От вероучения к революции (4): Пророчество – Воскрешение
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
Жанры
الباب الرابع: التاريخ العام
الفصل التاسع: تطور الوحي (النبوة)
أولا: مكانها، وموضوعاتها، ومعناها
ثانيا: وجوبها، واستحالتها، وإمكانها
ثالثا: هل المعجزة دليل على صدق النبوة؟
رابعا: تطور النبوة
خامسا: اكتمال النبوة
سادسا: وقوع النبوة
سابعا: إعجاز القرآن
ثامنا: الشخص أم الرسالة؟
Неизвестная страница
تاسعا: تواتر الرسالة
عاشرا: مضمون الرسالة
الفصل العاشر: مستقبل الإنسانية (المعاد)
أولا: وضع المشكلة
ثانيا: قانون الاستحقاق
ثالثا: دوام الاستحقاق
رابعا: شمول الاستحقاق
خامسا: الموت
سادسا: حياة القبر
سابعا: المعاد
Неизвестная страница
ثامنا: علامات الساعة
تاسعا: اليوم الآخر
عاشرا: الجنة والنار
الباب الرابع: التاريخ العام
الفصل التاسع: تطور الوحي (النبوة)
أولا: مكانها، وموضوعاتها، ومعناها
ثانيا: وجوبها، واستحالتها، وإمكانها
ثالثا: هل المعجزة دليل على صدق النبوة؟
رابعا: تطور النبوة
خامسا: اكتمال النبوة
Неизвестная страница
سادسا: وقوع النبوة
سابعا: إعجاز القرآن
ثامنا: الشخص أم الرسالة؟
تاسعا: تواتر الرسالة
عاشرا: مضمون الرسالة
الفصل العاشر: مستقبل الإنسانية (المعاد)
أولا: وضع المشكلة
ثانيا: قانون الاستحقاق
ثالثا: دوام الاستحقاق
رابعا: شمول الاستحقاق
Неизвестная страница
خامسا: الموت
سادسا: حياة القبر
سابعا: المعاد
ثامنا: علامات الساعة
تاسعا: اليوم الآخر
عاشرا: الجنة والنار
من العقيدة إلى الثورة (4)
من العقيدة إلى الثورة (4)
النبوة - المعاد
تأليف
Неизвестная страница
حسن حنفي
الباب الرابع: التاريخ العام
الفصل التاسع: تطور الوحي (النبوة)
أولا: مكانها، وموضوعاتها، ومعناها
لما كانت العقليات الشق الأول من علم أصول الدين وقد ظهر فيها الإنسان قابعا وراءها ومنبعا للإلهيات، يظهر التاريخ في الشق الثاني من العلم وهو السمعيات أو النبوات كمنبع لها؛ وعلى هذا النحو تكشف العقليات والسمعيات أو الإلهيات والنبوات، وهما الشقان الأساسيان في علم أصول الدين، عن الموضوعين الرئيسين فيه وهما الإنسان والتاريخ وإن بديا غير ظاهرين مغتربين؛ الإنسان مغترب في الذات والصفات والأفعال، والتاريخ مغترب في النبوة والمعاد، محاصر بين الماضي والمستقبل، ومحصور بين إيمان العامة وفردية الإمام.
وكما شملت العقليات موضوعات أربعة؛ الذات والصفات وخلق الأفعال والحسن والقبح، فإن السمعيات أيضا تشمل موضوعات أربعة؛ النبوة والمعاد والأسماء والأحكام (الإيمان والعمل) والإمامة؛ فالنبوة إذن موضوع في السمعيات، وتبدأ النبوة باب السمعيات؛ لأنها الطريق إلى معرفة الأخبار المتعلقة بالمعاد والأسماء والأحكام والإمامة؛ لذلك ظهرت مسألة الكلام ليس كصفة ولكن من حيث هو كلام يمكن نقله تاريخيا ويكون مصدرا للمعرفة. وهي كلها أبعاد للتاريخ؛ فالنبوة تشير إلى تطور الوحي في الماضي، والوحي هو التاريخ، والمعاد يشير إلى تاريخ الإنسانية في المستقبل، وكلاهما يكون التاريخ العام للإنسانية جمعاء، ماضيها ومستقبلها؛ ثم يبرز الفرد في التاريخ في الأسماء والأحكام في بعدي النظر والعمل، كما تظهر الدولة بعد الفرد في صيغة الإمام؛ وبالتالي يظهر التاريخ المتعين في الفرد والدولة منبثقا من التاريخ العام، وكأن الفرد بنظره وعمله هو القادر على تحويل التاريخ العام للإنسانية جمعاء إلى تاريخ خاص للفرد. ولما كان الفرد يعيش مع آخرين نشأت الدولة كامتداد للفرد، وأصبحت الدولة هي المحققة للتاريخ العام والمحولة له إلى تاريخ خاص لمجتمع بعينه في مرحلة تاريخية بعينها؛ فالدولة باعتبارها ممثلا للأفراد هي الوريث الوحيد للتاريخ العام.
