Minbar al-Jum'a Amana wa Mas'uliyya
منبر الجمعة أمانة ومسؤولية
Издатель
وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Место издания
المملكة العربية السعودية ١٤١٩ هـ
Жанры
[كلمة بين يدي البحث]
منبر الجمعة
أمانة ومسؤولية
Неизвестная страница
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة بين يدي البحث أحمد الله ﵎ حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحابته الطَّيبين، ومن اهتدى بهديهم وسار على نهجهم إِلى يوم الدين.
أما بعد:
فلما لمنبر الجمعة من أهمية عظمى في حياة كل مسلم، كانت الأعناق تشرئبُّ، والأنظار تتعلق، والأسماع تصغي لما يقوله الخطيب في كل جمعة، رجاءَ أن تحصِّل في تلك الفريضة زادًا إِيمانيا يجدِّد في نفوس أصحابها العزيمة على الرُّشد، والغنيمة من كل برّ، والسلامة من كل إِثم، وما يحقق لها الفوز بالجنَّة والنجاة من النار بإِذن الله ﷿. وتتأكد أهمية هذا
1 / 3
المنبر في أنه مقام شريف يبيِّن الخطيب من فوقه للناس الحلال والحرام، ويوضّح العبادات والأحكام. ومن هنا تعظم مسئوليته في إِجادة اختيار موضوع الخطبة، وإحسان إِعدادها وترتيب عناصرها، وجمال إِلقائها، ومعايشتها لمشكلات الساعة، إِلى جانب الهيئة الحسنة التي ينبغي للخطيب أن يظهر بها أمام الناس.
وممَّا يزيد من هيبة الوقوف على منبر الجمعة أنه يجتمع بين يدي الخطيب يوم الجمعة فئات من الناس متعددي الثقافات، ففيهم العالم، وطالب العلم، والتاجر، والطبيب، والمهندس وغيرهم ممَّن سينظر إِليه بمنظاره الخاص، ويزنه ويحكم له أو عليه.
ومن أجل ذلك فإِن الخطيب الموفَّق هو الذي يحسب لكل كلمة يتلفظ بها أو حركة يتحركها ألف حساب، فتجده دائم الحذر والمراقبة لكل ما سيصدر عنه. وفي كل مرَّة يحاول أن يتجنب الخطأ الذي بدر منه في خطبة سابقة، ويسعى إِلى الجديد والتنوع في طرائق خطبته،
1 / 4
وأساليب صياغتها وإِلقائها ممَّا يضاعف من مسئوليته في أداء هذه الرسالة السامية على الوجه الصحيح أمام الله ﷿ ثمَّ أمام إِخوانه المسلمين.
ومن كانت هذه أحواله فلا غرو أن يكون الشيب قد ملأ رأسه قبل أوانه ولعلَّنا نتذكَّر مقولة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ﵀ حينما سئل عن غلبة الشيب على رأسه قبل أوانه - وكان خطيبًا مفوَّها وعالما فقيها - فقيل له: " عجِلَ بك الشيب فقال: وكيف لا، وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة " (١) .
وبعد:
فإِنه ليسرني غاية السرور، ويثلج صدري أن أقدم للقارئ الكريم هذا البحث الموجز الذي ضمَّنته ملاحظاتي واقتراحاتي، وخلاصة خبرتي المتواضعة في
_________
(١) سير أعلام النبلاء، تصنيف الإِمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومأمون الصاغرجي، مؤًسسة الرسالة بيروت ط٢ سنة ١٤٠٢ هـ ج ٤ - ص ٢٤٨.
1 / 5
هذا الموضوع، ممَّا استنتجته من خلال وقوفي منذ بضع سنوات على منبر الخطابة في جامع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله بمدينة أبها.
وهذا جهد المقلّ فإِن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. وأسأل الله سبحانه السداد والإِخلاص في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[الفصل الأول من آداب الوقوف على المنبر]
الفصل الأول
من آداب الوقوف على المنبر إِن الغاية المثلى من الخطبة توجيه المستمعين وتذكيرهم بما يعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم، إِلى جانب التأثير في أرواحهم وامتلاك قلوبهم، وهذا يتطلب من الخطيب اتخاذ السبل القويمة في زرع الثقة بينه وبين مستمعيه، وتلك الثقة هي التي تولد محبتهم له واستجابتهم وتأثرهم بما يقول، لأن الواحد منهم ينتظر منه في كل جمعة أن يطرق موضوعا جديدا يعالج فيه مشكلة اجتماعية، أو ظاهرة تخالف تعاليم الإسلام، ثم يستوفي فيها ما تتطلبه من عرض موجز لمضمونها، وإيراد للأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة التي تنهى عن الوقوع فيها مع الحرص على إِجادة الأسلوب وسلامة الإِلقاء.
