وقد أخذت الكلفة تزول بينها وبين خادمها، وأخذت هذه العجوز تغريها وتهدئ من روعها، وتنصح لها بترك باريس، والاضطراب يشتد من حين إلى حين، والهلع يغمر نفسها شيئا فشيئا، وإذا هي تتمثل خليلها، ثم لا تلبث أن تنسى كل شيء، ويخيل إليها أنها تنتظره كما كانت تفعل من قبل، وهي تمد أذنها لتسمع دق الجرس الذي كانت تسمعه في مثل هذا الساعة، وهي تسمع دق الجرس بالفعل، وهي تنكر ذلك! ولكن الجرس يدق ويدق، وقد سمعته الخادم كما سمعته سيدتها، فتمر بالمرأة لحظة ذهول لا تلبث أن تزول؛ لأن الخادم قد فتحت الباب، وأدخلت عليها سرج إيتيه محاميها.
تستقبله مطمئنة إليه، مبتهجة بمقدمه، فقد كان رفيقا بها في أثناء المحنة، ناصحا لها، محسنا إليها، وزيارته هذه تنقذها مما كانت فيه من الهلع، وقد أخذا يتحدثان، فنحس أن بينهما صلة لا تخلو من غرابة، أما هي فواثقة به، مطمئة إليه، تريد أن تتخذه مشيرا ومرشدا، وأما هو فمشفق عليها، رفيق بها، يحسن التعزية والتسلية، ولكن صوته ينم عن شيء آخر غير هذا، وما هي إلا أن يتصل الحديث قليلا، فنتبين أنه يحبها، وهي فزعة من هذا الحب، آسفة له، فقد كان يخيل إليها أنها وجدت في هذا الرجل صديقا مخلصا، فإذا هي تجد فيه عاشقا ملحا، وهي تطلب إليه أن ينصرف وهو يأبى ويستعطف، وهي تتحدث إليه في صراحة بأنها لم تبق صالحة للحب، وبأن قلبها مملوءة بأشياء أخرى، ولكنه واثق بأن الزمن سيحدث آثاره، وسيلقي بينها وبين هذه الذكرى من النسيان ستارا كثيفا، وهي تأبى وتلح في الإباء، وتعلن أن حب الرجال غرور ينتهي آخر الأمر إلى ألفاظ جوفاء لا تدل على شيء، وهو يسرف في هذه الألفاظ التي يملأها الحنان والحب، فتجيبه على كل جملة من هذه الجمل بقولها: هذا كلام، كلام، ولكنه يمضي في هذا الكلام، أو قل يستحيل شخصه إلى كلام قد أخذ على هذه المرأة السبيل من كل وجه، فهي ما تكاد تنطق بكلمة حتى يغمرها هو بموج متراكب من القول تضطرم فيه نار الحب اضطراما، ويسدل دونهما الستار، وقد أحسسنا أن الفوز سيكون له. •••
ويدركنا الفصل الثالث في قرية من قرى الساحل في بريطانيا الفرنسية آخر الصيف في فندق هناك، قد انصرف عنه أكثر المصطافين، ولم يبق فيه إلا القليل من المتخلفين، ومن بينهم صاحبتنا هذه ومحاميها، وقد مضى على ما قدمنا في الفصل الثاني عام وبعض عام، وقد قبلت حبه ومنحته ما كانت تستطيع أن تمنحه من ود وإيثار، ولكننا نحسن منذ أول الفصل بأن الأمر لا يطرد بينهما على وتيرة واحدة، نراها أول الفصل في غرفة الاستقبال تكتب، وقد أقبلت عليها امرأة تقيم معها في الفندق هي مدام ترانسون، فتتحدث إليها في شئون كثيرة، ولكننا نفهم من حديثهما أن في الفندق امرأة شابة جميلة خلابة، قد فارقت زوجها، وهي تعبث مع كل من تلقاه، ومع المحامي هذا بنوع خاص، ولكن بول تلقى هذا كله بشيء من الإغضاء والإذعان والفلسفة، ونفهم أيضا أن هذا المحامي الذي يعرف الناس أنه زوجها قد ذهب مع هذه المرأة اللعوب إلى مدينة قريبة؛ لأن هذه المرأة تريد أن تشتري ما تحتاج إليه، فآثر أن يحملها في سيارته.