والنبوة أبعد الموضوعات عن التجريدات العقلية والمقولات الفلسفية وأقربها إلى اللغة الشائعة، وكذلك الأمر في سائر الموضوعات السمعية، ما دام العقل قد غاب ومفاهيمه قد اختفت، ولم يعد هناك إلا الشواهد السمعية دون تأويل أو تعقيل أو تنظير، وهي أكثر الموضوعات اعتمادا على النص والأخبار تواترا وآحادا؛ لذلك كان موضوع الأخبار جزءا منها. ومع ذلك يظهر الطابع الجدلي للدفاع وللرد على الخصوم، وكأن مهمة العقل هي الدفاع عن مسلمات الإيمان وأخبار السمع، وكذلك الحال في باقي الموضوعات السمعية خاصة المعاد، وكأن القدماء قد اكتفوا بإعمال العقل في الإلهيات وحولوها إلى عقليات وتركوا السمعيات لأجيال أخرى تقطع النصف الثاني من الشوط، فيتحول العلم كله إلى عقليات. فإذا كان السلف قد قطعوا النصف الأول من الشوط تكون مهمة الخلف قطع النصف الثاني منه؛ وبالتالي يتحول علم أصول الدين من علم عقلي نقلي إلى علم عقلي خالص لاحقا بمجموعة العلوم العقلية. (1) مكانها في العلم
يتدرج موضوع النبوة ويأخذ مكانه في العلم؛ ابتداء من عدم ظهوره على الإطلاق في الكتب المتقدمة إلى ظهوره تدريجيا حتى يأخذ وضعه بعد العقليات وفي أول السمعيات، حتى يصبح ذا أهمية بالغة في العقائد المتأخرة، ويصبح قطبا ثانيا في العقائد التي تدور على قطبين رئيسيين؛ الله والرسول. فلا تظهر في مصنفات التوحيد المتقدمة أو المتأخرة كما لا تظهر في مصنفات المعتزلة كأصل من الأصول الخمسة،
1
ثم تبدأ في الظهور في النهاية إثباتا لكمال الأنبياء ثم إثباتا لآيات الأنبياء ولكرامات الأولياء في مقابل قضاء الحاجات للأعداء ثم ذكر أبناء النبي،
Неизвестная страница
2
ثم تظهر أيضا في كتب العقائد المتقدمة بعد التوحيد، الذات والصفات والأفعال، وقبل الإمامة في عدة مسائل أهمها: جواز النبوة، وعموم النبوة، وعدم نسخها، والمعجزة ثم الإعجاز.
3
ثم تظهر النبوة لأول مرة بعد التوحيد سلبا، وذلك برفض نظريات البراهمة وإنكار النبوة، ثم إثبات نبوة محمد والرد على من أنكرها من المجوس والصابئة والنصارى، وإثبات الأخبار ضد اليهود، وإثبات النسخ أيضا ضدهم، وإثبات عموم الرسالة ضد العيسوية. وبعد ظهور الصفات والأصول تأتي مباحث الخبر والتواتر والآحاد كمقدمات للإمامة.
4
ثم تظهر النبوات في آخر الحسن والقبح كمقدمة لباب النبوات. ثم تظهر مرة أخرى بعد التوحيد والعدل.
