ولا عجب أن نجد بين قادة المذهب حكيما يعلم في أثينا، ولكنه ولد في قبرص، وينتسب فيما يقال إلى أصل فينيقي، أي أصل غير يوناني، وهو زينون مؤسس الرواق على المشهور، كما نجد أيضا بينهم عبدا أعرج هو أبيقستيتوس، وكما نجد أيضا شيشرون أخطب خطباء الجمهورية الرومانية، وكما نجد أخيرا القيصر الروماني مارك أرويل، حكيم معلم، ورجل جرى عليه الرق وعذبه مولاه، والخطيب العالي الصيت الذي شهد الفصول الأخيرة من الجمهورية، وقتله الذين قتلوها، والقيصر المطلق السلطان يعنو لسلطان الواجب، ويطيل النظر في طبيعة الإنسان والكون، ويتخذ من نظره هذا نبراسا يهتدي به في سلوكه، ولكنه لا يحاول أن يتخذ من ذلك مذهبا رسميا يفرضه على المتعلمين أو على أصحاب المناصب، على أن الرواقية اتخذت سبيلها إلى الفقهاء العاملين في الشرائع الرومانية، وعلى أساس نظريتها في القانون الطبيعي بنى الفقهاء الكثير من شروحهم وتأويلاتهم، فأكسبوا تلك الشرائع ما اشتهرت به من خصائص المعقولية، وكان هذا مما أعان على جعلها قابلة لأن تكون شرائع عالمية، لا تتأثر إلا بعض التأثر بظروف الزمان والمكان.
انتقل زينون - مؤسس المذهب - إلى أثينا قرب ختام القرن الرابع قبل الميلاد، وأخذ يعلم الفلسفة في طور جديد من أطوار التاريخ، لقد زالت المدينة العتيقة بمواطنيها وآلهتها وشرائعها الخاصة، يجد الفرد من أبنائها في المدينة وفي العشيرة كل ما يلزم حياته، وحل محل المدن دولة الإسكندر ثم العالم الإسكندري المتحد حضاريا، المنقسم سياسيا، ثم العالم الروماني في أيام الجمهورية وفي أيام القيصرية - وهذا كله لم يحقق السلم الذي خطر على عقل الإسكندر وعلى عقل الحكماء - فقد كان في الواقع يقوم في الكثير من حقيقته على الاستعباد وعلى الاستغلال، ولكنه في الوقت نفسه أوجد إطارا اتسع لتقارب الشعوب والعقول، ومهد لعواطف التراحم والتعاطف وللأخوة الإنسانية التي تسمو على كل شيء، وتبقى حسية على الرغم من كل شيء، فاستطاع مذهب كالرواقية أن يجد في ذلك العالم اليوناني الروماني الشرقي المجال لانتشاره، واستطاع دين كالنصرانية وكالإسلام فيما بعد أن يجد العقول والقلوب مهيأة لرسالة الوحدانية.
ولما زالت المدينة العتيقة بدا كما لو أن المواطن قد فقد الدليل المرشد، وفقد بفقدانه أنظمة المدينة وقوانينها، ولكن الغنم كان أكبر من الخسارة، فحلت فكرة الإنسان محل فكرة المواطن، وحل الالتجاء إلى الضمير تستمد منه الهداية محل قانون الجماعة، وحل قران الحياة بالطبيعة محل الفصل بينهما، بحيث أصبحت القوانين الطبيعية هي قوانين الحياة، وهي بذلك أساس جديد للأخلاق وللسلوك عند الرواقيين.
اطمأن الرواقيون اطمئنانا إلى حقيقة وجود الأشياء، بل والمعاني، وإلى أن الإدراك بالحواس خليق بأن يعتمد عليه، وقالوا بأن لا خير إلا ما هو خير وأن لا شر إلا ما هو شر، ومعنى هذا أن ما يهم حقا هو الإنسان وحده، وما التشاريف وما المال وما الصحة إلا إضافات تضاف إلى الإنسان، وتقديرها لا يتوقف عليه، بل على غيره، وقد يقال: ولكن الناس يطلبونها ويغالون في شأنها، ألا يدل ذلك على قيمتها؟ لا يدل على شيء، فإن حكم الإنسان عليها تثوب بتأثره بها كالقاضي بحكمه متأثرا برشوة أو ما ينيبه وإن شئت حكما عادلا، فارجع إلى التاريخ، هل سمعت عن رجل يطريه المؤرخون لأن عمره طال مثلا؟ لا: إن التاريخ يسجل بالحمد للرجال بطولتهم ومآثرهم، وتفاوت الناس في الدرجات أو الألقاب مثلا؟ أيسجل التاريخ مثلا بطولة القائد وحده فيهمل بطولة الجندي البسيط؟ لا، وقد يستطيع إنسان أن يؤذي إنسانا آخر، ولكن لا يستطيع أن يجعل منه رجلا خيرا أو رجلا شريرا، وكيف يكون الإنسان خيرا؟ يكون ذلك بأداء وظيفة الإنسان على وجهها الحق، ووجهها الحق هو نتيجة حركة الطبيعة نحو ما هو خير، وهي حركة تتجلى في نماء البذرة الدقيقة إلى شجرة باسقة، ونماء الجرو الأعمى إلى كلب الصيد، ونماء القبيلة الوحشية إلى الشعب المتحضر، فعالم الطبيعة إذن يدبره عقل شائع في كل جزئيات الكون، يسوده النظام والتعاطف.