وحتى يحقق الخطيب ذلك لا بدَّ أن تتوافر فيه جملة من الآداب المرعية، والصفات الهامة، والمؤهِّلات المتعددة التي من أهمها:
1 / 6
أولًا: العلم وسعة الاطلاع ولمَّا كان الخطيب قد تصدَّر لتعليم الناس وإرشادهم إلى الخير ونهيهم عن الوقوع في الشرّ، لزم أن يتزوَّد بزاد وفير من العلم الشرعي الذي يمكنه من العرض، والاستدلال، والترجيح ويتمثل ذلك في حفظ القرآن الكريم وكثير من الأحاديث النبوية الصحيحة؛ إِلى جانب الإِلمام بالثقافة العامة التي تعينه على الاستشهاد بالأشعار والقصص والحكم والأمثال في مواطنها.
والخطيب الناجح هو الذي تكون جعبته العلمية مليئة زاخرة يتناول منها ما يريد، فلا يضعف موقفه، ولا يملّ سماعه. وأمَّا إِذا كان محدود العلم قليل الزاد أوقعه ذلك في مشكلات كثيرة عندما تنصب حصيلته أثناء إِلقائه لخطبته، ممّا يضطرّه إِلى التكرار، وإعادة المعاني والموضوعات أكثر من مرَّة، فيورث ذلك سآمةً في نفوس مستمعيه، وشرودا لأذهانهم، فيودّ حينئذ لو أنهى خطبته تخلصا من الحرج.
1 / 8
ثانيًا: الاستعداد الشخصي والموهبة إِن الخطابة تستمدّ معينها من الفطرة المركوزة في نفس الخطيب بعد توفيق الله ﷿. فمتى ما توفَّر الاستعداد الشخصي والموهبة الذاتية لدى الخطيب انثالت المعاني من ذهنه كالسيل الجرَّار، في أسلوب أخَّاذ لا تكلف فيه ولا تصنُّع. ولكنه يحتاج مع ذلك إلى الدربة والممارسة ليشحذ مقدرته الخطابية وينمِّيها ويقوّمها.
وبمقدار ما ترتكز الخطابة على الدربة فإنها ترتكز ابتداءً على الاستعداد الفطري عند الخطيب. فكم من إِنسان يشار إِليه بالبنان في سعة العلم والتضلع فيه، لكنّه إِذا وقف خطيبا كبا جواد لسانه، وتعثَّر وتلجلج وارْتُج عليه لأنه لا يملك الاستعداد الفطري الذي يؤهله للخطابة.
ثالثا: القدوة الحسنة في التعامل والسلوك إِن الناس لهم عقول يفكرون بها، ولهم أعين يبصرون بها، ولهم آذان يسمعون بها، ولهم ألسنة يتكلمون
1 / 9
بها، فإذا رأوا خطيب الجمعة يدعو إِلى خُلُق ولا يتمسك به، وينهى عن منكر ولا يكف عنه فإِن ثقتهم به تتلاشى، وحضورهم يقلّ، ولا يكون لكلامه - وإن كان خطيبا مفوَّها - وزن يذكر.
ولأجل ذلك فإِن من نصَّب نفسه مرشدا للناس إِلى الهدى، وداعيا لهم إِلى الخير يجب أن يكون قدوة حسنة في تصرفاته، حريصا على اتباع السنَّة، نزيها عن الوقوع في الشبهات والشهوات.
- فهو بمثابة الصفحة البيضاء التي لو تلطَّخت ببقعة سوداء لظلّ أثرها واضحا لكل أحد. وإذا وقع في معصية كانت المصيبة أعظم مَّما لو وقع فيها غيره من عامة الناس، فإِن أدنى هفوة تصدر عنه تسقط اعتباره، وتكثر الزراية عليه، ويصبح أضحوكة يتندَّر بها عباد الله.