5
وقد تدخل النبوات ضمن التكليف العقلي كما أنها تدخل ضمن تطور الوحي.
6
وفي المصنفات الاعتزالية تظهر النبوة في آخر باب العدل الذي يشمل حرية الأفعال والحسن والقبح.
Неизвестная страница
7
وتظهر النبوة بعد العدل ثم المعجزات والكرامات ثم معرفة أركان الإسلام وأحكام التكليف والأمر، وكأن النبوة تدخل في موضوعات الفرد والدولة، فتظهر على أنها فعل في التاريخ، وتتحول من عقيدة نظرية إلى مسار عملي في الفرد والجماعة، تحقيقا للرسالة في التاريخ كما هو الحال في الحركة الإصلاحية الحديثة.
8
وقد تنهي النبوات أبواب التوحيد؛ إذ منها يستنبط الوعد والوعيد والإيمان والإمامة، ويدور الكلام فيها في ثلاثة أمور؛ جواز بعثة الأنبياء، ووقوع البعثة، ونبوة محمد.
9
ثم تأخذ النبوة شيئا فشيئا مكانها الطبيعي في العلم بعد انتهاء العقليات، وكأول موضوع في السمعيات؛ فتظهر بعد التوحيد والعدل دون أن تكون بابا في السمعيات بعد النبوة مباشرة،
10
ثم تظهر مرة أخرى بعد التوحيد والعدل ولكن الأخبار تظهر كمقدمة للإمامة .
11
ثم تبدو النبوة في بداية القطب الرابع بعد الأقطاب الثلاثة الأولى عن الذات والصفات والأفعال، وقبل المعاد والإمامة، وملحقها عن تاريخ الفرق دون ذكر للقطب كله؛ تحت باب السمعيات. ويثبت جوازها كآخر فصل من الأفعال؛ أي في العدل قبل الانتقال إلى القطب الرابع والأخير الذي يبدأ بإثبات النبوة الخاصة، وكأن إثبات النبوة العامة أدخل في الأفعال ونفي الواجبات على الله في الجواز.
Неизвестная страница
12
وبالرغم من هذا الاستقرار النهائي لمكان النبوة في العلم قد تضطرب مباحثها وتتأرجح مسائلها، ولكن معظمها يأتي بعد العدل ويتداخل مع بعض مسائل السمعيات الأخرى كالإيمان،
13
وقد تظهر النبوة بعد مسائل العدل وقبل المعاد والإمامة ثم تظهر كرامات الأولياء والنسخ بعد الإمامة في النهاية،
14
وقد تظهر النبوات بعد العدل وقبل المعاد والإمامة.
15
وتأتي النبوة بعد الوعد والوعيد وقبل المعاد ثم تظهر من جديد بعدها في العصمة وأفضلية الأنبياء على الملائكة، ثم تظهر مسائل الوعد والوعيد والمعاد من جديد مما يدل على أنها جزء من السمعيات.
16
وتبدو النبوات بعد المعاد وقبل الإمامة في محورين أساسين؛ جوازهما بالعقل ووقوعهما بالفعل، مع ترك الحشو التاريخي والغيبي منها.
Неизвестная страница
17
ثم تظهر النبوة لأول مرة في باب السمعيات في مكانها المستقر مع المعاد والأسماء والأحكام والإمامة.
18
ثم يهتز البناء في العقائد المتأخرة؛ فتظهر النبوة بعد المعاد والوعد والوعيد والإيمان والعمل وقبل الإمامة في النهاية.
19
كما تظهر بعض موضوعات للنبوة بعد العدل، مثل الملائكة ثم بعد مسائل التوحيد، ثم يبرز المعاد ومسائل الإيمان والعمل والوعد والوعيد ثم المعاد في بعثة الرسل ثم تأتي الإمامة والتاريخ في النهاية.
20
وفي بعض الموسوعات المتأخرة تظهر النبوة بوضوح دون بناء نظري، ولكنها تحتوي على تعريف النبي والفرق بينه وبين الرسول والمعجزة والملائكة وعصمتهم، والأنبياء وشرفهم ومحبتهم.
