ثم لم يقف الكاتب عند هذه التضحية، ولكنه حققها في شكل تعود الناس أن يروه في طائفة من القصص التمثيلية، يراد به التأثير في نفوس الجماهير أكثر مما يقصد به إلى النفع والمتعة، فختم القصة بإطلاق المسدس، وذلك شيء قلما يحفل به أو يلتفت اليه.
ثم أسرف الكاتب في التفصيل والتدقيق في شيء ربما كان من الخير ألا يكثر فيه التفصيل والتدقيق، وربما كان من الخير أن يؤخذ من طريق الإجمال والإبهام. ومن هنا لاحظ النقاد اختلافا بين فصول هذه القصة في قيمتها الفنية، فبعض هذه الفصول ممتع لذيذ، فيه حركة ونشاط وقوة، وبعضها هادئ مطمئن بعض الشيء ولكنه لا يخلو من قوة تعبث بالنفس، وتثير العواطف المختلفة فيها. حتى إذا كان الفصل الأخير فلا حركة ولا قوة، وإنما هو اضطراب وحيرة وطول، وشيء يخيل إليك أن الكاتب يلتمس مخرجا لنفسه ولأشخاصه من مأزق وضعهم ووضع نفسه فيه، ثم لا يكاد ينتهي الفصل الثالث حتى تحس عجز الكاتب عن إخراج نفسه وعن إخراج الأشخاص من هذا المأزق إلا بإطلاق المسدس.
وينكر النقاد على الكاتب أيضا أن قصته مضطربة بين الجد المؤلم المخيف، والهزل المضحك الملهي دون أن تكون صريحة في أحدهما.
ثم هم بعد هذا كله يعرفون للكاتب حقه، ويثنون على إجادته اللفظية، وعلى مهارته في تدبير الحوار، وعلى دقته في تصوير العواطف المختلفة. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يحظر على الكتاب الممثلين ألا يصوروا في قصصهم التمثيلية إلا ما هو ممكن أو واقع بالفعل؟ وأين يكون الفرق بين الحياة الواقعة التي نشهدها في كل يوم وبين الحياة الأخرى التي يتصرف فيها الكتاب والشعراء وأصحاب الفن يلائمون فيها أحيانا بين ما نحس ونجد بالفعل، وبين ما يجب أن نحس وأن نجد؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يكره شاعرا أو كاتبا أو فنانا على ألا يخترع لنا شيئا إن نعجز عنه الآن فقد لا نعجز عنه غدا، ولعل آباءنا لم يكونوا يعجزون عنه أمس؟ وإذا كان من حق الكاتب والشاعر أن يصورا لنا ما كان وما هو كائن، فما الذي يمنعهما أن يصورا ما سيكون وما قد يكون، أو ما يحسن أن يكون؟ وبعبارة واضحة: ما الذي يمنع الكاتب والشاعر أن يقصدا نحو المثل الأعلى، فيصوراه صورا مختلفة، منها القريب، ومنها البعيد، منها اليسير، ومنها العسير؟
ولم يفعل كاتبنا غير هذا، فهو قد تصور الصراع بين الحب والصداقة، وتصور هذا الصراع في عالم المثل الأعلى ، وحاول أن يدني منا هذا المثل الأعلى بعض الشيء، فحقق هذا الصراع في الملعب، فمن الناس من أحب هذا المثل الأعلى، ومنهم من لم يحببه، فأما جمهور النظارة فإنما يعرف رأيه بعد أن تمضي على هذه القصة أشهر، وبعد أن نبحث لنعلم هل مثلت كثيرا، واختلفت إليها النظارة كثيرا أم هل كان عمرها في الملعب قصيرا.
لست أجد إذن ما أنكره على الكاتب فيما يتصل بموضوع القصة، ولكني قد أتفق مع النقاد في بعض ما يتصل بشكلها، ويخيل إلي أني لو كنت الكاتب الذي يعالج الموضوع لاجتزأت من هذه الفصول الثلاثة بفصل واحد هو الفصل الأول، ولأعرضت عن الفصلين الآخرين، لا لأنهما رديئان من حيث هما، فأنا أحبهما حبا شديدا، وأعجب بطائفة من الحوار فيهما، وأرى أنهما من خير ما يقرأ، ولكن لأني أحس أنهما من أعسر الفصول حين يتجاوزان القراءة إلى الملعب؛ ذلك لما فيهما من التفصيل والدقة اللذين يحسن أن نلحظهما حين نقرأ، لا أن نشهدهما في الملعب، واللذين قد يكون من العسير على كثير من الممثلين المجيدين أن يؤدوهما تأدية حسنة.
