Из окна
من النافذة
Жанры
ثم ماذا؟ ماذا يؤدي بنا إليه العلم الحديث والفلسفة الجديدة، أو قل: التفكير القويم المنهج؟ إن خواطرنا ليس لها وجود ثابت أو بقاء، وهي تذهب ويخلفها غيرها مما يشبهها، ولكنه لا يطابقها، ومن هنا يتولد إحساسنا بالاستمرار. ومن هنا أيضا يمكن أن نقول: إن الكون ليس في حالة ثبات، بل في حالة صيرورة مستمرة، لأن الحركة تنطوي على تغير، فهذا الكون الذي يبدو لنا ثابتا ركينا متينا وطيدا، هو في الحقيقة حركة جارية - بهذا يقول العقل وبغيره تنبئنا الحواس.
ويخيل إلى من يتتبع العلم الحديث أنه تناول المادة وفتحها فألفاها خاوية، فإنها - على قوله - ليست إلا إلكترونات تتحرك ولا تفتر. ومؤدى هذا أن الأرض التي نمشي عليها ونبني فوقها ونزرعها ونأكل ثمارها وننعم بخيراتها، فضاء فارغ، وأن حواسنا هي التي توهمنا أنها مادة متماسكة. ذلك أن العلم الحديث يقسم الذرة التي كانت لا تنقسم، ويقول: إنها «موجات». وتسأل: موجات! لماذا؟ فيجيبك العلم: إنها على التحقيق ليست موجات لمادة، وإنما هي موجات لنشاط. فليس الكون إذن مادة، وإنما هو حالات تحدث وتتعاقب، ونحن نعيش في كون عبارة عن «قوة» دائمة الحركة، وأعجب ما فيها أنها تبدو لنا شيئا أو مادة.
وتسأل عن «النشاط» فلا تهتدي إليه في ذاته، وإنما يقولون لك: إن مظاهره هي الصوت والحرارة والضوء ... إلخ. أما النشاط نفسه، النشاط المحض، فما اهتدى إليه أحد؛ لأنه ليس إلا فكرة، وما رآه العلماء والباحثون، وإنما رأوا مظاهره من الصوت والحرارة والضوء ... إلى آخر ذلك، إذ كانوا قد عجزوا إلى الآن عن عزله وتجريده، فهو فرض لا أكثر، ولكنه لم يتبد قط.
والنتيجة؟ النتيجة أنه ليس ثم وجود مادي، وإنما نحن نفكر ونحس فتبدو لنا هذه الدنيا. ويرقد العقل والإحساس، فتزول هذه الدنيا. فالدنيا موجودة ما بقي العقل في يقظة، وهي تختفي وتفقد وجودها إذا نام العقل أو كف. وليس لشيء في دنيانا وجود مستقل عن عقلنا، ولا حقيقة قائمة بذاتها. وليس من الميسور أن نفصل ما يحيط بنا من العالم الخارجي عن ذواتنا، وإنهما لمنفصلان فيما نحس ونرى، ولكنهما شيء واحد أو مرتبطان، يكونان معا، ويزولان معا، ولا بت للعلاقة بينهما، ولا يمكن أن يحس المرء بنفسه وحدها غير مقرونة إلى ما حولها. •••
ولا داعي للمضي في هذا الضرب من التفكير، فإنه خليق أن يطير العقل، ويعصف باللب. وهل مؤداه إلا أنك لست بشيء، وأنك لا أكثر ولا أقل من مظهر نشاط لإلكترونات، ولا أدري ماذا أيضا ... ولكنه على ثقل وطأته على النفس يفيدنا فهما للحياة قد يكون أقرب إلى الصحة، أو هو على الأقل أصح من فهم القدماء لها، أو أحرى بأن يصرفنا عن الأخذ بما ذهب إليه العلماء السابقون من الآراء والنظريات التي نقضها المحدثون، ولا سيما أينشتين صاحب نظرية النسبية. وقد يجيء غيره من بعده فيهدم ما بناه، ويحاول أن يستظهر برأي جديد، فإن عقولنا محدودة ونظراتنا قاصرة، والأمر كله أمر اجتهاد في التفسير والتعليل. ***
للكاتب الفرنسي المشهور «أندريه موروا» رواية بارعة يسميها «كليما» يصف فيها حياة رجل تزوج امرأة أحبها فأرته النجوم في الظهر الأحمر وسودت عيشه ونغصت حياته، وجعلت من نفسها له عجلا يعبده من دون الله، ثم طلقته وفارقته، ومضت الأيام فأحب امرأة أخرى، وكانت ألين عريكة وأسلس قيادا وأطوع في العنان، وكان دأبها أن تتحرى مرضاته وتتوخى مسرته، ولا تفعل إلا ما تعتقد أنه يرضيه ويريحه، ولم تكن تعصي له أمرا أو تخالف له مشيئة، ويقول «موروا»: إن هذا الرجل وضع بيانا بما يحب وما يكره من هذه المرأة، فكتب في ناحية ما يحب: إنه معجب بإخلاصها ووفائها له، وتعلقها به وحرصها على راحته وهناءته ... إلى آخر ذلك ، ولكنه يكره منها أنها لا تتشيطن أحيانا، ولا تتدلل عليه، ولا تعذبه، ولا تظهر له الجفوة، ولا تثير غيرته، ولا تحرك حبه الذي يركده الهدوء، والذي يكاد يأسن من فرط السكينة، وأنه يشتهي أن تثير غضبه مرة، أو تبعثه على الحسرة أو الأسف ... إلى آخر هذا أيضا مما تستطيع المرأة أن تتشيطن به وتركب به الرجل، من ضروب العبث الذي تغريها به طبيعتها إذا ساعفتها الدربة وسعة الحيلة.
