От передачи к творчеству
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
Жанры
لذلك اختلف الفلاسفة في الصلة بين الله والعالم، بين الإرادة والطبع، بين المباشرة والتوسط. فالأشاعرة والغزالي يقولون بالمباشرة وبالتدخل في العالم بالإرادة. والفلاسفة والمعتزلة خاصة أصحاب الطبائع يقولون بالتوسط عن طريق الأسباب أو الطبع. وهي القوة التي تعطي الحيوان وحدته. وعلى هذا يمكن القول بأن الله خالق كل شيء، ممسكه وحافظه. والخلاف فقط بالإرادة أم بالأسباب. وبهذا المعنى يكون القديم علة للحوادث. ويكون كل ما في العالم بحكمته، وإن قصر العقل في فهمها، وأن الحكمة الطبيعية أساس فهم الحكمة الصناعية. فإن كان العالم مصنوعا في غاية الحكمة فإنه لحكيم صنعه، يفتقر إليه كل شيء في السماوات والأرض. المصنوع ليس علة لنفسه. ويمكن بدعوى تنزيه الخالق إبطال حكمته وسلب صفاته. والخلق والحكمة والعناية موضوعات موجهة لدفاع ابن رشد عن الفلسفة والفلاسفة ضد هجوم أبي حامد. بل إن البعض ذهب إلى حد القول بقدرة الله على اجتماع المتقابلين. فجعلوا الإرادة ضد قوانين العقل كما هي ضد قوانين الطبيعة. لم يأمر الله بالعادات، ولم تنشأ في الموجودات ولكن اكتسبها البشر فأصبحت لديهم طبيعة ثانية.
والكون يخضع لنظام لا يؤثر فيه اضمحلال الأجرام السماوية كما ظن الفلاسفة وأن هذا النظام صدر عن المبدأ الأول، وهو الله، وأنه كما يفعل الملك في المدينة. هذا الأمر الإلهي هو الأصل في التكليف والطاعة اللذين وجبا على الإنسان باعتباره حيوانا ناطقا. وقد فاض الجود الإلهي عليه الحياة والإدراك. ويتم هذا الأمر من خلال المبادئ والقوانين التي تنتظم الكون في سلسلة متتابعة من الأسباب والمسببات. ومن ثم لا فرق بين إرادة الله والكون والعلل والأسباب إلا التوسط. ولقد أخطأ أبو حامد في تزييف العلم الطبيعي بعلم إلهي مزيف أيضا. العلم الطبيعي الصحيح يؤدي إلى العلم الإلهي الصحيح. ويبدو هنا التشكل الكاذب واضحا. فالله هو المبدأ الأول، العلة الأولى، السبب الأول، العقل الأول ... إلخ.
98
ويتوجه ابن رشد بالنقد للتصور الأشعري الذي يجعل علاقة الله بالعالم علاقة إرادة، الأمر بالمأمور، والتي تؤدي إلى إنكار وجود الأسباب والقوى الطبيعية التي بها تتحرك الأشياء والمعقولات والتي بها يستطيع الإنسان فهم العالم، وكأن الله حارس مدينة يلف حولها بآيات متناهية دون الدخول فيها. وهو قول يفترض في الله السكون لا الحركة. والله ليس بمتحرك ولا ساكن، وإن كان لا بد من التفضيل فإنه إلى الحركة أقرب. والحقيقة أنه بالرغم من رغبة ابن رشد في تجاوز التصورين، الإرادة والطبع، إلا أنه إلى الطبع أقرب، وتجاوز المتكلمين والفلاسفة ولكنه إلى الفلاسفة أقرب، وتجاوز الأشاعرة والمعتزلة ولكنه إلى المعتزلة خاصة أصحاب الطبائع أقرب. والعجيب أن يستعمل ابن رشد وهو البرهاني الأمثلة الخطابية الشعبية للشرح والبيان. والصراع بين الإرادة والطبع هو في الحقيقة صراع بين المتكلمين والفلاسفة، بين التشبيه والتنزيه. يثبت المتكلمون الأشاعرة تدخل الله في العالم بالإرادة كما يفعل الملك أو القائد، في حين يرى الفلاسفة هذا التدخل من خلال قوانين الطبيعة وسنن الكون. والحقيقة أن الفلاسفة لا ينفون الإرادة عن الله بل الإرادة المحدثة. هاجم المتكلمون الفلاسفة ظانين أنهم ينفون إرادة الله مع أنهم يتصورون الله إنسانا ويشخصونه كما يتصورون البشر فيجعلون الله إنسانا يسقطون تصورهم لأنفسهم على الله مع أن المعرفتين معرفة الإنسان بنفسه ومعرفته بغيره تقال باشتراك الاسم. والباري منزه عن نقائص البشر أو يصدق عليه الأمران معا مثل معرفته بالجزئيات، يعلمها ولا يعلمها، يعلمها كليا ولا يعلمها تجريبيا بالعدد الإحصاء. علمه بها سابق على وجودها. والحقيقة أن الله لا يفعل طباعا لأن الطباع قسر، ولا إرادة لأنها حركة، وهو منزه عنها. ولهذا وحد البعض بين الباري والموجودات، وتجاوز افتراض الاثنينية.
