازا بعضها عن بعض، محفوظا كلها في نصابه. فإذا أراد مثلا أن يقول غرضا ما في نسيب أو مديح أو غير ذلك وجد خياله اللائق به قد أهبته له القوة الحافظة بكون صور الأشياء مترتبة فيها على حد ما وقعت عليه في الوجود، فإذا أجال خاطره في تصورها فكأنه اجتلى حقائقها. وكثير من خواطر الشعراء تكون معتكرة الخيالات، غير منتظمة التصور، فإذا أجال خاطره في أوصاف الأشياء وخيالاتها اشتبهت عليه واختلطت وأخذ منها غير ما يليق بمقصده وبالموضع الذي يحتاج فيه إلى ذلك.
وكان المنتظم الخيالات كالناظم الذي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة محفوظة المواضع عنده. فإذا أراد أي حجر شاء على أي مقدار شاء عمد إلى الموضع الذي يعلم أنه فيه فأخذه منه ونظمه. وكذلك من كانت خيالاته وتصوراته منتظمة متميزة فإنه يقصد بملاحظة الخاطر منها إلى ما شاء فلا يعدوه.
والمعتكر الخيالات كناظم تكون جواهره مختلطة، فإذا أراد حجرا على صفة ما تعب فيه تفتيشه، وربما لم يقع على البغية، فنظم في الموضع غير ما يليق به. والمعتكر الخيالات في هذه الحال أجدر بطول السدر لكون الأشياء التي في الحس أوضح من التي في التصور والذهن.
٣- إضاءة: والقوة المائزة هي التي بها يميز الإنسان ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض مما لا يلائم ذلك، وما يصح مما لا يصح.
1 / 13
والقوى الصانعة هي القوى التي تتولى العمل في ضم بعض أجزاء الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية إلى بعض والتدرج من بعضها إلى بعض، وبالجملة التي تتولى جميع ما تلتئم به كليات هذه الصناعة.
وهذه القوى التي هي الحافظة والمميزة والملاحظة والصانعة وما جرى مجراها، في احتياج الشاعر أن تكون موجودة في طبعه على ما سنفصله في القسم الثالث إن شاء الله، هي المعبر عنها بالطبع الجيد في هذه الصناعة
ز- معلم دال على طرق العلم بالمناسبة بين بعض المعاني وبعض والمقارنة بين ما تناظر منها.
إن المعاني منها ما يتطالب بحسب الإسناد خاصة، ومنها ما يتطالب بحسب الإسناد وبحسب انتساب بعض المعاني إلى بعض في أنفسها بكونها أمثالا أو أشباها أو أضدادا أو متقاربات من الأمثال أو الأضداد.
فالنسب الإسنادية تلاحظ الأفكار فيها أربعة أشياء وهي: البيان والمبالغة والمناسبة والمشاكلة التي يكون سببها من الخفاء بحيث قد يتعذر عرفان كنهه.
١- إضاءة: فأما ما التطالب فيه بحسب انتساب بعض المعاني إلى بعض فلا تخلو النسبة فيه من أن تقع بين المعنيين بواسطة أو بغير واسطة، فأما ما وقعت فيه بغير واسطة فيمكن حصر أنواعه وصوره، وأما ما يقع فيه النسب بواسطة فعزيز حصرها فيه لكون كل معنى يمكن أن يكون جهة للتطالب بين معنيين بتوسطه، وجهة التطالب هي النسبة. ولقوى النفوس تفاضل في ملاحظة الجهة النبيهة في نسبة معنى إلى معنى والتنبه إليها، ومبحثها في ذلك علة الجهات التي تفيد معاني كالتشبيهات والتتميمات والمبالغات والتعليلات وغير ذلك من ضروب الوجوه التي تكسب الكلام حسنا وإبداعا.
٢- تنوير: واعلم أن النسب الفائقة إذا وقعت بين هذه المعاني المتطالبة بأنفسها على الصور المختارة التي تقدم ذكرها في القسم الأول في الكلام على ما تناظر من الكلم من حيث إن المعاني متناظرة كان ذلك من أحسن ما يقع في الشعر. فإن للنفوس في تقارن المتماثلات وتشافعها والمتشابهات والمتضادات وما جرى مجراها تحريكا وإيلاعا بالانفعال إلى مقتضى الكلام لأن تناصر الحسن في المستحسنين المتماثلين والمتشابهين أمكن من النفس موقعا من سنوح ذلك لها في شيء واحد. وكذلك حال القبح. وما كان أمللك للنفس وأمكن منها فهو أشد تحريكا لها. وكذلك أيضًا مثول الحسن إزاء القبيح أو القبيح إزاء الحسن مما يزيد غبطة بالواحد وتخليا عن الآخر لتبين حال بالمثول إزاء ضده. فلذلك كان موقع المعاني المتقابلات من النفس عجيبا.