21
وفي العقائد المتأخرة عندما يرتكز علم التوحيد على قطبي الإلهيات والنبوة تبدأ النبوة في القطب الثاني وتكون شاملة للحشر والجزاء وللإمامة معا،
Неизвестная страница
22
وقد يتفصل القطب الثاني ويشمل الملائكة والكتب والسمعيات والقضاء والقدر،
23
وقد يشمل الباب الثاني بعد التوحيد الإيمان بالرسل والأنبياء والسمعيات،
24
وقد تتفضل الملائكة مع الأنبياء كالقطب الثاني في التوحيد مع الله ثم السمعيات التي أتى بها النبي.
25
وبعد التوحيد تظهر أحيانا مسائل الملائكة والكتب وعددها والأنبياء وأصحاب الشرائع وعدد الأنبياء والرسل وأسماؤهم ثم يأتي المعاد في النهاية.
26
وأحيانا تكون مباحث النبوة والرسالة القطب الثاني بعد الإلهيات، وتسقط السمعيات ودون أن تطغى على الإلهيات.
Неизвестная страница
27
وفي العقائد المتأخرة أيضا بالإضافة إلى انتظام العقائد في قطبي الله والرسول ينطبق على كل منها نظرية الوجوب والإمكان والاستحالة؛
28
فيندرج الإيمان بالرسل تحت نظرية الواجب والممكن والمستحيل؛ ثلاثة للواجب: الصدق والأمانة والتبليغ، وأضدادهما للمستحيل: الكذب والخيانة والكتمان، والجائز واحد وهي الأعراض البشرية؛ فالعقائد في الرسل سبعة. وأحيانا تظهر بعد التوحيد كعقائد تسعة؛ أربعة في الوجوب، وأربعة أضدادها في الاستحالة، وواحدة في الجواز، وبعدها تأتي باقي السمعيات؛ الجن والملائكة والأنبياء والأولياء ثم التاريخ.
29
فمن الخمسين عقيدة التي يجب على المسلم أن يؤمن بها يشغل الله منها واحدا وأربعين والرسل تسعة. وقد يدخل إرسال الرسل فيما يجوز على الله، وتظهر الأفضلية بينهم والمعجزات ونسب الرسول وأولاده قبل الخصال الأربعة؛ الصدق، والأمانة (العصمة)، والتبليغ، والفطانة، والأدلة عليها؛ وأخيرا جواز وقوع الأعراض البشرية وبعدها تظهر السمعيات. وقد تظهر نفس الموضوعات مع عدد الأنبياء، ثم تفضيل الملائكة وتفضيل الكتب المقدسة، ثم الإيمان بما أتى به الرسول؛ أي بالسمعيات، ثم النهاية بحياة الرسول ومولده وآياته وأولاده وحياته. وأحيانا تتضخم النبوة كما حتى تطغى على التوحيد. وقد يزاد على ذلك كله الإقرار بأن النبوة غير مكتسبة بل فضل من الله، وأنها مؤيدة بالمعجزات، وأنها ليست في النساء، ويعاد من جديد التفضيل والمعجزات ومنع النسخ والمعراج ثم التاريخ والقرن والخلافة والمبشرون بالجنة وبداية الاختلاف وظهور الأئمة وتقليدهم والأولياء وكراماتهم. ثم تأتي باقي السمعيات كالإيمان والعمل والإمامة.
30
وفي إحدى الحركات الإصلاحية تعود معظم موضوعات النبوة التقليدية مع بعض التوجيهات العملية مثل المعارضة لزيارة القبور وكبار الأولياء، وتظل الملائكة والشياطين والجن، ويتم التركيز على التاريخ الساقط بعد النبوة والخلافة دون محاور ودون بناء عقلي محكم.