- ولا شك أن هذا النوع من الخطباء أشدّ خطرا على الأمة من العدو اللَّدود لأنه يظهر للناس ما لا يبطن، وفيه وفي أمثاله يقول الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤]
1 / 10
وجاء في الحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «يُجَاء بالرجل يوم القيامة، فيُلْقى في النار، فتندلقُ أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان. ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» (١) .
وفي ذلك يقول الشاعر:
لا تنْهَ عن خُلُق وتأتيَ مثلَهُ ... عارٌ عليكَ إِذا فعلتَ عَظيْمُ
ابدأْ بنفسكَ فَانههَا عن غيِّها ... فإِذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ
_________
(١) رواه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق باب صفة النار وأنها مخلوقة رقم ٣٢٦٧، ورواه مسلم في كتاب الزهد باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله رقم ٢٩٨٩.
1 / 11
فهناك يُقْبَلُ إِن وعظتَ ويُقْتَدَىَ ... بالقول منك وينفعُ التعليم (١)
رابعا: المظهر الحسن لا شك أن لمظهر الخطيب وحسن هيئته أثرا كبيرا في ارتياح الناس وتقبلهم لما يقول، فينبغي عليه أن يأتي إِلى الخطبة مغتسلا متطيبا تفوح منه رائحة الطيب الزكيَّة، وأن يكون أنيقا في هندامه، خاليا من العيوب المنفّرة، فلا يكون رثَّ الثياب والهيئة، وهذا هو المظهر الغالب على كثير من خطباء الجمعة ولله الحمد، ولكن كم هو محزن أن نجد قلَّة منهم يخرجون على الناس
_________
(١) هذه الأبيات تنسب إِلى أبي الأسود الدؤلي وهو ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي الكناني من التابعين وكان معدودا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء. مات بالبصرة سنة تسع وستين هجرية. الأعلام لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت ط ٨ سنة ١٩٨٩م ج٣ ص٢٣٦، ٢٣٧، وأبو الأسود الدؤلي ونشأة النحو العربي، تأليف/ فتحي عبد الفتاح الدجني، نشر وكالة المطبوعات بالكويت، ط١ سنة ١٩٧٤م ص٢١٧.
1 / 12
بمظاهر مزرية، وهي وإن لم تكن خطيئة لكن مكانتهم في المجتمع وكونهم خطباء تفرض عليهم حسن المظهر والمخبر، كيف لا وهم الذين يعلمون الناس الخير، ويرشدونهم إِلى التمسك بالفضيلة، ويحذرونهم من الوقوع في الرذيلة، والله ﷿ قد أنعم عليهم بهذه النعمة العظيمة وهي إِمامة الناس، وجمعهم لهم في كل يوم جمعة ليستمعوا إِليهم ويشنّفوا آذانهم بما يقولونه من خطب.
وقد شرع الإِسلام لكل مسلم سواء كان خطيب جمعة أو غير ذلك أن يغتسل يوم الجمعة وأن يتطيب، والخطيب أولى الناس بذلك لأنه قدوة لهم في تتبع الأحكام الشرعية والعمل بها، والله تعالى يقول: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١] وقال النبي ﷺ: «ما على أَحدكم إِن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» (١) ولذا
_________
(١) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب اللبس للجمعة برقم ١٠٧٩ وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم ٩٥٤.
1 / 13
فإِن الخطيب الذي يخرج إِلى الناس على المنبر وهو قذر الثياب متغيّر الرائحة، يجعلهم ينفرون منه ويزهدون في سماع كلامه، ولا يقيمون له وزنا.
1 / 14
[الفصل الثاني وقفات سريعة حول خطبة الجمعة]
الفصل الثاني
وقفات سريعة حول خطبة الجمعة إِن خطبة الجمعة وسيلة هامَّة من وسائل الإِرشاد والتقويم والتذكير، حيث إِنها معنيَّة بمخاطبة مجموعة كبيرة من الناس في يوم مخصوص وساعة مخصوصة، وهم يتفاوتون في مستوياتهم الإِيمانية والعقلية والفكرية والثقافية والسلوكية، ويتباينون كذلك في الالتزام والتقوى والاستجابة والتأثر لما يقوله الخطيب، زد على ذلك تعدّد المشكلات وتنوع القضايا التي يطرقها الخطيب في كل جمعة، كما أن خطبة الجمعة فرصة ثمينة له تتكرر مرة كل أسبوع، للتأثير على ذلك العدد الضخم من الناس الذين يأتون راغبين غير مجبرين، ولكلِّ ذلك وجب على كل خطيب أن يجتهد في إِعداد خطبته وتنقيحها وتجويدها حتى تحقق أهدافها المرجوَّة، وممِّا يزيد في أهميتها أن النبي صلوات الله وسلامه عليه نهى عن اللغو والإِمام يخطب، وعد من اللغو قول: (انصت)، ففي الحديث المتفق عليه أن النبي ﷺ قال: «إِذا قلت
1 / 15
أنصت والإِمام يخطب فقد لغوت» (١) .