٣- إضاءة: وإذا كان في كل صورة من هذه المتقابلات زيادة معنى على التقابل المفرد زادت الصيغة حسنا كالقلب الذي يعرض في المتماثلات وذلك كقول بعضهم: (البسيط -ق- المتراكب)
فليعجب الناس مني أن لي بدنا ... لا روح فيه ولي روح بلا بدن
وكإيراد المتشابهات بلفظ التماثل، كقول حبيب: (الخفيف -ق- المترادف)
دمن طالما التقت أدمع ألمز ... ن عليها، وأدمع العشاق
٤- تنوير: واعلم أن التماثل والتشابه والتخالف قد يقع في أشياء كثيرة الوجود، وقد لا تقع هذه النسب إلا في أشياء قليلة، وقد لا توجد واقعة في أكثر من شيئين. فربما وجد متماثلان لا يوجد لهما مماثل ثالث بالجملة، أو بالنسبة على مثل حالهما في الوجود. وكذلك قد يوجد المتشابهان والمتخالفان على مثل هذه الحال.
٥- إضاءة: وكلما كانت المتماثلات أو المتشابهات أو المتخالفات قليلا وجودها وأمكن استيعابها مع ذلك أو استيعاب أشرفها وأشدها تقدما في الغرض الذي ذكرت من أجله كانت النفوس بذلك أشد إعجابا وأكثر له تحركا. فإن كانت الأمثال أو الأشباه عتيدة الوجود لم يحسن الاستيعاب، ووجب التخطي فيها من الأشرف إلى الأشرف، وكان جديرا ألا يناسب منها إلا بين ذوات الشهرة والمناسبة لغرض الكلام. ولا تجد النفس للمناسبة بين ما كثر وجوده ما تجد لما قل، من الهزة وحسن الموقع، لكونها لا تستغرب جلب العتيد استغرابها لجلب ما عز.
1 / 14
٦- تنوير: وإذا كان معنى التماثل أو التشابه منتسبا إلى شيئين أو أشياء مشتركة فيه كان الوجه ألا يعاد ذلك المعنى مع كل واحد من الشيئين أو الأشياء مشتركة فيه كان الوجه ألا يعاد ذلك المعنى مع كل واحد من الشيئين أو الأشياء، وأن يكتفى بذكره مرة مع أحد تلك الأشياء على نحو من العبارة يعنى بها فيه عن التكرار إيثارا للاختصار، فيقدم محل التماثل متناسقة، وتقديمه أحسن. ويتفق على هذا الوجه أن يكون الكلام مع كونه من هذا الباب معدودا في التقسيم كقول التهامي: (الطويل -ق- المتدارك)
أبان لنا من دره يوم ودعا ... عقودا وألفاظا وثغرا وأدمعا
فاكتفى بذكر الدر مرة، وأورد الأشياء المنتسبة إليه إيرادا تقسيميا. وقد يتفق أن ينضاف فيه إلى التقسيم التفسير. كقول الشاعر: (البسيط -ق- المتراكب)
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى، وأبو سحق، والقمر
وقد يعد من هذا النحو قول البحتري: (البسيط -ق- المترادف)
في حلتي حبر وروض فالتقى ... وشيان: وشي ربى ووشي برود.
وقد يسوغ إجراء الشيئين مجرى الأشياء في الاكتفاء بذكر محل التماثل والتشبه مرة وإجراء الأشياء مجرى الشيئين في إعادة محل التماثل مع كل واحد منهما.
٧- إضاءة: وأما المتخالفات والمتضادات فقد تكون الصيغ أيضًا فيها تقسيمية وتفسيرية. واستقصاء الكلام في ما أشرنا إليه بهذا المعلم يخرج عن غرض الاختصار والاقتصاد. وأنما أوردت ما أوردت من الكلام فيه كاللمحة الدالة، ومن فهم أصول هذا الباب سهل عليه تتبع فروعه اعتبار مواقع النسب فيها، وهو باب شريف.
ح- مأم من مذاهب البلاغة المستشرفة بهذا المعلم وما تقدم في المعلم المفتتح به هذا المنهج الذي فيه القول، وهو المذهب الذي تقصد فيه المطابقة.
وذلك بأن يوضع أحد المعنيين المتضادين أو المتخالفين من الآخر وضعا متلائما. وقدامة يخالف في هذه التسمية. فيجعل المطابقة تماثل المادة في لفظين متغايري المعنى، ويسمي تضاد المعنيين تكافؤا. ولا تشاح في الاصطلاح.