31
وفي حركة إسلامية أخرى تظهر ضرورة النبوة كتكملة لمبحث الحسن والقبح، ثم تظهر النبوة تحت الرسالة العامة «المعجزة وما يجب للرسل» ثم حاجة البشر إلى الرسالة ودوافعها النظرية «المعرفة» والعملية «السعادة» ثم الوحي وتعريفه وكونه ممكن الوقوع ثم وظائف الرسل، ورسالة محمد والقرآن والإسلام ثم الاحتجاج على الإسلام. طغت النبوة على التوحيد وأصبحت أوسع منه ثلاث مرات. تحولت النبوة إلى الرسالة، واختفت الغيبيات منها وقل التركيز على شخص النبي، وظهرت مفاهيم التقدم في التاريخ واكتمال الوحي وبداية التعامل مع التراث الغربي والرد عليه.
Неизвестная страница
32 (2) موضوعاتها ومحاورها
ونظرا لأهمية موضوع النبوة فإنها تخرج أحيانا من البناء النظري للعلم ومكانها الطبيعي بين التوحيد والعدل وبين الإيمان والعمل والمعاد والإمامة، وتدخل في المقدمات النظرية الأولى بعد نظرية العلم ونظرية الوجود، وتدخل عصمة الأنبياء في الإيمان والعمل ثم تظهر نبوة النساء والرؤيا في اللطائف،
33
كما تدخل النبوة لأهميتها في المقدمات إثباتا لإمكانها ضد منكريها أو مثبتي استمرارها وشمولها للطبيعة.
34
كما تظهر بعض موضوعات النبوة في كتب الحجاج، مثل دلائل النبوة والعصمة والنسخ والأخبار.
35
وبالرغم من بقاء هذه الموضوعات متفرقة متناثرة ومتداخلة فيما بينها إلا أنه يمكن جمعها في عدة محاور رئيسية نظرية أو عملية، عقلية أم تاريخية؛ وبالتالي يمكن عرض الموضوع وبناؤه بعد بيان تطوره واكتماله، وأنه من خلال هذا البناء يمكن رؤية المحاور الرئيسية فيه تكثر أو تقل؛ فإذا كانت الموضوعات خمسة عشر، فإنه يمكن وضعها في محاور رئيسية أقل، في ثلاثة مثلا؛ معناها وجوازها ومعرفتها، عدد الأنبياء وترتيبهم وصحة نبواتهم، وخاتمهم وعموم رسالته، وتفضيل الرسل بعضهم على بعض.
36
وإن كانت الموضوعات تسعا فإنه يمكن أيضا وضعها في محاور أقل، مثل إثباتها، وعصمة الأنبياء، وتفضيلهم، والمعجزة، والكرامة.
Неизвестная страница
37
وإذا كانت الموضوعات خمسا فإنه يمكن أيضا وضعها في محاور أقل، مثل جوازها، ودليل صدقها، وخاتم الأنبياء، وأحكامهم.
38
وإذا كانت الموضوعات أربعا فإنه يمكن أيضا تلخيصها في محاور أقل؛ جوازها والدليل على صدقها وخاتم الأنبياء.
39
وإذا كانت الموضوعات ثلاثة فإنه يمكن ضمها في موضوعين اثنين؛ جوازها وصدقها.
40
أما إذا كانت الموضوعات اثنين، فإنها تكون محورين أساسيين في بيان جوازها بالعقل ثم في بيان وقوعها بالفعل؛ الأول يعرض للحق النظري والثاني يعرض للواقع العملي.
