جمال الدين الأفغاني والعروة الوثقى
إن أحببنا أن نتخذ شعارا لجمال الدين الأفغاني، فخير ما نفعل هو أن نستعير الاسم الذي اختاره للجريدة المشهورة التي أصدرها هو والشيخ محمد عبده في باريس، الجريدة القصيرة العمر العظيمة التأثير: «العروة الوثقى» والعروة الوثقى أصدق تعبيرا عن أماني جمال الدين وأحلامه عن مساعيه وكفاحه من أي اسم من الأسماء التي اعتاد مؤرخوه إيرادها: الجامعة أو الوحدة أو ما إليها، العروة الوثقى أصح دلالة على قصده؛ لأنها لا تفيد نظاما بعينه، ولا تقيده بفكرة سياسية معينة، هي أصح دلالة؛ لأنها تدل على التضامن المتين الوثيق الذي يتنوع ويتطور وفق ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان، وهذا التضامن يكون بين أفراد الجماعة الواحدة، أفراد الشعب الواحد، وهو في هذه الحالة يؤثر العمل المشترك في دائرة القطر الواحد، كما كان الحال من سعيه في أفغانستان أو إيران أو مصر، ويكون التضامن ثالثا في مجال أعم يشمل الشعوب الإسلامية، ويكون التضامن رابعا في مجال أقرب للعالمية يشمل الشعوب الشرقية والآسيوية والإفريقية في كفاحها ضد النفوذ الأوربي؛ عدو الجميع.
أدرك جمال الدين من غائلة ذلك النفوذ الأوربي - وخصوصا النفوذ البريطاني - ما لم يدركه إذ ذاك أبناء الأقطار العربية في الغرب، وذلك لأنه شهد في الهند زوال الحكم الوطني، وبناء الإمبراطورية البريطانية الهندية - فقد كان في الهند في وقت الثورة الكبرى في سنة سبع وخمسين - كما أدرك جمال الدين مدى ابتعاد كل من الثقافتين الفارسية الهندية والعربية إحداهما عن الأخرى، كان يمثل ثمرة الثقافة الفارسية الهندية، وكانت رسالته نقل تراثها لأبناء الثقافة العربية في مصر، وجعل تلك الثمرات عاملا في نهضة تلك الثقافة في إحيائها في الارتفاع بها عن حضيض التقليد، في الاشتغال بالحقائق وترك الانهماك في الصيغ والألفاظ، تقول العروة الوثقى: «والعلماء لا تواصل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في غيبة عن حال العالم الحجازي فضلا عمن يبعد عنهم، وأليس بعجيب ألا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش، ولا لمراكش عند العثمانيين، أليس بغريب ألا تكون للدولة العثمانية صلات صميمة مع الأفغانيين وغيرهم من أهل الشرق ...»
وتقول العروة الوثقى في بيان ما كان للسلف: «ما كان يهزم لهم جيش، ولا ينكس لهم علم، ولا يرد قول على قائلهم، قلاعهم وصياصيهم متلاقية، ومنابتهم ومغارسهم في سهوبهم وأخيافهم رابية، مزدهية بأنواع النبات، حالية بأصناف الأشجار، ومدنهم كانت آهلة مؤسسة على أمتن قواعد العمران، تباهي مدن العالم بصنائع سكانها وبدائعهم، وتفاخرها بشموس الفضل، وبدور العلم، ونجوم الهداية من رجال لهم المكان الأعلى في العلوم والآداب، كان في نقطة الشرق من حكمائهم: ابن سينا والفارابي والرازي ومن يشاكلهم، وفي المغرب: ابن باجة وابن رشد وابن الطفيل ومماثلوهم، وما بين ذلك أمصار تتزاحم فيها أقدام العلماء في الحكمة والطب والهيئة والهندسة وسائر العلوم، هذا فضلا عن العلوم الشرعية.» وتقول العروة الوثقى: «ألم تر أن الله جعل اتفاق الرأي في المصلحة العامة والاتصال بصلة الألفة في المنافع الكلية سببا للقوة في هذه الحياة الدنيا، والتمكن من الوصول لخير الأبد في الآخرة، إن الله جعل الركون إلى من لا يصح الركون إليه، والثقة بمن لا تنبغي الثقة به سببا في اختلال الأمر وفساد الحالة، فمن وثق في عمله بمن ليس منه في شيء، ولا تجمعه به جامعة حقيقية، ولا تصله به رابطة صحيحة، وليس في طبعه ما يبعثه على رعاية مصلحته أو كتم سره، ولا ما يحمله على بذل الجهد في جلب منفعته ودفع المضار عنه، يفسد حاله ويسوء مآله .»