ولفظ المطابقة مشتق إما من قولك: هذا لهذا طبق أي مقدار لا يزيد عليه ولا ينقص، وإذا كان حقيقة الطباق مقابلة الشيء بما هو على قدره ومن وفقه سمي المتضادان إذا تقابلا ولاءم أحدهما في الوضع الآخر متطابقين. قال الخليل: "يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعتهما على حد واحد وألصقتهما." وإما من قولك: طابق الفرس إذا وقعت رجلاه في موضع يديه. قال الجعدي: (المتقارب -ق- المتواتر)
وخيل يطابقن بالدار عين ... طباق الكلاب، يطأن الهراسا
١- إضاءة: والمطابقة تنقسم إلى محضة وغير محضة.
فالمحضة مفاجأة اللفظ بما يضاده من جهة المعنى كقول جرير: (الكامل -ق- المتدارك)
وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شر عنكم بشماليا
فقوله باسط وقابض وخير وشر من المطابقات المحضة. ومن ذلك قول دعبل: (الكامل -ق- المتراكب)
لا تعجبني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
وغير المحضة تنقسم إلى مقابلة الشيء بما يتنزل منه منزلة الضد وإلى مقابلة الشيء بما يخالفه.
فأما ما تنزل منزلة الضد فمثل قول الشريف: (الرجز -ق- المترادف)
أبكي ويبسم والدجى ما بيننا ... حتى أضاء بثغره، ودموعي
فتنزل التبسم منزلة الضحك في المطابقة.
وأما المخالف فهو مقارنة الشيء بما يقرب من مضاده كقول عمرو ابن كلثوم: (الوافر -ق- المترادف)
بأنا نورد الرايات بيضا ... ونصدرهن حمرا قد روينا
ومن أبدع ما ضوغفت فيه المطابقة وجاءت العبارة الدالة عليها في أحسن ترتيب وأبدع تركيب قو أبي الطيب المتنبي: (البسيط -ق- المترادف)
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وقد اجتمع في هذا البيت صنفا المطابقة: المحضة وغير المحضة.
٢- تنوير: وقد تكون المطابقة بالإيجاب والسلب كقول السموءل: (الطويل -ق- المترادف)
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول، حين نقول
وقول البحتري: (الطويل -ق- المتدارك)
تقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إلي الشوق، من حيث أعلم
وقد تقع المطابقة بغير اللفظ الصريح فيها، كقول بعضهم: (الطويل -ق- المتدارك)
1 / 15
فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم، مطلقا لم يكبل
وقد يوجد في الكلام ما صورته الطباق وليس بمطابقة من جهة المعنى كقول قيس بن الخطيم: (الطويل -ق- المتدارك)
وإني لأغني الناس عن متكلف ... يرى الناس ضلالا وليس بمهتدي
٣- إضاءة: ويجري مجرى المطابقة تخالف وضع الألفاظ لتخالف في وضع المعاني، ولنسبة بعضها من بعض، فيقع بذلك بين جزأين من أجزاء الكلام نسبتان متخالفتان، فيجرى ذلك مجرى المطابقة في الألفاظ المفردة كقول بعضهم: (الرمل -ق- المتدارك)
أنت للمال إذا أصلحته ... فإذا أنفقته فالمال لك
ومن هذا النحو قول بعضهم: "إن من خوفك حتى تلقى الأمن خير ممن أمنك حتى تلقى الخوف". ويسمى هذا النوع من الكلام التبديل.
وقد تكلم الناس في ضروب المطابقات وبسطوا القول فيها فلا معنى للإطالة إذ قصدنا أن نتخطى ظواهر هذه الصناعة وما فرغ الناس منه إلى ما وراء ذلك مما لم يفرغ منه.
ط- مأم من المذاهب المستشرفة بالمعلم المتقدم أيضًا وهو مذهب المقابلة
وإنما تكون المقابلة في الكلام بالتوفيق بين المعاني التي يطابق بعضها بعضا والجمع بين المعنيين اللذين تكون بينهما نسبة تقتضي لأحدهما أن يذكر مع الآخر من جهة ما بينهما من تباين أو تقارب، على صفة من الوضع تلائم بها عبارة أحد المعنيين عبارة الآخر كما لاءم كلا المعنيين في ذلك صاحبه.
١- إضاءة: وأنواع المقابلات تتشعب. وقل من تجده يفطن لمواقع كثير منها في الكلام. كما أن كثيرا من الناس يعد من المقابلة ما ليس منها. وأكثر ما يشعر به منها مقابلة التضاد والتخالف، كقول الجعدي: (الطويل -ق- المتدارك)
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
٢- تنوير: فإذا وضع أحد المعنيين هذه الصفة بإزاء الآخر ومقابلا له كان الكلام بذلك بعضه بعضا، ومنتسبا أواخره إلى أوله. فكان للكلام بذلك حسن موقع من النفس.