41
والحقيقة أن محاور النبوة الرئيسية أقل من موضوعاتها؛ هي بطبيعة الحال تبدأ بالسؤال النظري عن وجوبها أو استحالتها أو إمكانها، وهو سؤال الحق النظري وأنها ممكنة الوقوع، ثم يظهر المحور الثاني عن الدليل على صدقها؛ المعجزة أو غيرها، ثم يبدأ المحور الثالث عن تطورها بداية ووسطا ونهاية، وعلاقة المراحل بعضها بالبعض ناسخا ومنسوخا، وتوقفها كلية باكتمالها وتحقيق الغاية منها، ثم يظهر المحور الثالث والأخير عن النبوة في آخر مراحلها والدليل على صدقها، وهو الإعجاز وطرق نقلها، ورسالتها دون شخص نبيها، وأخيرا عن مضمونها العقائدي والتشريعي الذي يتناوله علم الأصول؛ ففي هذه المحاور الثلاثة تندرج كل الموضوعات المتناثرة؛ فتاريخ الأنبياء وتاريخ الأديان، سواء ديانات إبراهيم أو الديانات الشرقية القديمة والحوار معها، أكثر من الحوار مع الفرق الكلامية، كل ذلك يدخل في المحور الثاني عن تطورها، وكل الموضوعات المتعلقة بشخص النبي، مثل العصمة والتفضيل، كل ذلك يدخل في المحور الثالث عن الرسالة التي تجب شخص النبي. أما الموضوعات الغيبية كالملائكة وكيفية اتصال النبي بها فكلها تدخل في المحور الأول حول وجوبها واستحالتها وجوازها، ولكن يظل المحوران الرئيسيان للنبوة هما إمكانها ووقوعها، لا الموضوعات التاريخية الصرفة ابتداء من شخص النبي حتى صحابته وتابعيه وآل بيته، ولا الموضوعات الغيبية الصرفة وهي طريقة اتصال النبي بمصدر الوحي، كما هو الحال في نظرية الاتصال في علوم الحكمة. (3) معناها وحقيقتها
Неизвестная страница
تعني النبوة الخبر أو الإخبار؛ فالوحي يأتي من الخبر، والخبر مصدر الوحي؛ الخبر هو الدال، والوحي هو المبادئ العامة في المعرفة الإنسانية لا شخص النبي، وموضوعه حياة البشر وصالح الناس وليس شخص المرسل أو الرسول. تعطي النبوة إذن معارف وأخبارا، فهي من جانب المعرفة من أجل توجيه السلوك؛ لذلك جاءت النبوة اشتقاقا من النبأ أي الخبر بالهمزة؛ أي الإعلام، والإعلام غير الإلهام، وليس من باب الظن والوهم أو الكهانة أو النجوم، بل إخبار الله بما يكون. النبوة إذن نوع من المعرفة متميزة عن أنواع المعارف الأخرى؛ يقينها باطني، ومعرفتها يقينية. إذا كان الإلهام كشفا فالنبوة استدلال، وإذا كان التوهم ظنا فالنبوة يقين، وإذا كانت الكهانة من استراق الشياطين السمع من السماء، فيرمون بالشهب الثواقب وقد انقطعت بمجيء الرسول، فالنبوة عقل وليست سحرا، وإذا كانت النجوم تجارب تتعلم، فالنبوة علم وليست تخمينا أو خرافة، وإذا كانت الرؤيا لا يدري أحد صدقت أم كذبت، فالنبوة لا تأتي إلا في اليقظة دون الحلم.
42
وهناك معان زائدة في النبوة تتحدث عن كيفية المعرفة، صحيح أن الوحي لغة يعني الإعلام في خفاء ولكنه اصطلاحا إعلام الله للأنبياء، إما بكتاب أو برسالة ملك أو بمنام أو بإلهام، وإلهام غير الأنبياء في هذه الحالة ليس وحيا، فالوحي للتشريع وليس فقط للمعارف النظرية؛ لذلك قد يجيء الوحي بمعنى الأمر وبمعنى التسخير، ويكون الإلهام بمعنى الهداية والإشارة، ويطلق بهذا المعنى على القرآن والسنة؛ أي على الوحي المكتوب والمدون، وقد يزاد على هذا المعنى الزائد أصلا تفصيل كيفية حدوث الوحي، بأن يخلق الله حالة في النبي يسمع بها مثل صلصلة الجرس، أو من خلال ملك يتمثل رجلا؛ أي عن طريق الصوت أو الرؤية، عن طريق السمع أو البصر، من خلال الأذن أو العين؛ أي من خلال الحواس. وهذه المعاني الزائدة يصعب تأصيلها عقلا وتبقى سمعية خالصة.
43
وقد ركز الفلاسفة على النبوة بهذا المعنى الزائد داخل نظرية الاتصال؛ فقد أراد الفلاسفة أن يجمعوا فيها خواص ثلاثا؛ أن يكون النبي مطلعا على الغيبيات ما دامت النفوس الإنسانية مجردة قادرة على إدراك المجردات، وأن تظهر منه الأفعال الخارقة للعادة ما دام بروحه قادرا على التأثير، وأن يرى الملائكة مصورة ويسمع كلامها وحيا، نوما أو يقظة.
