Из трещин темноты: история заключенного, в которой самое тревожное — то, что она еще не закончилась

Нахид Хинди d. 1450 AH
43

Из трещин темноты: история заключенного, в которой самое тревожное — то, что она еще не закончилась

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Жанры

أحدهم كنا نشعر منه بغضاضة لضعفه المشين أمام المحققين الأمنيين، وعندما سمعنا نتبادل التهاني حاول أن يفعل ذلك معنا أيضا ويجارينا، لكني نهرته بقسوة وبانفعال مصطنع؛ لأني لم أكن في الواقع منزعجا من الحكم بالسجن المؤبد أبدا، بل كنت أتوقعه، وربما أتمناه كأحسن الحلول المتاحة، ولم يحدث ردة سلبية عندي عندما سمعته. إنما فعلت ذلك لأني كنت أريد أن أوبخه على ضعفه، ومع ذلك اعتذرت له لاحقا لهذه القسوة بعد سنوات، مع أني حتى اليوم ما زلت أرى أفعاله مزيجا من جبن وتهور، ومع ذلك غفرت له وسامحته تماما لأني أدركت بمرور الأيام أنه ضعيف التكوين نفسيا وحشر نفسه في موضع حرج جدا لا يناسبه بالمرة.

العمل الثوري ليس هواية أو لعبة يمارسها أي كان، ولا هو نزوة أو طيش مغامرين، بل هو منهج وسبيل برؤية مسبقة وبصيرة واضحة. سبب فشل كثير من الأعمال التي تبدو في الظاهر ثورية أنها لم تكن كذلك في حقيقتها، بل كانت مجرد ردود أفعال وطيش ومغامرة. الثورة فعل إنساني وليس رد فعل على ممارسة خاطئة لأحد ما، هي منهج لتحرير الإنسان من عوالق الغريزية ولا تتوقف في أي زمن وتستمر أبدا مع رحلة الإنسان في هذا الوجود؛ لذا الثوار يواصلون الثورة، أما الطائشون والمتظاهرون بها فينتهي غضبهم الهائج الذي يشبه الثورة عندما ينالون ما يتوق إليه ظمأ غرائزهم وليس لأنهم تحرروا منها.

حملت كل ما تبقى من ممتلكاتي بعد مصادرة المنقول منها وغير المنقول، ودسستها في قميص جاءني بعد زيارة لتركيا قبل الاعتقال بعام واحد. كان قميصا مميزا وكنت أشعر أنه جزء مني منذ أول يوم حصلت عليه، كنت أسميه مراد - ليس بلا سبب - فقد كانت له نضارة الشباب بمربعاته الحمراء السوداء وباسم صانعه «مراد» المكتوب تطريزا على ياقته الداخلية، وعلى الأكثر إنه كان اسم صاحب المصنع؛ ولذلك أطلقت عليه هذا الاسم. قميص ظل مصاحبا لي لمدة طويلة وكان شاهدا على وجودي في لحظة سيأتي وقت للحديث عنها في حكاية مثل حكاية قميص يوسف. ويبدو أن كل سجين رأي مرشح لأن يكون يوسف؛ جميل في فكره، مثير في تقلب أحواله، وشاهد أزلي على قيم الخير والجمال مهما حاول إخوته الأشقياء أن يطمسوها. لا غرابة إن صاروا بعدئذ نقباء قومهم أو خالهم آخرون أنبياء، لكنهم سوف يظلون مبرقعين بخطيئتهم أبدا، وعندما يمر ذكر يوسف أمامهم فسوف يبوحون بسر خبيئتهم النتنة ويتشكلون ثانية وثالثة وإلى ما لا يعد ولا يحصى من المرات، حسادا قتلة مجرمين حائرين في طمس جنايتهم التي عافها الذئب واستنكف منها. لن يتوبوا عنها أبدا فسوف يقض مضجعهم ذكره، وينفجر غضبهم بوجه محبيه فيهبون مثل مخبول فزع من كابوس، ليرتلوا بسخف ممل كلمات نشيد مقرف بال يحكي فشلهم وعجزهم وجبنهم وغريزيتهم الحيوانية:

تالله إنك لفي ضلالك القديم .

وأنا أوظب مراد بعناية زائدة كي لا يفقد شيئا من محتوياته، سرحت بنظراتي في وداع لرفيق شجاع، لم ألق نظرة الوداع الأخيرة عليه؛ فقد سبقني مع آخرين بيوم إلى تلك المحكمة المهزلة، وهناك اختفت آثاره للأبد من دون الثلاثة الآخرين الذين كانوا معه. تلاشت آثاره كلها من هذه الدنيا ولم أعد بعدها أراه متوثبا متحفزا ولم يصر بمقدوري أن أسمع أذني كلماته المنبثقة من بحر التحدي ولا أنتشي بضحكاته الساخرة من الأدعياء. وأنا أرمق جدران المحكمة بأسى وجزع، عاتبتها وهي التي احتضنت آلام وتأوهات عذاب غمد نصله عميقا فينا جميعا.

