От доктрины до революции (2): Единобожие
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
Жанры
ولا يتمثل هذا القلب فقط في تغيير المقصد والموضوع من الإنسان إلى الله، بل يظهر أيضا في تغيي ر الوحي من الكلام إلى الشخص. أعطى لنا الوحي كلاما، والكلام حين يكون موضوعا لا يتعدى نطاق اللغة وتحليلها. والمقصود بالكلام هو فهمه وتحويل معانيه إلى توجيهات للسلوك من أجل تغيير الواقع وجعله مطابقا للكلام في بنائه. وإن أهم ما يميز الوحي في آخر مراحل تطوره هو أن الكلام أصبح هو التعبير الوحيد عن «الله». عبر الله عن ذاته في الوحي، أي في كلامه، وأعلن عن وجوده وصفاته وخلقه في الوحي. وإذا كان قد ظهر في مظاهر مادية، صوتا لإبراهيم، ونارا لموسى، وروحا أو كلمة لعيسى، فإنه لم يظهر في آخر مرحلة من تطور الوحي إلا من خلال الكلام. وإذا كان قد تدخل بشخصه تدخلا مباشرا في سير العالم، طوفان نوح، شق البحر، رفع عيسى، فإن هذا التدخل المشخص المباشر قد انتهى. وفي آخر مرحلة من مراحل الوحي لم يعد له وجود مادي أو فعل محسوس بل أصبح كلاما. تأسيس الوحي، وهو الكلام باعتباره علما محكما هو الوضع الصحيح للكلام. وأن تسمية علم الكلام لتصدق بالفعل على هذا العلم لأن موضوعه هو الكلام. وهذا هو معنى ما يقال عادة من أن الوحي في آخر مراحله أصبح وحي كلام لا وحي شخص. ليس الكلام جسدا أو طبيعة أو كونا بل كلام لغوي، معان وألفاظ، دلالات وعبارات.
15
ولكن علم الكلام قلب الوحي من الكلام إلى الشخص، وجعل الكلام وصفا لشخص المتكلم وهو الله. وبدلا من أن يوجه الكلام إلى تغيير الواقع وتطويره، فإنه يقلبه إلى أعلى تثبيتا وتأكيدا وبرهانا على شخص المرسل. قام علم الكلام إذن بعملية نفسية خطيرة وهو «التشخيص» في الحديث عن الكلام باعتباره شخصا وليس كلاما يدرس دراسة علمية من حيث الصوت أو الحرف أو اللفظ أو المعنى أو الرمز كما هو الحال في العلوم الإنسانية. حول علم الكلام إلى شخص، وتحدث عن «الله» وكأنه يتحدث عن شخص له كل صفات الشخص المادية كالبدن واليدين والرجلين والعينين أو المعنوية مثل العلم والقدرة والإرادة ... إلخ. بدلا من أن يكون الشخص صفة للكلام أصبح الكلام صفة للشخص. بدلا من أن يكون الكلام هو الأصل والشخص هو الفرع أصبح الشخص هو الأصل والكلام هو الفرع. بدلا من أن يكون الكلام هو موضوع العلم والشخص خارج عن نطاق العلم أصبح الشخص هو موضوع العلم الأول والكلام خارج نطاق العلم إلا من حيث كونه صفة للشخص. ثم يدخل الشخص في نطاق المقدس ويصبح وصفه تابعا لأسمى عواطف التعظيم والإجلال، ويكون كل تشابه بينه وبين الإنسان ضربا من التطاول ونقصانا في الاعتراف بالفضل وبالجميل، وتصبح مهمة الشهور هو التأليه المستمر لهذا الشخص والتعبير عن هذا التأليه بأسمى عبارات التقدير والإعجاب. ويتحول العلم إلى دين، والعقل إلى انفعال، والموضوع المدرك إلى ذاتية فارغة.
وبالرغم من ظهور عملية التشخيص ثم التأليه هذه على أوضح ما تكون في العلوم التقليدية الأخرى كالتصوف والحكمة باستثناء الأصول الذي عاد إلى العالم واصفا الإنسان فيه،
16
إلا أن هذه العملية قد سادت علم الكلام من أوله إلى آخره حتى طبعته بطابعها وأعطته اسمها، فأصبح «علم التوحيد» أو «علم أصول الدين» في أصله الأول هو الشخص المؤله، حتى إن المسائل الإنسانية أو الطبيعية الخالصة في علم الكلام أصبحت أيضا قائمة على تدخل الشخص المؤله كطرف فيها دون العالم. صحيح أن الوحي تحدث عن الذات الإلهية وصفاتها ولكن هذا الحديث هو كلام وليس ذاتا أو شخصا. وقد عرفنا الذات من خلال الكلام وقد تم التعبير عنه بالحديث والصياغة. وكل ما نعلمه عن الذات هو كلام وصياغات. إن صفات الله وأفعاله هي مجرد أقوال.