٣- إضاءة: وليس يشترط تحاذي عبارتي المعنيين المتقابلين في طرفي الكلام في الرتبة. وإذا أمكن تقابلهما فهو أحسن. وأنشد قدامة في ما تحاذت فيه العبارة: (الطويل -ق- المتدارك)
فيا عجبا، كيف اتفقنا فناصح ... وفي، ومطوي على الغش غادر
فقابل النصح والوفاء بالغش والغدر.
وأنشد أيضًا فيما لم تتخاذ فيه عبارتا المعنيين المتقابلين: (الوافر -ق- المترادف)
أسرناهم وأنعمنا عليهم ... وسقينا دماءهم الترابا
فما صبروا لضرب عند حرب ... ولا أدوا لحسن يد ثوابا
فقابل ما في صدر البيت الأول بما في عجز الثاني، وما في عجز الأول بما في صدر الثاني.
وأنشد الخفاجي: (الطويل -ق- المتراداف)
جزى الله خيرا ذات بعل تصدقت ... على عزب حتى يكون له أهل
فإنا سنجزيها بحسن فعالها ... إذا ما تزوجنا وليس لها بعل
فجعل في مقابلة أن تكون المرأة ذات بعل وهو لا زوج له أن يكون هو ذا زوج وهي لا بعل لها، وحاجته وهو عزب بحاجتها وهي كذلك، وهذه مقابلة صحيحة.
٤- تنوير: ومن ضروب المقابلة أيضًا قول تأبط شرا: (الطويل -ق- المتدارك)
أهز بها في ندوة الحي عطفه ... كما هز عطفي بالهجان الأوارك
فقابل هز عطفه بالمنحة بهز عطف ممدوحه بالمدحة.
ومن المقابلة الصحيحة قول الفرزدق: (الطويل -ق- المتدارك)
وإنا لتمضي بالأكف رما حنا ... إذا أرعشت أيديكم بالمعالق
ومن صحيح المقابلة في النثر قول هند بنت النعمان: "شكرتك يد نالتها خصاصة بعد نعمة، ولا ملكتك يد نالت ثروة بعد فاقة". وكتب بعضهم: "ولو أن (الأقدار إذ) رمت بك من المراتب في أعلاها بلغت في أفعال السؤدد إلى (ما وازاها)، فوازيت بمساعيك مراقيك وعادلت النعمة عليك بالنعمة فيك، ولكنك قابلت سمو الدرجة بدنو الهمة ورفيع الرتبة بوضيع الشيمة، فعاد علوك بالاتفاق إلى حال دنوك بالاستحقاق وصار جناحك في الانهياض إلى ما عليه قدرك في الانخفاض. فلا لوم على القدر إذ أذنب فيك فأناب وغلط بك فعاد إلى الصواب".
وهذه مقابلات صحيحة كلها.
٥- إضاءة: ومن فساد المقابلة قول أبي عدى: (الخفيف -ق- المترادف)
يا ابن خير الأخيار من عبد شمس ... أنت زين الدنيا وغيث الجود
1 / 16
لأن غيث الجود ليس مقابلا لزين الدنيا من طريق المقابلة ولا التضاد.
ي- مأم من المذهب المستشرقة بالمعلم المتقدم أيضًا وهو التقسيم
والتقسيم ضروب. فمن ذلك تعديد أشياء ينقسم إليها شيء لا يمكن انقسامه إلى أكثر منها، ومنها تعديد أشياء تكون لازمة عن شيء على سبيل الاجتماع أو التعاقب، ومنها تعديد أشياء تتقاسمها أشياء لا يصلح أن ينسب منها شيء إلا إلى ما نسب غليه من الأشياء المتقاسمة، ومنها تعديد أجزاء من شيء تتقاسمها أشياء أو أجزاء من شيء وتكون الأجزاء المعدودة إما جملة أجزاء الشيء أو أشهر أجزائه وأليقها بغرض الكلام، ويكون كل جزء منها لا يصلح أن ينسب إلى غير ما نسب غليه بالنظر إلى صحة المعنى، ومنها تعديد أشياء محمودة أو مذمومة من شيء متفقة في الشهرة والتناسب.
١- إضاءة: فما ركب من هذا القسم الأخير وما قبله مما ليس انقسامه إلى ما قسم غليه ضروريا لا تمكن الزيادة عليه ولا النقص منه، فإنه يسمى تقسيما على التسامح، ويسمى أيضًا تقطيعا. وما ركب من القسام المتقدمة فإنه التقسيم الصحيح.
