Сквозь монокль: Легкомысленные критические картинки из нашей общественной жизни
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Жанры
وما إن انتهى التمثيل حتى رأينا الفارس يثب إلى ذلك البائع، وكان طبيعيا أن يجد فيه حليفا يستعينه على الأفندي وتحمس البائع، فأطلق في الأفندي لسانه بالشتم المقذع، ولكن الناس رأوا اثنين من الشرطة يشدان الوثاق على البائع، ويوسعانه ضربا وتبين للناس أن هذا الأفندي المتجبر الباطش من ذوي الجاه والسلطان الذين يجب على الجمهور الإذعان لهم طوعا أو كرها، فقد كان حضرته «كونستبل» البندر، وما أدراك ما كونسابل البندر، وإن كان في غير لباسه الرسمي.
على أن الفارس لم يحجم، وهل كان لمثله أن يحجم؟! فتقدم من الكونستبل وسط الزحمة يسمعه كلمات القانون والحرية الشخصية والمساواة بين الأفراد، ويسأله ألم يكفه ما كان من استهتاره بالآداب العامة، وما خلق مثله إلا لحماية الآداب؟ ولم يفرغ من هذا حتى كان «الكونستبل» قد أشار إلى الجنديين إشارة خفية، فانهالت لكماتهما على رأس الفارس في غير توان أو توقف، وقد أمسكا بخناقه في غلظة وقسوة على ضآلة جرمه ونحافة جسمه، وإن كان لقوي الروح، لا يطيش في الملمات صوابه وشققت في جهد طريقي إلى الشرطيين، وكانا قد أبصراني نهارا في زيارة رئيسهما الضابط في غرفته، فصرخت فيهما مهوشا عليهما أعلمهما أن هذا الفارس يشغل وظيفة لها خطرها في الحكومة، فأجفلا وتركاه وإنه ليلهث إذ يخاطبني: أترى جرحا في عيني؟ إني أحس مثل لهب النار فيها، انظر هذه أخلاق البوليس عندنا، لولا خوفي على الفوتغرافية أن تضيع في الزحام لعلمت هذين السافلين ومن أمرهما كيف يحترمون القانون؛ وأخرج الفارس منديله ووضعه على عينه وهو يكتم ما يحس من ألم شديد؛ ثم دس الفارس منديله في جيبه وأخرج دفتره وقلمه، فكتب وكان ينظر إلى ساعته في ظهر يده، ولعله كان يثبت اللحظة التي وقع له فيها هذا الحادث الخطير.
وصحبنا الفارس إلى مقر الشرطة، وجاء «الكونستبل» يعتذر إليه اعتذارا فيه كل معاني الذلة والمسكنة، وقد انخلع عنه جاهه أمام رئيسه، وعجبنا أن نرى الفارس وقد أبت عليه أريحيته إلا أن يغفر «للكونستبل» اعتداءه على الرغم مما كان يقاسيه في عينه من ألم، وعلى الرغم مما أصابه على أعين الناس، ففعل ما تقضي به الفروسية، وتنازل عن شكواه، وهل كان وهو فارس يستطيع أن يفعل غير ذلك؟ وتشفع الفارس الهمام للبائع فأطلق سراحه وكان الشرطة قد أدخلوه «الحجز»؛ ليكيلوا له الضرب كيلا في ظلمة الليل، وخرج المسكين ورجال الشرطة يمنون عليه بأنهم أطلقوه، ولقد ناله في الطريق وفي المسرح من الصفع واللكم والوكز ما لو نزل على ثور لهده.
ومضى الفارس إلى داره ومنديله على عينه وفوتغرافيته تحت إبطه، ودفتره المزدحم بالملاحظات والمخاطرات في جيبه، وإنه لفرح بما أحرز طول يومه من انتصار، فخور بما قاوم من منكر، رضي النفس بما قدم بين يديه من اعتذار.
