والغاية من هذه الأحكام: حفظ الدين وسياسة الدنيا، فيتعين على صاحب السلطان أن ينشئ الوظائف اللازمة لبلوغ هذه الغاية، أو المؤدية - كما نقول في اصطلاح عصرنا الحاضر - للخدمات المختلفة الضرورية والكمالية لحياة المجتمع المدني، وهذه الوظائف كانوا في الماضي يعبرون عنها بالخطط، وسأقتصر في الحديث على الخطط المتعلقة بالقضاء والمظالم، الحسبة، محاولين إظهار ما بينها من فروق، ومختتمين الحديث ببيان وجوه القوة والضعف في النظام في جملته.
هذا، ومما هو جدير بالملاحظة أن «الحسبة» بالذات نالت من انتباه الناظرين في التاريخ العربي حظا كبيرا، كما لو كانت أهم الخطط، أو أن متوليها - المحتسب - أهم من في المدينة، وأدى هذا إلى اهتمام المشتغلين بذلك التاريخ بالبحث عن الكتب التي وضعت في مختلف العصور؛ لتمكين المحتسبين من حسن القيام بما ندبوا من أجله. (ومن هذه ما نشره الدكتور العريني، من أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة، باسم «نهاية الرتبة في طلب الحسبة».)
ولا جدال في أن كتب الحسبة هذه تستحق كل عناية؛ وفي كونها من خير ما يصور لنا الحياة اليومية - إن صح التعبير - في المدن العربية، إلا أنها تقل أهمية في نظر الراغب في فهم الأوضاع والأحكام في تلك المدن عن المراجع الفقهية؛ فلم اجتذب إذن المحتسب - لا القاضي - نظر الجمهور؟ بالضبط لأن عمل المحتسب كان مع الجمهور، وعلى مرأى ومسمع من الجمهور، فالحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وينبغي على كل إنسان أن يتطوع لهذا ولذاك كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن بين المتطوع والمحتسب فرقا؛ فالأمر بالمعروف متعين على المحتسب بحكم ولايته الحسبة، لا يجوز له أن يتشاغل عنه، وعليه أن يجيب من استعداه.
وليس ذلك على المتطوع، وله أن يبحث وأن يفحص وأن يتخذ أعوانا وأن يرتزق على حسبته، وأن يعزر في المنكرات الظاهرة، وله أن يجتهد برأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع.
وقد شرح الماوردي في الأحكام السلطانية أن الدعاوى التي ترفع إلى المحتسب تتعلق ببخس وتطفيف في كيل أو وزن، أو بغش وتدليس في مبيع أو ثمن، أو بمطل الدين لمستحقه مع المكنة.
وبالجملة فمهمته إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، قيل: والأمر بالمعروف في حقوق الآدميين ضربان: عام وخاص؛ فأما العام فكالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو كأن يطرقه بنو السبيل من ذي الحاجات، ومهمته - المحتسب - في هذه وغيرها أن يحمل الناس على المصالح العامة في المدينة؛ مثل المنع، ومن المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة.
وأما الخاص، فالحقوق إذا مطلت، والنهي عن المنكر يتناول المحظورات والمعاملات المنكرة، ومما يؤخذ ولاة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف؛ منهم من يراعي عمله في الوفور والتقصير، ومنهم من يراعي حاله في الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعي الجودة والرداءة، فأما من يراعي عمله في الوفور والتقصير فكالطبيب والمعلم؛ لأن للطبيب إقداما على النفوس يقضي التقصير فيه إلى تلف أو سقم.
وللمعلمين من الطرائق التي ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنها بعد الكبر عسيرا، فيقر منهم من توفر علمه وحسنت طريقته، ويمنع من قصر وأساء من التصدي لما تفسد به النفوس، وتخبث به الآداب.
وأما من يراعي حاله في الأمانة والخيانة فمثل الصياغة والحياكة والقصابين والصباغين؛ لأنهم ربما هربوا بأموال الناس، فيراعي أهل الثقة والأمانة منهم فيقربهم، ويبعد من ظهرت خيانته ويشهر أمره؛ لئلا يغتر به من لا يعرفه.
وأما من يراعي عمله في الجودة والرداءة، فلولاة الحسبة أن ينكروا عليهم في العموم فساد العمل ورداءته، وإن لم يستعدهم أحد من الناس في ذلك، كما أن لهم هذا الإنكار في عمل مخصوص اعتاد الصانع فيه الفساد والتدليس، فإذا استعداه رجل وتعلق بدعواه عزم، وافتقر العزم إلى تقدير أو تقويم لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه لافتقاره إلى اجتهاد حكمه، وكان القاضي بالنظر فيه أحق، أما إذا لم يفتقر العزم إلى تقدير أو تقويم واستحق فيه المثل الذي لا اجتهاد فيه ولا تنازع، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم، ولتأديب الصانع على فعله؛ لأنه أخذ بالتناصف وزجر عن التعدي.
Неизвестная страница