لقد أخذوا على الرواقيين مآخذ، أخذوا على الأوائل منهم نوعا من التعالي على الناس؛ إذ كانوا يميزون بين الحكماء وغير الحكماء، وأخذوا عليهم قدرا من الغلو في الترفع عن المشاعر والعواطف الإنسانية العامة، من ذلك ما زعموه من أن الذي يهم وحده في العمل هو الاجتهاد في أدائه لا نتيجته، مثال ذلك: أنك إذا أضنيت نفسك في مكافحة وباء اكتسح قرينك فليس المهم نجاحك أو إخفاقك، إنما المهم ما بذلت في تلك المكافحة، وإذا ما ألم بصديق لك علة فأنت تعطف عليه أو تبذل له العون، والمهم هو بذل العطف والعون، وقد شبه أحد النقاد الرواقيين في هذا بالرسول يحمل هدية لرجل لا يعرف عنوانه على وجه التحديد، ويبحث الرسول عن المهدى إليه ويجهد نفسه، ولكنه لا يستطيع أن يهتدي إليه، فيعود بالهدية لصاحبها غير مكترث بالنتيجة بعد أن أدى واجبه تماما، وفي هذا التشبيه شيء من القسوة، وإنا لو ذهبنا إلى أقوال أكثر قادتهم لوجدنا فيها بساطة نبيلة: جاء في تأملات مارك أوريل، ولنذكر أنه سطر أغلبها في خيمته في ميادين القتال، فقد قضى العشرين عاما التي جلس فيها على عرش القيصرية محاربا لحشود القبائل المتبربرة، ولنذكر أيضا أن ساعات العمل كانت في أكثر أيامه لا تنقص عن ست عشرة ساعة، نقرأ منها: «من الناس من إذا أسدى آخر إليه يدا يسجل عليه هذا، ومنهم من إذا أسدى إليه يدا لا يسجلها ولكنه لا ينساها، ومنهم ثالث يسدي إليه دون أن يلحظ أنه يفعل شيئا، هو كالكرم تثمر قطف العنب دون أن تعرف أنها تفعل ذلك، وهي على استعداد دائما لأن تثمر من جديد.»
الحسن البصري وأهل السنة والجماعة
أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، نحفظ عنه عظات بليغة مثل: بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا، ومثل: أمتكم آخر الأمم، وأنتم آخر أمتكم، ولقد رأيت أقواما كانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم الله عليكم منها، ومثل: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت، أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي، فقال له: ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها، فإن أنفذتها وافقت سخط الله، وإن لم أنفذها خشيت على دمي؟ فقال له الحسن: هذا عندك الشعبي فقيه أهل الحجاز، فسأله، فرقق له الشعبي، وقال له: قارب وسدد، فإنما أنت عبد مأمور، ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن، وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: يا بن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، يا بن هبيرة، إن الله مانعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، يا بن هبيرة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله فأنفذه، وما خالف كتاب الله فلا تنفذه، فإن الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه.
فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن، وقال: هذا الشيخ صدقني ورب الكعبة، وأمر للحسن بأربعة آلاف درهم، وأمر للشعبي بألفين، فقال الشعبي: رققنا له فرقق لنا، فأما الحسن فأرسل إلى المساكين، فلما اجتمعوا فرقها، وأما الشعبي فإنه قبلها وشكر عليها. له من هذا وأمثاله الكثير، ولكن ليس هذا كل ما هنالك، فإن أكثر المبادئ التي حركت الرجال والجماعات في تاريخ الأمة تتصل بعصر الحسن البصري، وبالحسن البصري في عصره، وأهم من هذا الاتصال أن الحسن البصري وقف من هذه المبادئ التي فرقت الناس موقف من استطاع أن يجمع أكثر هذه الأمة على موقف وسط، هو أصل ما نعرفه في التاريخ باسم موقف أهل السنة والجماعة.
ولم يكن التوسط عند الحسن يفيد التلفيق أو الأخذ من كل شيء بطرف، لا، لم يكن الأمر كذلك، بل كان التوسط عنده يرجع إلى أن يرتفع الحكم على الأحداث وعلى الرجال عما هو زائل من الأغراض متفقا مع أثر الطبقة الأولى من السلف، مبتعدا عن عوامل الفرقة.
فرفع الحسن بذلك كله للحق راية، قد يكثر الرافعون لها وقد يقلون، ولكنها تظل أبدا مرفوعة حتى لو حال حائل - أحيانا - دون أن يراها جيل من الأجيال.
Неизвестная страница