44
والحقيقة أن هذه الخواص الثلاث تجسيد للمعاني الزائدة في النبوة وتصوير لها؛ فالنبوة ليست غيبية بل حسية تؤكد على رعاية مصالح العباد، والغيبيات اغتراب عنها، والمعارف النبوية دنيوية حسية تتعلق بشئون الناس وصلاح معاشهم، كما أنها إخراج للنبي عن حدود الطاقة البشرية، وجعل صدق النبوة خارجيا وليس داخليا وضد قوانين العقل والطبيعة وليس معها، كما أن هذه المعاني الزائدة المشخصة وقوع في الغيبيات وإخراج للنبوة من محورها الأفقي، النبوة في العالم ومسارها في التاريخ إلى محورها الرأسي، النبوة كطريق بين النبي والله، طريقة للوصول خارج الزمان وخارج التاريخ، ولا يهمنا في النبوة طريقة الإيصال؛ الوحي أو الرسول أو من وراء حجاب، ولا يهمنا أيضا في النبوة الملك وأنواعه وطريقة قدومه وجرسه وصوته وشكله، ولا يهمنا ثالثا خيال النبي، وكيف كان يأتيه الوحي نائما أم يقظا، لا شأن لنا بالصلة بين الله والرسول وطريقة الاتصال بينهما بالملاك أو بغيره، اسمه وشكله وصوته؛ فذلك لا يمكن معرفته حسا أو عقلا، ولا شأن لنا بالنبوة بين الملائكة والجن والشياطين أو البهائم والطير والجمادات ما دامت مثلنا، نحن البشر؛ فهي كلها موضوعات مفارقة لا تسمح بها نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى، ما يهمنا هو الرسالة ذاتها التي بها صلاح العباد، والنبوة للبشر وحدهم؛ فطريق النبوة جزء زائد على تعريفها وخارج عن حقيقتها.
وقد تعني النبوة معنى ثانيا غير الإعلام والإخبار وهي الرفعة، فالنباوة من غير همزة ما ارتفع من الأرض؛ وبالتالي يكون النبي هو رفيع المنزلة عند الله، وهو معنى يترك النبوة ويتجه نحو النبي، ويترك الرسالة ويعرف الرسول، ويترك النبوة في التاريخ ويتصور علاقة النبي بالله، ويؤثر قيمة الارتفاع على الانخفاض، والصعود على الهبوط، ويفضل التأويل على التنزيل، وهو ما يعارض سير الوحي ومسار النبوة.
45
وليست وظيفة النبوة الإخبار بالمستقبل؛ فتلك كانت وظيفة النبي قبل خاتم النبوة كدليل على الصدق، وطبقا للمعنى الاشتقاقي للفظ في اللغة العبرية.
Неизвестная страница
46
أما المعنى في ختم النبوة فهو تحليل الحاضر وليس الإخبار بالمستقبل، وإذا كان هناك قصص فإنما يهدف إلى إعطاء الحاضر ومد الوعي بدروس الماضي وخبرات الأمم السابقة؛ فالوعي بالحاضر هو وعي بالتاريخ، وما الحاضر إلا تراكم للماضي. الماضي عبرة ودرس وتطور يصب في الحاضر، مسارا من الماضي إلى الحاضر وليس نكوصا من الحاضر إلى الماضي. أما المستقبل فمرهون بفعل الحاضر ومشروط باستمرارية الماضي في الحاضر؛ فالماضي هو مستقبل الحاضر ومستقبل المستقبل على حد سواء. يظن القدماء أن النبوة تنبؤ بالمستقبل وقراءة له، ويظن المعاصرون أن النبوة رجوع إلى الماضي، والنبوة في حقيقة الأمر هي تحليل للحاضر لمعرفة جدل الماضي والمستقبل فيه، وقراءة الماضي هي استبصار للمستقبل، وما الحاضر إلا لحظة التقاء بينهما يتم فيها كشف القوانين ورؤية حركة التاريخ.