٢- تنوير: وينبغي أن يتحرز في القسمة من وقوع النقص فيها أو التداخل أو وقوع الأمرين فيها معا. فإن ذلك مما يعيب المعاني ويسلب بهجتها ويزيل طلاوتها. كما أن القسمة إذا تمت وسلمت من الخلل الداخل فيها من حيث ذكر وطابق حسن تركيب العبارة فيها حسن ترتيب المعاني كان الكلام بذلك أنيق الديباجة قسيم الرواء والهيئة.
واستقصاء الكلام في ما أشرت غليه من أنحاء القسمة وتفصيل القول في تمثيل ما رسمناه في ذلك محوج إلى إطالة تخرج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب. وقد تقدم التعريف بذلك، ولكني سألمع بأمثلة يسيرة من القسمة الصحيحة وما وقع فيه من ذلك عند التكلم في ما تكون عليه المعاني من كمال أو نقص. فليتصفح ذلك في المنهج الرابع، من هذا القسم، إن شاء الله تعالى.
يا- مأم من المذاهب المستشرقة بما تقدم أيضا، وهو مذهب التفسير.
والتفسير أيضًا أنواع. فمنه تفسير الإيضاح وهو إرداف معنى فيه إبهام ما بمعنى مماثل له غلا أنه أوضح منه. ومن ذلك قول أبي الطيب: (الطويل -ق- المتدارك)
ذكي تظنيه طليعة عينه ... يرى قلبه في يومه ما ترى غدا
ومنه تفسير التعليل نحو قول أبي الحسن مهيار ابن مرزويه: (الطويل -ق- المتدارك)
بكيت على الوادي فحرمت ماءه ... وكيف يحل الماء أكثره دم
ومنه تفسير السبب نحو قوله: (الطويل -ق- المتدارك)
يرجى ويتقى ... يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق
ومنه تفسير الغاية، ومنه تفسير التضمن نحو قول ابن الرومي: (الطويل -ق- المترادف)
خبره بالداء، واسأله بحيلته ... تخبر وتسأل أخا فهم وإفهام
ومنه تفسير الإجمال والتفصيل كقول بعضهم: (الطويل -ق- المترادف)
أذكى وأخمد للعداوة والقرى ... نارين: نار وغى، ونار زناد
١- إضاءة: ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى المفسر، أو أن تكون في ذلك زيادة لا تليق بالغرض، أو أن يكون في المفسر زيغ عن سنن المعنى المفسر وعدول عن طريقه حتى يكون غير مناسب له ولو من بعض أنحائه، بل يجهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء.
٢- تنوير: ومما جاء من التفسير غير وفق للمعنى المفسر قول بعضهم: (الطويل -ق- المتدارك)
فيا أيها الحيران في ظلم الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغي من العدا
تعال غليه تلق من نور وجهه ضياء، ومن كفيه بحرا من الندى
فمقابلة ما في عجز البيت الأول بما في عجز الثاني غير صحيحة. والتسامح في إيراد التفسير على مثل هذا مخل بوضع المعاني ومذهب لطلاوة الكلام، فينبغي أن يتحرز منه وألا يتسامح في مثله.
يب_ مأم من المذاهب المستشرقة بالمعلم المتقدم أيضًا وهو مذهب التفريع
وهو أن يصف الشاعر شيئا بوصف ما. ثم يلتفت على شيء آخر يوصف بصفة مماثلة، أو مشابهة، أو مخالفة لما وصف به الأول، فيستدرج من أحدهما إلى الآخر، ويستطرد به غليه على جهة تشبيه أو مفاضلة أو التفات أو غير ذلك مما يناسب به بين بعض المعاني وبعض، فيكون ذكر الثاني كالفرع عن ذكر الأول. ومن ذلك قول الكميت: (البسيط -ق- المتراكب)
1 / 17
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم يشفى بها الكلب
وقول ابن المعتز: (الكامل -ق- المتدارك)
وكأن حمرة لونها من خده ... وكأن طيب نسيمها من نشره
حتى إذا صب المزاج تبسمت ... عن ثغرها فحسبته من ثغره
ما زال ينجز لي مواعيد عينه ... فمه، وأحسب ريقه من خمره
وقول الصنوبري: (الكامل -ق- المتدارك)
ما أخطأت نوناته من صدغه ... شبها، ولا ألفاته من قده
فكأنما أنقاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من جلده
١- إضاءة: وكل معنى فرع عن معنى فقد يكون واقعا معه في حيز واحد، وقد يكون بينهما تباين في ذلك، وقد يكون المأخذ فيهما واحدا، وقد يكون متخالفا، وقد يكون أحدهما موجها من بعض جهات التوجيه نحو النسب الإسنادية على ما وجه غليه الآخر، وقد يكون أحدهما موجها إلى غير ما وجه إليه الآخر، ومن ذلك قول محمد بن وهيب: (الكامل -ق- المتراكب)
طللان طال عليهما الأمد ... درسا فلا علم ولا نضد
لبسا البلى، فكأنما وجدا ... بعد الأحبة مثل ما أجد
٢- تنوير: وينبغي أن يكون النقلة من أحد المعنيين على الآخر فيما قصد فيه التفريع متناسبة، وأن يكون المعنى الثاني مما يحسن اقترانه بالأول ويفيد الكلام حسن موقع من النفس. وما وقع من التفريع غير متناسب الوضع ولا متشاكل الاقتران لم يحس، وكان من قبيل التذييل والحشو الذي لا يحسن.