وما هي إلا لحظات حتى تأتي هذه المرأة اللعوب أنيت هوسلين، فنفهم من حديثها أنها قد ذهبت إلى المدينة واشترت ما كانت تحتاج إليه، وأنها تشكو سرعة سرج في سوق سيارته. ثم يأتي سرج، وما هي إلا أن يخلو إلى زوجه أو إلى صاحبته فيتحدثا، فنحس أنه ضيق بالحياة، وبالإقامة في هذه القرية، وأنه يود لو استطاع أن يعود إلى باريس، وأن يغير برنامج الرحلة الذي كان يقتضي إطالة الغيبة عن العاصمة، وهو يظهر لامرأته حبا شديدا، وهي تظهر له حبا فيه مودة وبر، ولكنه خال من العواطف الحادة، والأمر بينهما واضح السوء، فهو يطلب إليها حبا حادا عنيفا فيه نسيان لكل شيء، وإنكار لكل شيء، وهي لا تستطيع أن تعطيه إلا مودة وإخلاصا، وهو يحس أنها لم تنس صاحبها الأول، ويجد في ذلك ألما ومضضا، ولكنهما لا يتحدثان في هذا كله إلا على شيء من الرفق والتعمية، وقد استقر رأيهما أو كاد على العودة إلى باريس، ولكنه يعرض عليها أن يصطحبا في السيارة هذه المرأة اللعوب، فتظهر شيئا من التردد الرقيق، وهذه مدام ترانسون قد عادت مع زوجها، وهما يطلبان إلى الزوجين الآخرين أن يجلسا إلى مائدة اللعب، وبينما بول تهيئ الورق للعب ينظر ترانسون في صحيفة من الصحف فيقرأ أن امرأة أحست الخيانة من خليلها فقتلته، فيعلن ذلك ساخطا على هذه المرأة؛ لأنها استباحت لنفسها قتل خليلها، لا لشيء إلا لأنه خانها، وامرأته تترافع عن هذه المرأة، ويشتد الحوار بين الزوجين في هذه المسألة: هل يبيح الحب لأحد العاشقين أن يقتل صاحبه إذا تورط في الخيانة؟ يشتد الحوار وإذا هما يحتكمان إلى الزوجين الآخرين، فأما الزوج فيتنحى، وأما امرأته فتحاول أن تتنحى، ولكنها لا تملك نفسها، وإذا هي تجهش بالبكاء، وتعلن أن ليس لامرأة أن تقتل صاحبها لأنه خانها، ويضطرب زوجها أمام هذا البكاء، ويعلن إلى صاحبيه معتذرا عنه أن قد كان شيء من ذلك في أسرة امرأته؛ فهي متأثرة بالذكرى، وينصرف الزوجان هذان، ويخلو سرج إلى امرأته، وقد صرح بينهما الشر أو كاد، فهي تبكي وتعلن بهذا البكاء أنها ما زالت نادمة على ما اقترفت من إثم، ومعنى ذلك أنها ما زالت تذكر صاحبها، ومعنى ذلك أنها مازالت تحبه، ومعنى ذلك أيضا أنها لا تمنح صاحبها الجديد إلا شيئا لا يرضيه.
وهي تستعطفه وتترضاه، ولكنه يجيبها في شيء من الحب والغضب معا، فهو رفيق بها محنق عليها، ويتصل بينهما هذا الحوار المؤلم في غير فائدة ولا جدوى، فهو محب غير موفق، وهي صديقة غير موفقة، ولكنها تتركه لبعض شأنها، فيطلب إليها أن تحمل إليه منديلا إذا عادت؛ لأنه ذهب مع صاحبته تلك أنيت إلى بعض القهوات، فاستعارت منه منديله تمسح به فمها، فملأته بما على شفتيها من صبغة، فلم يستطع أن يحتفظ به وتركه لها، وتقبل امرأته هذا العذر على علاته وتنصرف.
