أي سخرية! إن الفقير الذي يعوزه القرش ليستطيع أن يقول مقالة الغني الذي يملك المليون. وماذا يملك الغني مما يملك إلا أن يسرح الطرف فيقول: هذه ضيعتي وهذا قصري؟! أفلا يستطيع الفقير أن يسرح عينيه معا فيقول مثله: هذه ضياعي وتلك قصوري؟ بلى يا صاحبي؛ إن الغنى لوهم من أوهام الناس، وإن الفقير المعدم ليرى أنه يملك ما شاء أن يملك من الدنيا ما دام راضي النفس!»
وافترقا وكلاهما يرثي لصاحبه!
وقالوا له: «هلا التمست لك زوجة تأوي إليها فتجمع ما تفرق من أمرك؟ لعلك أن تجد عندها راحة النفس وهدوء القلب!» قال: «حتى ألقاها، فأعرفها، فيدلني عليها قلبي! ما أريدها غنية، فما لي وغناها وأنا عائلها وكاسبها؟ وما أريدها جميلة، فما لي وللجميلة تتوزعها قلوب الناس وعيونهم، ويتوزعني منها الشك والقلق؟ وما أغلو في طلب الفيلسوفة العالمة، فأجمع على نفسي هما بالليل وهما بالنهار! وما أريد أن تقول: كان أبي ورحم الله جدي! فتملأ بيتي بأشباح الموتى وأطياف الهالكين! بحسبي أن أجد الفتاة التي يخفق لها قلبي ويهدأ عندها حنيني!»
وخيل إليه أنه وجدها بعد أن أعياه المطاف، فوهب لها قلبه، وأخلص لها وده، وكشف لها عن نفسه، ونظرت الفتاة في مرآتها ثم لوت عنه معجبة مزهوة! أتراه وقد نالت منه بقسوة الصد، وصعر الخد، وجفوة الدلال قد أيقن أن المرأة لا تستوثق من حب صاحبها إلا غلبت، ولا تستمكن من زمامه إلا ركبت ...؟
يا للمسكين ...! لقد كان بريئا طاهرا كالطفل، وادعا مستكينا كالحمل، يحسب الناس كل الناس في مثل براءته وطهره، فما ينشد فيهم إلا المثل الأعلى الذي يراه في نفسه! وأين المثل الأعلى من هؤلاء الناس؟ أين هؤلاء الذين يرى من أناسي خياله؟ وأين هذا الوجود من عالم قلبه؟
لقد منحهم حبه، فهل لقي عندهم إلا الغدر؟ وأصفاهم وده، فهل رأى إلا الأثرة؟ ومحضهم إخلاصه، فهل عرف إلا الخديعة والمكر؟ وألان لهم جانبه، فهل وجد إلا الكبرياء وصعر الخد ...؟
وأيقن «الرجل الصغير» أنه لم يكن في هذا العالم غير طفل كبير! وعرف أخيرا أين أحلامه من اليقظة، وأين أمانيه من الحقيقة، وأين المثل العليا التي جد ينشدها منذ كان صبيا فلم يجدها إلا في نفسه ...!
وراودته نفسه أن يكون بعض هؤلاء الناس، لعله يلقى بعض أسباب السعادة؛ فرن الصدى في مسمعيه يرجع قول أبيه: «ستكون أميرا يا بني، فأحب الناس، وهب نفسك للجماعة؛ إن السعيد من يعطي لا من يطلب العطاء!»
وثابت إليه نفسه، ونفذت الطمأنينة إلى قلبه، فقال: «نعم إنني لأمير؛ لأنني فوق الناس؛ لأنني أعطي ولا أستجدي، وإنني لسعيد؛ لأنني أملك الرضا، ولأنني أملك أن أجعل الحياة جميلة!»
وتلفت يمنة ويسرة، ونظر إلى الناس تتجاذبهم ضرورات الحياة، ثم مضى على وجهه يمد عينيه إلى الهدف البعيد، مستنيرا بالأمل، مستعينا بالرضا، مستيقنا أنه سيجد المثل الأعلى هناك، عند الغاية من هذا الطريق!
Неизвестная страница