٣- إضاءة: ولا ينبغي أن يذهب بالمعاني مذهب التفريع في قصيدة بجملتها، ولا أن يتابع ذلك في جملة فصول من القصيد، بل يلمع بذلك في بيت أو فصل غير طويل. وإن وقع ذلك في فصول أو أبيات غير متصلة، بحيث تقع المراوحة بينه وبين غيره من الصناعات، لم يكن مكروها، إذ يتوخى في جميع ذلك تناسب الانتقالات وحسن الاقترانات. وكلما كان الكلام مقتصرا به على فن واحد من الإبداعات، وإن كان حسنا في نفسه، لم يحسن لأن ذلك مؤد على سآمة النفس، فإن شيمتها الضجر مما يتردد والولع بما يتجدد.
المنهج الثالث، في الإبانة عما به تتقوم صنعتا الشعر والخطابة من التخييل والإقناع، والتعريف بأنحاء النظر في كلتا الصنعتين، من جهة ما به تقومت، وما به تعتبر أحوال المعاني في جميع ذلك، من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.
أ؟- معلم دال على طرق العلم بما تتقوم به صناعة الشعر من التخييل، وما به تتقوم صناعة الخطابة من الإقناع، والرفق بين الصناعتين في ذلك.
لما كان كل كلام يحتمل الصدق والكذب غما أن يرد على جهة الإخبار والاقتصاص وإما أن يرد على جهة الاحتجاج والاستدلال، وكان اعتماد الصناعة الخطابية في أقاويلها على تقوية الظن لا على إيقاع اليقين -اللهم إلا أن يعدل الخطيب بأقاويله عن الإقناع إلى التصديق، فإن للخطيب أن يلم بذلك في الحال بين الأحوال من كلامه- واعتماد الصناعة الشعرية على تخييل الأشياء التي يعبر عنها بالأقاويل وبإقامة صورها في الذهن بحسن المحاكاة، وكان التخييل لا ينافي اليقين كما نافاه الظن، لأن الشيء قد يخيل على ما هو عليه وقد يخيل على غير ما هو عليه، وجب أن تكون الأقاويل الخطبية -اقتصادية كانت أو احتجاجية- غير صادقة ما لم يعدل بها عن الإقناع إلى التصديق، لأن ما يتقوم به وهو الظن مناف لليقين، وأن تكون الأقاويل الشعرية اقتصادية كانت أو استدلالية غير واقعة أبدا في طرف واحد من النقيضين اللذين هما الصدق والكذب، ولكن تقع صادقة وتارة كاذبة، إذ ما تتقوم به الصناعة الشعرية وهو التخييل غير مناقض لواحد من الطرفين. فلذلك كان الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة، وليس يعد شعرا من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيل.
1 / 18
١- إضاءة: ولما كانت الأقاويل الصادقة لا تقع في الخطابة بما هي خطابة إلا بأن يعدل بها عن طريقتها الأصلية وكان ما وقع منها في الشعر غير مقصود من حيث هو صدق كما لا تكون الأقاويل الكاذبة فيها مقصودة من حيث هي كذب بل من حيث هي أقاويل مخيلة رأيت ألا أشتغل بحصر الطرق التي بها يماز القول الصادق من غيره وتفصيل القول في ذلك، فإن ذلك مخرج على محض صناعة المنطق. وإن كنت قد أشرت إلى الأنحاء التي يتعرف منها ذلك إشارة إجمالية لأرشد الناظر في هذه الصناعة إلى جهات الفحص عن ذلك، وأدله على مظان التماسه، فإن الخطيب واجب عليه والشاعر متأكد في حقه أن يعرف الوجوه التي تصير بها الأقاويل الكاذبة موهمة أنها صدق.