وخاتمة القصة نفسها مؤلمة شديدة الإيلام؛ ذلك لأن الكاتب استطاع أن يحبب إلينا أشخاص القصة حبا مستويا بحيث لا نستطيع أن نؤثر أحدهما على صاحبه، فمن المؤلم بل من العسير أن نتصور لم ضحى الكاتب بأحدهما دون أن يضحي بالآخر؟ ولو قد ضحى بالآخر لسألنا: لم ضحى به دون أن يضحي بصاحبه؟ ونحن لا نكاد نعلم مصير هذا الذي لم يمت، بل لا نكاد نقدر هذا المصير: فهل قتل نفسه ليدرك صاحبه أم هل تعزى عزاء عسيرا أو يسيرا؟ وماذا كان أمره مع صاحبته؟
ومهما يكن من حظ هذه القصة في الملعب فإنها قيمة لمن يريد أن يقرأ، بل إن الفصل الثالث الذي نكرهه في الملعب لذيذ جدا في القراءة، فيه حوار قيم دقيق وفيه شيء جديد ليس في الفصلين الآخرين، فقد أظهر الفصلان الآخران نفسية الصديقين وعواطفهما حين كانا موضوعا لهذا الصراع بين الصداقة والحب ، ولكنهما لم يظهرا نفسية المرأة واضحة، وهذه النفسية تظهر جلية في الفصل الثالث، وليست أقل لذة ولا إمتاعا من نفسية صاحبيها. •••
نحن في باريس، في إدارة ضخمة من إدارات السينما توغراف، يملكها ويديرها صديقان: فيليب دلماسو، وفرنسوا بريور، صناعتهما الحقيقية الحرب، فهما من ضباط البحرية الفرنسية، قد أبليا في أثناء الحرب الكبرى بلاء حسنا، كانا يعملان معا على سفينة حربية واحدة، مست لغما فنسفت، وذهب كل من كان فيها إلا هذين الرجلين، فقد تعاونا حتى أنقذ كل منهما صاحبه مرات: يهوي أحدهما إلى قعر البحر فما يزال به صاحبه حتى ينقذه، ثم يهوي هو فما يزال به صاحبه حتى يستنقذه، وظلا كذلك يوما كاملا أو أكثر اليوم حتى أدركتهما سفينة فأنقذتهما، وكانت المودة بينهما قوية، فجاء هذا الخطر فأكدها، وزادها قوة وتثبيتا، ثم وضعت الحرب أوزارها وسرح هذان الضابطان فأرادا أن يشتركا في حياة السلم كما اشتركا في حياة الحرب، فأنشآ دارا للسينما توغراف، ما أسرع ما نمت واتسعت، وكثرت فروعها وتشعبت. ونحن نشهدهما أول الفصل منصرفين إلى تدبير شئون هذه الدار في جد وانهماك وإتقان غريب، وهذا الفصل كله إلى قيمته الخاصة التي سنبينها لك له قيمة أخرى من حيث أنه يصور دخائل الذين يعملون في السينما توغراف، حتى إن هذا الفصل قد حمل بعض النقاد على أن يفكر في القصة التي حدثتك عنها منذ حين بعنوان: «ظهر حديثا»، فتلك القصة تصور دخائل الأدباء في جراءة وقوة، وهذه القصة لا تقل عنها جراءة في تصوير دخائل الذين يديرون السينما توغراف، والذين يلعبون فيه. لو أن لي من الإلمام بهذا الفن حظا قليلا للخصت لك بعض الشيء هذه المناظر التي تمثل حياة هؤلاء الناس، ولكني أترك ذلك إلى ما أستطيع أن أتناول، فألخص لك من هذا الفصل المناظر التي تعني قصتنا.
وأول هذه المناظر منظر يدخل فيه على هذين الصديقين صديق ثالث يقال له كرسبي ضابط بحري مثلهما، ولكنه في الجند العامل لم يسرح بعد، يقبل ومعه امرأته، جميلة رائعة ، فيعرض على صديقيه بعد أن يقدم إليهما امرأته أمرين؛ أحدهما: أن يقبلا زوجه لاعبة عندهما، والآخر: أن يقبلا منه قصة وضعها لملعبهما، فيقبلان قصته، وينقدانه ثمنها، ويرفضان امرأته، وينصحان له أن يصحبها؛ لأنهما يكرهان لصديقهما أن تتعرض امرأته لما تتعرض له اللاعبات في السينما توغراف من عبث ولهو ومجون، وليس هو معها حتى يستطيع أن يحميها ويذود عنها، ويقبل الصديق نصيحة صديقيه، ولا يكاد ينصرف مع امرأته حتى يمزق الصديقان قصته دون أن ينظرا فيها.
Неизвестная страница