ومن أجل ذلك أقف هنا وقفات سريعة حول خطبة الجمعة وأهمية تجويدها وإيقانها قلبا وقالبا، شكلا ومضمونا فيما يأتي:
الوقفة الأولى: إعداد الخطبة إِن حسن إِعداد الخطبة، وترتيب أفكارها، ووحدة موضوعها ممَّا ينتج المعاني المتناسقة، والألفاظ المناسبة والسبك الرائع، والأداء القوي المشرق، فلا يستطيع الخطيب أن يلقي خطبته مكتملة العناصر، رائعة التعبير، إِلا بعد إِعداد سابق حيث يخلو الخطيب بمكتبته ومطالعاته فيختار منها ما يناسب موضوع الخطبة، ثم يرتّبه ويختار له العبارات المناسبة التي تمنح خطبته تأثيرا وجمالا.
وظاهرة الإِعداد ليست دليلا على ضعف الخطيب،
_________
(١) رواه أبو داود في سننه برقم ١١١٢ من كتاب الصلاة باب الكلام والإمام يخطب من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 16
وقلة زاده العلمي، بل هي إِشارة إلى مدى اهتمامه بموضوع خطبته وبالذين يؤمُّون مسجده ويستمعون إِليه وينتظرون منه الفائدة. إِذ لو أنه ارتجل خطبته ولم يعدّ أفكارها ومعانيها لجاءت عاجزة عن معالجة الموضوع الذي يتناوله بصورة محكمة، ولربما تلجلج لسانه، واختلطت في ذهنه المعاني، واضطربت على لسانه الألفاظ فيتلعثهم ويُرْتَج عليه ممَّا يؤدي إِلى انتزاع ثقة مستمعيه به، بخلاف الإِعداد والتهيؤ فإِن من ثمراته زرع الثقة به من الناس لأنهم يلمسون في كلامه آثار العناية والتجويد، والحرص على الإِفادة من خلال الأفكار الناضجة، والمعاني الخصبة المتناسقة والألفاظ المعبرة التي يسوقها إِليهم عبر خطبته.
الوقفة الثانية: وحدة موضوعها ووحدة موضوع الخطبة تُعدُّ ميزةً طيبة فيها إِذ تجعل الخطيب يركز ذهنه علىَ استجماع عناصر الموضوع الواحد دون التشتت في موضوعات مختلفة ممِّا يورث
1 / 17
الإِملال والسآمة لدى الناس ويجعلهم في حيرة من أمرهم، وقد تزدحم الموضوعات في هذه الحالة لكثرتها فلا يعلق بذهن المصلي شيء منها، أمَّا وحدة موضوع الخطبة فإِنه يفيد السامعين ويجعلهم يخرجون بفكرة متكاملة عن الموضوع المطروح. فكلما اتحد موضوع الخطبة كلَما عمَّت الفائدة واختصر الوقت؛ وكلما تفرق موضوعها وتشتت كلّما انعدمت الفائدة وطال الوقت على المصلين فأورثهم السآمة والملل.
الوقفة الثالثة: لغة الخطبة وأسلوبها إِن الأصل في لغة الخطبة أن تكون عربية فصيحة بعيدة عن العامية، ولكن بأسلوب سهل مفهوم، ليس فيه مفردات غريبة يعجز السامعون عن إِدراكها، وبمقدار ما تكون تركيبات الخطبة وألفاظها سهلة حسنة السبك، جاريةً على قواعد العربية، خالية من التعقيد وتنافر الكلمات، مؤتلفة مع الجو العام للخطبة، متناسبةً مع المعاني المقصودة، من حيث طولها وقصرها فإِن الخطبة تكون قوية التأثير
1 / 18
جميلة العرض، محمودة الذكر، وأوقع في نفوس السامعين.