99
لا تصدر الأشياء عن الله بالإرادة كما يريد المتكلمون ولا بالطبع كما يريد الفلاسفة إنما على نحو أشرف لا يعلمها إلا الله وكأن السكوت الشرعي علم كما هو الحال في الموقف الظاهري.
100
ولا يتعلق الأمر بالموروث الديني وحده بل أيضا بالموروث اللغوي، تمايزا بين لسان العرب ولسان اليونانيين. فإن كانت المعاني في الفلسفة واحدة بين الشعوب والثقافات فإن اللسان بينها مختلف. وقد أدى ذلك إلى وضع المصطلح الفلسفي سلبا أم إيجابا، تعريبا أم نقلا. لفظ «الأسطقسات» معرب ولفظ عنصر منقول. وقد يتغلب أحيانا المعرب على المنقول، وتدخل الألفاظ الأجنبية في اللسان العربي وتتعرب بكثرة التكرار والألفة مثل جغرافيا وموسيقى وفلسفة وسفسطة. فاللغات ليست عوالم مغلقة بل متداخلة نظرا للتداخل الحضاري بين الشعوب عبر الاتصال والترجمة والتبادل المشترك، ولكل لغة طريقتها في التعبير، تدل على تصورها للعالم وفكرها الذاتي. وقد لاحظ الفارابي ذلك من قبل فيما يتعلق بالرابطة بين الموضوع والمحمول، واستعمال الضمير المنفصل في اللغة العربية كمقابل لفعل الوجود في اليونانية. وكرر ابن سينا ذلك أيضا. وإنما غلطه عندما رأى اسم الجوهر يدل على الصادق في كلام العرب. كذلك وضع المتكلمون ألفاظا تعادل الجوهر والعرض. كما يبدو الأسلوب العربي في «ليت شعري»، «اللهم» من المخزون اللغوي العربي.
101
وتنتهي ثلاثية ابن رشد «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» كما بدأت بالإعلان عن البيئة الدينية التي كتبت فيها والتي تكشف عن بؤرة الحضارة ومصدرها ومقصدها وإطارها وجوها، بدءا بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على الرسول وآله. وقد تكفي البسملة وحدها. وقد تقرن بالدعاء وطلب العون. وقد يكون ذلك مختصرا مطولا مثل الخطب الدينية أو المقالات الوعظية والتركيز على اصطفاء الرسول واصطفاء الله من يشاء لحكمته وشريعته واتباع سنته والاطلاع على مكنون العلم وفهم الوحي ومقصد الرسالة ضد زيغ الزائغين وتحريف المبطلين وتأويل المتأولين لما سكت عنه الشرع على طريقة الفقهاء في دق نواقيس الخطر والتنبيه على الاغتراب الحضاري الذي يؤذن بانطفاء البؤرة وضياع المركز. كما تدعو هذه المقدمات والنهايات، وأحيانا في منتصف الرسالة إلى التوفيق إلى الصواب والإرشاد إلى الحق، والله أعلم بالصواب، وقبول العذر وإقالة العثرة بمنه وكرمه وجوده وفضله. ولما كان التأليف وثيقة فإنه يذكر تاريخها، زمانها ومكانها ومكتبتها ومؤلفها، وطنه ومذهبه ولقبه، والأصل الذي تم النسخ منه، والتعرف على خط الناسخ في الأصل وفي النسخة. فإذا كان التأليف في مصر توصف بأنها المحمية أو المحروسة في العصر الحديث مثل حيدر أباد-الدكن مما يكشف عن طمع الطامعين فيها من الغرب الحديث، ويعبر عن هموم الفكر والوطن. ويكشف تعدد المكان بين المؤلف والناسخ عن وحدة الأمة. ولا يعيب المؤلف أن يكون ناسخا مثل طاش كبرى زادة.
Неизвестная страница