ولا يكاد يخلو الرجل إلى نفسه حتى تقبل أنيت، وترفع إليه بطاقة فيها عنوانها في باريس، فيتقبلها في إهمال، ويلقيها في جيبه إلقاء، وتنكر المرأة منه هذا الإهمال وتعاتبه: ألم يكن منذ حين مفتونا بها، يقبلها ويسرف في تقبيلها، ويلح عليها في أن تعطيه عنوانها! فما باله الآن يتقبل هذا العنوان في إهمال وازدراء!
وهذه المرأة لا تملك نفسها أن تبكي غيظا وحنقا، وكأنها تحب هذا الرجل، وكأنها محزونة؛ لأنها تحس منه العبث بها، والرغبة في اللهو ليس غير.
ولكن الرجل مضطرب، متردد بين عاطفتين عنيفتين: فهو يحب بول، ويحس أنها لا تجزيه من هذا الحب إلا مودة هادئة فيها ثقة كثيرة أكثر مما ينبغي، وليست فيها حدة ولا غيرة. وهو يشتهي هذه المرأة الشابة، ويحب منها بنوع خاص أنها جديدة لا تملأ قلبها الذكرى؛ لأنها لم تحب أحدا، ولأنها شابة فيها مرح الشباب. ولم لا يضطرب؟ ولم لا يميل إلى هذه المرأة؟ أليس يراها الآن تبكي أمامه حبا ووجدا بعد أن رأى تلك هادئة مطمئنة، لا تتهمه، ولا تسيء الظن به، مع أنه لم يقصر في إتيان ما من شأنه أن يثير الريبة وسوء الظن. وانظر إليه قد نهض متثاقلا إلى هذه المرأة الشابة، فأخذ يهدئ من روعها، وأخذ يدها ورفعها إلى شفتيه فهو يقبلها، ولكن امرأته تقبل فيترك صاحبته، وتنصرف صاحبته أيضا، ولكن في شيء من الاضطراب والحدة لا يخفى على بول.
وإذا هي محزونة تعلن إلى صاحبها أنها تشفق عليه من هذا الاضطراب بين امرأتين، وتؤثر أن تقطع الصلة بينه وبين هذه المرأة، فيجيبها في شيء من الاحتياط أول الأمر، ثم تثور ثائرته، فيسألها: ماذا تفعل لو عرفت أنه يعبث مع هذه المرأة ويلهو بها؟ وأنه لم يذهب معها إلى المدينة منذ حين، وإنما ذهب بها إلى حيث يلهوان؟ وأنه لم يعرها منديله منذ حين، وإنما أسرف في تقبيلها ومسح بهذا المنديل شفتيه هو لا شفتيها هي؟ وأنه طلب إليها عنوانها في باريس ليستأنف لقاءها هناك؟
وأنت تقدر موقع هذه الجمل على نفس هذه المرأة البائسة التعسة. فأما صاحبها، فقد كان يقرر أو يود أنها ستأخذها غيرة حادة كتلك التي دفعتها إلى القتل فيستوثق من حبها. ولكن هذه الجمل تقع من نفس المرأة موقعا مؤلما، لا لأنها تثير فيها الغيرة، ولا لأنها تدفعها إلى القتل، بل لأنها تقيم البرهان الذي لا يقبل الشك على أنها لم تعد صالحة للحب؛ لأن ذكرى صاحبها الأول قد ملأت نفسها، وملكت عليها أمرها، فهي لا تستطيع أن تحب، ولا تتبع الغيرة، ولا أن تطمئن إلى الحياة. لقد برأها القضاء منذ حين، ولكنها لم تبرئ نفسها فهي قاتلة، نعم هي قاتلة، ويجب أن تحتمل عقوبة هذا الإثم. ولئن أفلتت من العقوبة المادية التي تفرضها الجماعة ونظمها، فلم تفلت ولن تستطيع أن تفلت من هذه العقوبة المعنوية التي يفرضها على النفس قانون الندم والذكرى. ألم تحاول أن تلتمس رجلا تطمئن إليه، وتعتمد عليه، وتثق به، وتنسى معه كل هذه الآلام والشدائد، فحال بينها وبين هذا الرجل ما يملأ قلبها من ذكرى ذلك القتيل، ومن الندم الذي يغمر نفسها للاعتداء عليه.
Неизвестная страница