17
ونحن لا نعلم أفعاله إلا عن طريق الأقوال من الوحي. الله ذاته لا يعرف إلا من خلال الوحي، والوحي كلام، أي أننا لا نعرف الله إلا من خلال العبارة، ولا نفهمه إلا من خلال فهمنا للعبارة.
والوحي من حيث هو كلام مكتوب بلغة البشر. ولا يهمنا الكاتب لأن الشخص خارج نطاق السؤال. لا يوجد أمامنا إلا الكلام. والكلام مكتوب بلغة معينة تطبق عليه قواعد هذه اللغة لفهمه. بل يتم التعبير عن الكلام أحيانا بالصورة الفنية، أي بتشبيه إنساني خالص. فإذا ما تحدث عالم الكلام بالوحي فإن حديثه يكون كلاما من الدرجة الثانية، أي كلاما بكلام أو كلاما عن كلام. كلامه إدراك لكلام الوحي وفهمه وتفسيره . وكل ما يقوله عالم الكلام يصبح قولا من خلال إدراكاته وتصوراته. ولا وسيلة أمامه للخروج من عالمه إلى العالم الخارجي أو افتراض أي تطابق بينهما. كلام عالم الكلام مجرد تعبيرات إنسانية وعبارات وأقوال من صنعه يحددها مزاجه وشخصه وتربيته وثقافته وبيئته ومستواه الحضاري ولحظته التاريخية، بل وأهواؤه وانفعالاته ومصالحه وولاءاته، بل وقبيلته وجنسه وعنصره. ولا يكون له أي معنى إلا بالرجوع إلى مصدره. فهو لا يشير إلى موضوعات خارجية، بل يعبر عن مقاصد موجهة من ذات المتكلم. يكشف الكلام عن ذات المتكلم أكثر مما يشير إلى شيء موجود بالفعل. وهنا يقع التناقض والاستحالة. كيف يمكن التعبير عن المجرد الصوري الذي ليس كمثله شيء بلغة في نشأتها اتفاق تعتمد على الصورة الحسية وتقوم على التشبيهات؟ علم الكلام على هذا النحو ادعاء لأنه يظن أنه يصف شيئا موجودا بالفعل في حين أنه يعبر عن مقاصد شعورية خالصة. وعلم الكلام بهذا المعنى أيضا يقوم على الغرور أو الجهل فيما يتعلق بالقدرة الإنسانية على التصور والحكم. فإذا كانت الذات المشخصة المؤلهة في عالم الإطلاق، فكيف بقدرة الإنسان المحددة بتربيته ومزاجه وثقافته وبيئته وأهوائه إصدار حكم عليها؟ كيف يمكن للنسبي إصدار حكم على المطلق؟
وإذا كان كل ما نعرفه من الله هي أقوال، سواء من الوحي أو من فهمنا إياه أو من وصفنا له كما يفعل المتكلم وكما تقتضي بذلك خبراتنا الشخصية ولغتنا الإنسانية، لم يعد هناك فرق بين السمع والعقل؛ لأن الأقوال التي تصدر من أحدهما أو كليهما تعبر عن شيء واحد بلغة إنسانية واحدة. فقبل أن يأتي السمع كان الناس يتحدثون عن الله ويعطونه نفس الصفات مع اختلاف في العدد أو في الدرجة أو في الصورة الذهنية ودرجتها من الحسية أو التجريد. وقد تحدث الناس أيضا بعد السمع. هناك مواقف اجتماعية هي التي تحدد نوع الحديث ودقته، وهي مواقف موجودة قبل السمع وبعده. وبالتالي ردا على سؤال القدماء: هل يجوز تسمية الله بصفاته قبل أن يأتي السمع بالعقل؟ نقول أن الحديث عن الله سابق على السمع وتال له. وما السمع إلا أحد الأحاديث عن الله.
Неизвестная страница