وابتسمت مسعدة وعاد الشباب يتألق في جبينها بشرا ومسرة، وانبعثت الأماني تحدثها حديثها، وحلقت بجناحين في وادي المنى، وقالت: «... ويكون لنا دار ونخيل، ومزرعة!»
وافترت شفتاه وقال: «ذلك أولى لك يا مسعدة وأنت له أهل؛ وهذا المال ...»
ودق الباب فانقطع الحديث، ودخل الداخل ثم خرج، وخرج وراءه همام وزوجته وابنته يشيعون حمدان وفي يديه الحديد مسوقا إلى السجن!
لم يشتر همام دارا ولا نخيلا، ولا مزرعة على الساحل؛ ولم يبق له من ماله باق، وأنفق ذخيرة العمر ليفتدي ولده من زلة ساعة فلم يجد عليه!
وعاد همام كما بدأ: أجيرا يكدح لنفسه ولزوجته وابنته، عاملا في مزرعة العمدة، قانعا من العيش بالكفاف، راضيا من متاع الحياة بنعمة الحياة نفسها ...
وخرج حمدان من السجن بعد عشر سنين لتستقبله أمه الأيم العجوز وحيدة، فتصحبه إلى قبر أبيه يترحم عليه؛ أبوه الذي لم يره إلا مرة ثم مضى كل منهما لوجهه، كما يلتقي اثنان اتفاقا في طريق ثم يتدابران فلا لقاء!
عمامة الأفندي!
طال بنا انتظار صاحبنا «الشيخ محمد المأذون» في هذه الليلة حتى دقت العاشرة ولم يجئ، وكنا نرقب مقدمه علينا كل مساء رقبة المشتاق، فما تخلف عن مجلسنا ليلة منذ عرفناه، وإنه ليقدم فيحل البشر ويستخفنا السرور، سرور النفس بدعابته، وسرور المعدة بحلواه! فقلما كان يوافينا إلا ومعه هدية من عرس نتوزعها بيننا. ولم يكن لمقدمه ميعاد، فإنه لعلى تجوال دائم، يتأبط دفتره من دار إلى دار، رسول سلام وحب، أو رسول فرقة وقطيعة! وتوزعتنا الظنون من غيبته، وحسبناه قد أصاب الليلة حظا من عرس، فبخل علينا بحلواه ومرق إلى الدار، فما كنا لنتركه حين يقدم علينا إلا فارغ الجيب من الحلوى وغير الحلوى مما يجمع من الأعراس، وما كان ليتركنا إلا فارغة رءوسنا من الضحك من دعابته وهزله!
وجاء بعد انتظار فحيا وجلس، ولكنه كان عابسا مبهورا لا يكاد يطرف جفنه، فحسبنا وراء مظهره العابس نكتة مبتكرة، فقد كان في الفكاهات صاحب تدبير وسياسة، وما عهدناه يألم من الحياة لشيء، وإن الهموم لتصطرع عن يمينه وشماله!
وهممنا به نتناوله بما أعددنا له من عبث، فإذا كلماتنا تتساقط حواليه ولا تصيبه، وظل على حاله من العبوس والهم!
Неизвестная страница