وأظن أن هذا تصوير صادق لحال الرجل والمرأة. ولعل صاحبنا الذي وصفه «موروا» في روايته قد ألف التعذيب وطال اعتياده عليه، فهو يحن إليه ولا يستطيع أن يروض نفسه على الخلو منه، فإن الإنسان مع الزمن لا يلبث أن ينقلب حزمة من العادات، وهذا هو بعض الفرق بين الشباب والشيخوخة؛ فإن الشاب لا يزال مستعدا للتحول والتنقل، ولكن الكهل يعجز عن ذلك في الأحيان الكثيرة. وأذكر من أمثلة ذلك أن أعصابي أصبحت منظمة على ساعات الليل والنهار. فأنا حين أفتح عيني لأول مرة في الصباح الباكر أعلم أن الساعة السادسة، ولا أحتاج أن أراجع الساعة التي اعتدت أن أدسها تحت الوسادة. وعلى ذكر ذلك أقول: إن النوم لا يواتيني الآن إلا على دقاتها. ولقد تعطلت مرة واحتاجت إلى الإصلاح فأصبت بالأرق. وبلغ من انتظام عاداتي ووقوعها في مواقيتها المضبوطة أن صار في وسع من شاء أن يضبط ساعته علي، كما كان الناس يضبطون ساعاتهم حين يرون «كانت» الفيلسوف الألماني وهو خارج إلى رياضته اليومية، وكل ما هنالك من الفرق أني لست فيلسوفا ولا شبهه.
وأذكر أني قرأت منذ عدة سنوات قصة قد يظنها بعض الناس أدخل في باب المبالغات والتهويلات التي يقصد بها إلى المزاح منها في باب الحقائق الجافة التي تصلح للمعامل. وتلك - على قدر ما أتذكر - أن رجلا كانت له زوجة طويلة اللسان جدا، فكانت تصبحه وتمسيه باللعنات والشتائم، والإهانات والتأنيب المر، والطعن الوجيع، والقدح الجارح. وكان في أول الأمر ينفر من ذلك ويثور عليه، ويهيج بها من فرط الألم ، فيصب عليها مثل ما تصب عليه، ولكنها كانت أقدر منه، وأطول باعا في الشتم، وأصبر على المواظبة، وأوفر محصولا في باب البذاء، فاستخذى، وألف ذلك على مر الأيام؛ حتى صار لا يواتيه النوم إلا على صوتها المتدفق ببراعات الهجو، ومبتكرات الشتم والقدح واللعن. ثم توفاها الله بعد أربع وعشرين سنة من هذه الحياة، فأقبل عليه آله وإخوانه يهنئونه بالنجاة من لسانها الطويل، ولكن الرجل تضعضع وانهد كيانه وتقوض بنيانه، وتلفت صحته، فراح يعرض نفسه على الأطباء فلم يجده علاجهم، ولم تؤثر فيه منوماتهم. ثم أشار عليه لبق ذكي من أصدقائه، أن يلتمس له زوجة كالأولى، فحار الرجل، ولم يدر أين يجدها.
وراح ينشد طلبته بين الأرامل، إذ كانت الفتيات الأبكار - لعدم خبرتهن - لا يصلحن للاضطلاع بهذه المهمة الجسيمة. وأخيرا جاءه صاحب له، وأبلغه أن امرأة من «الطراز الأول» توفي زوجها عنها أمس فعليه بها. فشرع يتودد إليها، ولم تمض بضعة أشهر حتى فاز بها. ولكنه وجد صوتها ضعيفا لا يبلغه وهو في الحديقة. فصار يحمل كرسيه إليها، ويجلس قبالتها يشرب لعناتها، ويعب فيما يطول به لسانها عب الظمآن، غير أنها لم تكن - مع الأسف - سوى صدى ضعيف لذلك الصوت الزاخر الذي أخرسه الموت. وكانت المرأة تبذل أقصى ما يسعه طوقها نصف ساعة أو نحو ذلك، ثم تحس بالفتور فتمسك، فيفتح الرجل المسكين عينيه ويقول - متسائلا أو مستحثا لها: «أنت هنا يا عزيزتي؟»
فتقول: «وأين كنت تحسبني أيها الغر المغفل؟»
Неизвестная страница