٢- تنوير: وإنما يصير القول الكاذب مقنعا وموهما أنه حق بتمويهات واستدراجات ترجع إلى القول أو المقول له. وتلك التمويهات والاستدراجات قد توجد في كثير من الناس بالطبع والحنكة الحاصلة باعتياد المخاطبات التي يحتاج فيها إلى تقوية الظنون في شيء ما أنه على غير ما هو عليه بكثرة سماع المخاطبات في ذلك والتدرب في احتذائها.
٣- إضاءة: والتمويهات تكون في ما يرجع على الأقوال. والاستدرجات تكون بتهيؤ المتكلم بهيئة من يقبل قوله، أو باستمالته المخاطب واستلطافه له بتزكيته وتقريظه، أو باطبائه إياه لنفسه وإحراجه على خصمه حتى يصير بذلك كلامه مقبولا عند الحكم، وكلام خصمه غير مقبول.
٤- تنوير: والتمويهات تكون بطي محل الكذب من القياس عن السامع، أو باغتراره إياه ببناء القياس على مقدمات توهم أنها صادقة لاشتباهها بما يكون صدقا، أو بترتيبه على وضع يوهم أنه صحيح لاشتباهه بالصحيح، أو بوجود الأمرين معا في القياس أعني أن يقع فيه الخلل من جهتي المادة والترتيب معا، أو بإلهاء السامع عن تفقد موضع الكذب وإن كان إلى حيز الوضوح أقرب منه على حيز الخفاء بضروب من الإبداعات والتعجيبات تشغل النفس عن ملاحظة محل الكذب والخلل الواقع في القياس من جهة مادة أو من جهة ترتيب أو من جهة المادة والترتيب معا.
٥- إضاءة: فلما كان كثير من التمويهات التي تكون من غير جهة اشتغال النفوس بالتعجيبات والإبداعات البلاغية عن تفقد محل الكذب يقصدها كثير من الناس بطباعهم ويتهدون إليها بأفكارهم -وإن كان تحصيل القوانين في حصر طرق تلك التمويهات أنفع شيء للخطيب في التوصل إلى الملكة الخطابية- رأيت ألا أشتغل بحصر تلك الطرق عما هو أنسب إلى هذه الصناعة من ذلك عن إبانة وجوه النظر البلاغي في الأقاويل الخطابية والشعرية من جهة ما يخص كلتا الصناعتين ويعمهما، وأن نشير في ما أشرنا إليه من ذكر طرق التمويهات الخطابية على ما أصله أهل صناعة المنطق كابن سينا وغيره.
٦- تنوير: وليس ترد المقاييس في الأقاويل الشعرية والخطابية المقصود بها البلاغة إلا محذوفة إحدى المقدمتين أو النتيجة في الحمليات، ومحذوفة الاستثناءات والنتائج في الشرطيات المتصلات، لأن القياس كلام تلازمت فيه القضايا فصار مسئما بطوله مع ما يقع فيه من تكرار الأسوار والحد الأوسط وأجزاء النتيجة. وكذلك المقدمات والتوالي في الشرطيات المتصلات يقع فيهما وفيما يتصل بهما التكرار أيضًا بما يعاد من أجزائهما في الاستثناء والنتيجة. فلما كان القول القياسي قد لزمه الطول والتكرار لم يكن لهم بد، فيما قصدوا به البلاغة من كلامهم، من أن يعدلوا مقداره ويميطوا تكراره. فإن الكلام إذا خف واعتدل حسن موقعه من النفس، وإذا طال وثقل اشتدت كراهة النفس له.
٧- إضاءة: وليس يحمد في الكلام أيضًا أن يكون من الخفة بحيث يوجد فيه طيش، ولا من القصر بحيث يوجد فيه انبتار، لكن المحمود من ذلك ما له حظ من الرصانة لا تبلغ به إلى الاستثقال، وقسط من الكمال لا يبلغ به إلى الإسآم والإضجار. فإن الكلام المتقطع الأجزاء المنبتر التراكيب غير ملذوذ ولا مستحلى، وهو شبه الرشفات المتقطعة التي لا تروي غليلا. والكلام المتناهي في الطول يشبه استقصاء الجرع المؤدي إلى الغصص، فلا شفاء مع التقطيع المخل ولا راحة مع التطويل الممل، ولكن خير الأمور أوساطها.
1 / 19
٨- تنوير: ولا يحذف من المقاييس إلا ما يكون في قوة الكلام دليل عليه من مقدمة أو نتيجة أو قضية مستثناة. وهذا المحذوف قد يكون القصد به طي المقدمة التي يظهر فيها الكذب، وقد تكون مقدمات القياس كلها صادقة وتطوى إحداها لما ذكرته من قصد التخفيف خاصة.