ولا بدَّ من التنويع في أسلوب الخطبة، والتلوين في ضروب التعبير، والانتقال من الأمر إِلى الاستفهام إِلى النهي إِلى التعجب إِلى الإِخبار ونحو ذلك، " الأمر الذي يجعل الخطبة متجددة العرض، منبهةً للأذهان، مسيطرةً على الأسماع، آخذةً مؤثرةً في النفوس (١) .
أما إِذا التزم الخطيب ضربا واحدا من ضروب التعبير فسوف ينجم عن ذلك حلول الملل والسآمة في نفوس المتلقين، وضجر الأسماع وانصرافها عن متابعة الخطبة، وربما تسرب النعاس والنوم إِلى أجفان كثير من المستمعين.
الوقفة الرابعة: الحكمة والبعد عن التجريح وإثارة الفتنة يغلب على خطبة الجمعة دائما طابع إِثارة العواطف، وتحريك المشاعر نحو الخير والفضيلة، وربط المستمعين بالله ﷿ وابتغاء ما عنده من المثوبة في الآخرة،
_________
(١) " انظر خصائص الخطبة والخطيب تأليف نذير محمد مكتبي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط ١ سنة ١٤٠٩هـ - ١٩٨٩م، ص ٤٣.
1 / 19
وإنارة العقول في الأخذ بما أحل الله من متاع الدنيا وِالبعد عن المبالغة والإِسراف اتباعا لقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٢ - ٣٣]
وإذا تجرد الخطيب من الحماسة وبردت عاطفته، وفتر شعوره انعدم تأثيره على أسماع المصلين، واستثارة عواطفهم، ثم ينشأ من ذلك انعزالهم عنه وانصراف عقولهم.
وقد أُثر عن النبي ﷺ: «أنه كان إِذا خطب احمرَّتْ عيناه، وعلا صوته واشتدَّ غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومسَّاكم» (١) الحديث.
_________
(١) انظر الحديث بتمامه في صحيح مسلم رقم ٨٦٧ في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة.
1 / 20
لكن ينبغي أن يعلم أن حماسة الخطيب في خطبته يجب أن تكون منضبطة ومتزنة وملتزمة بالحكمة والتعقُّل والبعد عن إِثارة الفتنة أو التعرض لأناس بأعيانهم، والنيل منهم بطريقة نابية تشمئز منها النفوس وتنفر منها الطباع السليمة، والعقول السوَّية، كما يجب عدم التشهير بالعصاة من فوق أعواد المنبر، فإِن الولوغ في أعراض الناس ونهشها أمر قبيح لا يقرُّه من عنده أثارة من دين أو عقل أو أدب، بل إِن ذلك بعيد كُلَّ البعد عن هدي المصطفى ﷺ الذي لم يعرف عنه أنه شهَّر بأحد أو جرَّحه، وإنما يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا.
ففي التلميح ما يغني عن التصريح، وفي التعميم ما يغني عن التخصيص، والتجريحُ والتشهيرُ فوق المنبر سوءُ أدب مع المستمع وتوبيخ لصاحب المعصية ممَّا يؤدي به إِلى الإِعراض عن النصيحة والتمادي في الخطأ وفي ذلك يقول الإِمام الشافعي ﵀:
1 / 21
تعمَّدْني بنُصْحك في انفرادي ... وجَنِّبني النصيحة في الجماعةْ
فإن النُّصْح بَيْنَ الناس نوعٌ ... من التَّوبيخ لا أرضى اسْتَمَاعَهْ
وإِنْ خالفْتَنيِ وعَصَيْتَ قولي ... فلا تجزع إِذا لم تُعْطَ طَاعَهْ (١)
الوقفة الخامسة: الارتجال والخطبة من ورقة لا شك أن ارتجال الخطبة أوقع أثرا في نفوس السامعين ممَّا لو قرئت من كتاب أو ورقة. لكنَّ الحكم في هذه المسألة نسبي. فقد يرتجل خطيب خطبته دون إِعداد مسبق ولا اطّلاع كاف حول الموضوع المراد، فيقع في الارتباك والتخبط والحيرة، ويذهب بالناس إِلى مسالك متعددة من الكلام، ولا رابط بينها ولا ضابط فيملُّونه ويتضجرون من طريقته، لكن إِذا وجدت الجرأة الكافية
_________
(١) الشافعي شعره وأدبه، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم نصر، مطابع الإشعاع بالرياض غير موضح سنة الطبع ص ١١٦.
1 / 22