عاتبت هذه الجدر وجدر زنازين كثر مررنا بها برفقته، كيف له أن ينفرط منكن وأنتن اللاتي احتضنتن نغمات الدفء وكل الآثار التي نحتت شعارات الثورة، وأبيات الشعر التي كان كل ما فيها يفيض حبا وجمالا وثورة. حيطان دونت وصايا من غادر الدنيا سريعا وتاه جسده في كثبان رمل تطيح بها الرياح وتسافر بها إلى جهات الدنيا الأربعة، ولم تزل تضمهم إلى حناياها تخبئهم في قلبها بعيدا عن أعين كل الناس حتى عن بواصر ذويه ومحبيه تخشى عليهم أن يضيعوا في المدافن مع الآخرين؛ لأن المقابر لا تليق إلا بالموتى فكيف لها أن تحويهم وهم الأحياء، بل هم وحدهم الأحياء في هذا الكون الفسيح الوسيع وخلاهم موتى ما لم يلحقوا بركبهم.

أرواحهم لم تزل سائحة في براري وصحاري الوطن تلاحق حلمها في خلاصه من سوءة ابن العاص المقيمة في مضامير الفروسية والنزال. ولم تزل أرواحهم ترنو إلى يوم يخلو من حشود المهرجين كقردة وهي تنزو على منصة رئاسة خلقت للحكماء بنقاء فطرتهم لا للدهاة الثمل برجسهم. يوم لا ترى فيه صنما يطوف حوله همج رعاع ينعقون مع كل ناعق.

عند غبش لا أعرف مطلعه، امتلأ رفيقي وآخرون بالحياة استعدادا للرحلة الأخيرة، رحلة إلى نافذة تشرع فيها للريح أجنحة تنقل رغبة المتمردين عشاق الحياة في رفض الموت. نافذة تنقل إلى عالم الحقيقة عشاقا سلكنا معهم كل الدروب؛ الجد والهزل، الضحك والبكاء والمرح والشقاء. سافرت بهم الريح بعيدا عن الأوهام واقتربوا من ملامسة حقيقة الأشياء، لينعموا هناك بالسكون الخالد والراحة الأبدية وينثروا من علياهم على عالمنا بذور الحياة على الأرض، عسى أن يتلقفها زراع جدد مثابرون لتستمر الحياة على هذا الكوكب الضاج بالخطايا، لعل يوما يأتي تتحقق فيها نبوءة السماء ويصدق الكل - حتى وإن كان شيطانا مريدا - أن السماء تعلم ما لا يعلمه أي أحد وأنهم وحدهم العالمون بالأشياء، وغيرهم الجاهل والمستكبر عليه أن يسجد للإنسان الكامل دوما أبدا وسرمدا.

رحلة غادر فيها صحبة لنا كل هذه الأحلاف الخبيثة المتواطئة ضد غريزة التمرد فيهم؛ لأنهم كانوا حقيقة الإنسان التي عجز عن بلوغها الموغلون في شهوات الجسد. رفاق كانوا هم الماء الذي أعطى الحياة لكل شيء وما يزال يفعل. من رمادهم يصنع الشعراء قصائد، وبدمهم يكتب الأدباء روايات، ومن أجسادهم ينحت المثالون نصبا. ولولاهم لحار المصممون الأذكياء في متاهة البحث عن أسماء المباني والشوارع والساحات وقاعات المثقفين، ولولاهم لتوقف المؤرخون عن تدوين تتابع الأشياء. لولاهم لكان الكون سكونا محضا، بل عدما. هم إكسير الحياة، وهم كانوا الكلمة في البدء، وهم أيضا مسك الختام، هم قطر الغيث العذب الذي يسقي الجمر في قلوب الأحرار الولهين المتبعين آثار الحياة. هم ليسوا كغيرهم محض سراب يتوسل الصخر متملقا بعبارات فجة: افتح يا سمسم، عسى أن يحظوا بكنوز الخرافة من سندباد الوهم والخيال، بل هم حقيقة الوجود نثروا على الصخر القاسي دمهم فشقوا الأنهار وانكفأت كل الأوثان خاضعة ذليلة لهم في كل آن ترتعد خشية من ذكرهم.

هل سمعتم يوما أن الطغاة يحاربون أحدا غير الشهداء؟! وهل رأيتموهم يسعون لمحو ذكر أحد غيرهم مهما كان؟ ليس بحمق هذا ولا خطل رأي من العتاة، بل لأن الشهداء وحدهم هم حقيقة الخطر؛ لأنهم أحياء لا يمسهم سوى الخلود وما خلاهم أموات لن يعرفوا الحياة إن لم يلتمسوا سبيل الخالدين. وداعا صديقي، كنت غفورا واغفر لنا لو أصابتنا سنة أو نوم؛ فقد تعبنا من ممارسة الانتظار للحاق بك، وداعا وإلى لقاء.

Неизвестная страница