وكانت هذه الأقوال وما صحبها من أعمال ثمرة خبرات وتجارب، بدأت من أيام نشأته الأولى في أفغانستان، وما شهد فيه من فتن وحروب ونزاع على الملك، كان للإنجليز دخل فيه، وما رآه في الهند فيما سبق الثورة الكبرى، وفيما لحقها من المآسي، أدى الفريضة، وزار مصر زيارته الأولى القصيرة، ثم انتقل للقسطنطينية، وأحسن القوم استقباله، وعين عضوا في مجلس المعارف، إلا أنه حدث ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام حسن أفندي فهمي، وانتهز الشيخ فرصة أتاحتها له محاضرة ألقاها السيد جمال الدين بدار الفنون، فادعى أن السيد وصف النبوة بأنها صنعة، وأثار عليه العامة، ولم يسكت السيد، فصدر الأمر إليه بالسفر فهبط أرض مصر، وأجرت عليه الحكومة راتبا سنويا إكراما له لا في مقابل عمل، والأيام كانت أيام أزمات اقتصادية وفكرية وسياسية، أيام تصادم بين القديم والحديث، أيام دسائس سياسية وتدخل أجنبي، كل ذلك، كما قال الأستاذ مصطفى عبد الرازق تلميذ تلميذه الشيخ محمد عبده، هيأ الوسائل لمواهب رجل أوتي حظا عظيما من سمو النفس، ومتانة الخلق، وتوقد الذكاء، وقوة الذاكرة، ودقة الملاحظة، إلى علم غزير ونشاط لا يكل، وشجاعة لا تعرف الخوف، وبلاغة في الكتابة والخطابة خارقة للعادة مع نفوذ ساحر، وصمت مهيب جليل جذبت إليه قلوب أرباب المقامات العالية، وأهل العلم والأدب، والتف حوله أذكياء الطلاب، فكان يلقي عليهم دروسا في الأدب والمنطق والتوحيد والفلسفة وعلم التصوف وأصول الفقه والفلك، ويحمل تلاميذه على العمل في الكتابة، وإنشاء الفصول الأدبية والاجتماعية والسياسية، فاشتغلوا على نظره، وبرعوا بين يديه، وكانوا طليعة النهضة الأدبية في مصر، وكانوا مؤسسي بنيانها أين.
واتصل بالحركات السياسية، وأمرت الحكومة المصرية بإخراجه من مصر، فإن نشاطه أوغر عليه قنصل إنجلترا من جهة، كما هيج عليه من الجهة الأخرى الجامدين، وبعد إقامة في الهند سمح له بالانتقال إلى أوربا، وبدأت فترة الجهاد ضد الاستعمار فترة إصدار جريدة العروة الوثقى في باريس.
وانتقل الشيخ محمد عبده من منفاه في بيروت لمشاركة أستاذه في العمل فيها، والجريدة كانت ذات أثر في كل ما وجد من حركات وطنية، وحرية في بلاد المشرق.
وتنبه إلى خطرها أعداء الحرية والوطنية، فصادروها في مصر والهند، وهدد من توجد لديه بالعقاب، فلم ينشر منها في ثمانية أشهر إلا ثمانية عشر عددا، وخفت صوتها، وعاد محمد عبده إلى سورية، وبقي جمال الدين يواصل جهاده بالاتصال بالعلماء والكتاب ورجال السياسة.
وكتب عنه إذ ذاك تلميذه الكاتب المشهور أديب إسحاق (وهو أديب مسيحي، نفذت إلى قلبه دعوة جمال الدين الناس إلى حياة العزة والكرامة، كما نفذت إلى قلوب المسلمين).
قال أديب: عمره الآن خمس وأربعون سنة، تبحر في المعقول والمنقول، وبقي مجهول الشأن عند العامة حتى ظهرت آثاره وآثار مريديه في جريدة مصر.
Неизвестная страница