٩- إضاءة: وقد يكون اقتضاء ما أبقي من القياس لما أميط عنه اقتضاء صحيحا. وقد يكون غير مقتض له في الحقيقة ويظهر في بادئ الرأي أنه مقتض له على الصحة. وأكثر ما يكون هذا في الاستثناءات الشرطية نحو قول امرئ القيس: (الطويل -ق- المتدارك)
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
ففي قوة هذا الكلام، على ما يترامى إليه غرض القول، أن يكون الاستثناء نقيض المقدم والنتيجة نقيض التالي، أي لكنك لم تسؤك مني خليقة فيوهم أنه منتج: فلا تسلي ثيابي من ثيابك. وهذا استثناء وإنتاج غير صحيحين، وإنما يستعمل هذا في الخطابة على جهة الإقناع. وإنما تصح نتيجة الشرطية المتصلة إذا استثني فيها عين المقدم فأنتج عين التالي، أو استثني نقيض التالي فأنتج نقيض المقدم. والمقدم هي القضية التي تلي حرف الشرط، والتالي هي القضية التي تكون جوابا للشرط.
١٠- تنوير: فإذا كان الاستثناء والإنتاج على هذا النحو الذي ذكرته آخرا وكانت القضايا صحيحة مسلمة كان القياس صحيحا وكان لزوم النتيجة لما تقدمها من أجزاء القياس واجبا، لأن القياس قول مؤلف من مقدمات وقضايا إذا كانت مسلمة ورتبت الترتيب الذي يجب في القياس الصحيح لزم عن ذلك القول المرتب لذاته قول آخر يسمى نتيجة.
١١- إضاءة: فما كان من الأقاويل القياسية مبنيا على تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو يعد قولا شعريا، سواء كانت مقدماته برهانية أو جدلية أو خطابية يقينية أو مشتهرة أو مظنونة. وما لم يقع فيه من ذلك بمحاكاة فلا يخلو من أن يكون مبنيا على الإقناع وغلبة الظن خاصة، أو يكون مبنيا على غير ذلك. فإن كان مبنيا على الإقناع خاصة كان أصيلا في الخطابة دخيلا في الشعر سائغا فيه. وما كان مبنيا على غير الإقناع مما ليس فيه محاكاة فإن وروده في الشعر والخطابة عبث وجهالة سواء كان ذلك صادقا أو مشتهرا أو واضح الكذب.
١٢- تنوير: وأكثر ما يستدل في الشعر بالتمثيل الخطابي. وهو الحكم على جزئي بحكم موجود في جزئي آخر يماثله، نحو قول حبيب: (البسيط -ق- المتراكب)
أخرجتموه بكره من سجيته ... والنار قد تنتضى من ناضر السلم
فالأقاويل التي بهذه الصفة خطابية بما يكون فيها من إقناع، شعرية بكونها متلبسة بالمحاكاة والخيالات.
١٣- إضاءة: والاستدلالات الواقعة في الشعر والأمثال المضروبة فيه إنما تجيء تابعة لبعض ما في الكلام، أو لما قد أشير إليه مما هو خارج عنه. فهي إما محاكاة لمتنوعاتها، أو تخييلات فيها أو من أجلها. فكثير من الأمثال أيضًا يكون قولا شعريا، ويكون منها ما هو قول حق، ومنها ما ليس بحق كما كان ذلك في المحاكاة والاستدلالات.
١٤- تنوير: وإنما اتسع في المحاكيات الشعرية، على هذه الأنحاء التي أشرت غليها وعلى ما نذكره بعد في أصناف المحاكيات وكيفيات التصرف فيها، في لسان العرب خاصة. فلذلك وجب أن توضع لها من القوانين أكثر مما وضعت الأوائل.
فإن الحكيم أرسطاطاليس، وإن كان اعتنى بالشعر بحسب مذاهب اليونانية فيه ونبه على عظيم منفعته وتكلم في قوانين عنه، فإن أشعار اليونانية إنما كانت أغراضًا محدودة في أوزان مخصوصة، ومدار جل أشعارهم على خرافات كانوا يضعونها يفرضون فيها وجود أشياء وصور لم تقع في الوجود، ويجعلون أحاديثها أمثالا وأمثلة لما وقع في الوجود. وكانت لهم أيضًا أمثال في أشياء موجودة نحوا من أمثال كليلة ودمنة ونحوا مما ذكره النابغة من حديث الحية وصاحبها. وكانت لهم طريقة أيضًا - وهي كثيرة في أشعارهم - يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه، وتنقل الدول وما تجرى عليه أحوال الناس وتؤول إليه.
فأما غير هذه الطرق، فلم يكن لهم فيها كبير تصرف، كتشبيه الأشياء بالأشياء، فإن شعر اليونانيين ليس فيه شيء منه، وإنما وقع في كلامهم التشبيه في الأفعال لا في ذوات الأفعال.
1 / 20