شاعر عبقري
رأيت هذا العبقري، أستغفر الله، بل حظيت بشرف لقائه والاستمتاع مرة بسماع بعض درره الغوالي، وليس بالأمر الهين لقاء مثل هذا الشاعر في زمن قل فيه العباقرة، وحط فيه من قدر الشعر، حتى اعتبره بعض الناس شيئا لا غناء فيه ولا متعة من ورائه؛ وذهبوا في ذلك إلى أنه لن تمضي سنوات معدودات، ثم لا يتصل الشعر بحياة هذا الزمن بسبب من الأسباب ...
ولئن سعد جدك فمثلت ساعة كما مثلت بين يدي هذا الشاعر، لوقعت منه على شاب تتوزع الظنون فيه عقلك وخيالك، فإن كنت ممن يجهلون سمات العبقرية، ظللت في حيرتك ودهشتك بل لقد يذهب بك جهلك إلى أن تعزو ما يبدو لك منه إلى الحماقة والبله، فتلحد بذلك في الفن من حيث لا تدري، إلحادا شديدا.
والحق أني حرت في أمره برهة حين رأيته ... فهو يطيل النظر في وجوه جلسائه في صمت عميق، فيحسبونه معهم وما هو معهم ... ثم هو يرفع عينيه في بطء إلى السقف، ويظل كذلك برهة غير قصيرة كمن أخذته عن نفسه حال من غم أو ذهول، على أني لم ألبث أن رددت أمره إلى ما علمت عن العباقرة، فهم كثيرا ما يذهلون عن أنفسهم بما تعرج فيه أرواحهم من معارج علوية، وكيف يكون عبقريا ولا تسبح روحه وتعرج إلى السموات كما تسبح أرواح العباقرة وتعرج؟
ورأيت الشاعر قد أطال شعر رأسه، ثم تركه دون ترتيب، حتى تهدل على فوديه، فغطت خصلات منه أذنيه، وتدلت خصلات فوق عنقه؛ بنيما تراكم بعضه على بعض، حتى كان منه ما يشبه الأكمة فوق جبينه ... وهو لا يحرص على شيء من مظهره حرصه على أن يكون شعره هكذا كشعر أقرانه من كبار الفلاسفة ونوابغ أصحاب الفنون دليلا فوق رءوسهم لا يكذب على النبوغ، وبرهانا لا يخطئ على الفن. وتكلم الشاعر الشاب في نبرات الشيوخ ولهجتهم، فأخذ يشكو من قلة فهم أهل زمانه لشعره وعدم تفطنهم إلى فنه، ولكنه ما لبث أن أشرقت أسارير وجهه حينما ذكر بعض من يفهمونه وقولهم إنه جاء قبل أوانه، وإنه لا بد أن تعرف قيمة فنه يوم تنجاب عن العقول حجب الغفلة ... أولم يشك المتنبي بأنه كان في أمته غريبا كصالح في ثمود؟ ... ولكم سر الشاعر بهذه المقارنة البارعة بينه وبين عبقري آخر كالمتنبي على شاكلته.
وأفاض شاعرنا العبقري في أنه يسير على نهجه رضي الناس أو لم يرضوا، فإنه إنما يغني خلجات وجدانه، وعرض للمادة والحياة الدنيا وزينتها، فأكد أنه ليس من ذلك كله في شيء، ولست أدري لم وثبت إلى رأسي حينذاك قصائده الطويلة - وكنت نسيتها - في مدح فلان وفلان ممن لا يكون مدحهم إلا وجها من الزلفى؟! ولكن لفرط هيبتي من الشاعر، أو قل لفرط إيماني بعبقريته لم أستطع أن أشير إلى شيء من هذا، وهل أرضى أن أضع نفسي عنده موضع الأغرار والحمقى؟ ولعل فعله كان سرا من أسرار العبقرية لا ينهض له اليوم خيالي.
Неизвестная страница