وتسمى النبوة بعدة ألفاظ مترادفة مثل البعثة والرسالة. الوحي والنبوة متقاربان، والبعثة والرسالة متقاربان؛ الوحي هو كل العلم، والنبوة الطريق إليه؛ والبعثة النبوة المعلنة، والرسالة النبوة المكلفة. تدل المصطلحات الأربعة المتقاربة على تدرج من النظر إلى العمل أو من العام إلى الخاص، من الوحي إلى النبوة إلى البعثة إلى الرسالة.
47
وتتضمن النبوة كرسالة أربعة أطراف: مرسل وهو الله، ومرسل إليه وهو النبي، ومرسل إليهم وهم العباد، ومرسل وهو الشيء؛ فالمرسل هو الوعي الخالص والمرسل هي الرسالة. وأهم طرف من هذه الأطراف الأربعة ليس المرسل أي الوعي الخالص؛ فذلك هو موضوع التوحيد، باب العقليات، الشق الأول في علم أصول الدين، وليس المرسل إليه أي شخص النبي؛ فهو مجرد رسول لإيصال الرسالة. أهم طرف في المعادلة الرباعية هي الرسالة أي التكليف، والمرسل إليهم أي نحن البشر، عباد الله في التاريخ. شخص النبي إذن ليس أحد موضوعات النبوة ومعنى زائد في تعريفها، النبي مجرد واسطة لإيصال الرسالة من المرسل إلى المرسل إليهم، وليس جزءا من النبوة بشخصه. طبعا هناك شروط النبوة إذا ما توافرت عند أي إنسان يكون هو النبي، لا ترجع النبوة إلى جسم النبي أو إلى عرض من أعراضه أو حتى إلى علمه بربه؛ فذاك يقع من غير نبوة أو علم النبي بكونه نبيا، فالمعلوم غير معلوم بعد، بل ترجع إلى الرسالة والمرسل إليهم حتى ولو كان المرسل مجهولا، وكأن المرسل إليه غائب بشخصه، اختفى بعد إيصال الرسالة وأداء الأمانة، وتبقى الرسالة طالما بقي المرسل إليهم يحملونها عبر الأجيال ويحققونها في التاريخ.
ولكن هل هناك فرق بين النبي والرسول؟ الفرق بين النبي والرسول هو الفرق بين التصور والنظام، بين العقيدة والشريعة، بين النظر والعمل. يأتي النبي بالنظر وبالعقيدة وبالتصور، ولا يأتي بالضرورة بنظام أو شريعة أو يبني مجتمعا ويؤسس دولة، فالنظر لم ينعقد بعد، في حين أن الرسول هو الذي يولد النظام من التصور، ويحقق الشريعة من العقيدة، ويحول النظر إلى عمل، كما يشير النبي إلى البعد الرأسي فقط؛ الصلة بينه وبين الله، في حين أن الرسول يشير إلى البعد الأفقي أيضا؛ أي الصلة بينه وبين الناس في التبليغ وحمل الرسالة وأداء الأمانة، ومن هنا أتت صفات الرسول الأربعة؛ الصدق والأمانة والتبليغ والفطنة، واستحالة أضدادها؛ الكذب والخيانة والكتمان والتهور. ويشتق لفظ النبي من فعل لازم في حين يشتق لفظ الرسول من فعل متعد، الأول لا يشير بالضرورة إلى كل الأطراف في حين يشير الثاني ضرورة إلى الأطراف الأربعة؛ المرسل، والمرسل إليه، والمرسل إليهم، والرسالة. يطالب النبي بالتصديق فحسب بينما يطالب الرسول بالتصديق وبالعمل. الإيمان عند الأول مجرد إقرار وتصديق في حين أنه عند الثاني إقرار وتصديق ونظر وعمل. قد لا ينجح النبي في النبوة، ويصيبه من الأذى الكثير، فدوره هو الشهادة على العصر في حين أن الرسول مطالب بالنجاح؛ بناء المجتمع وتأسيس الدولة؛ لذلك كان بالنبوة تعظيم واستحقاق نظرا للشهادة أما الرسالة فجزاؤها قدر الأعمال، وإن كان كلاهما مؤيدا بالمعجزات فإن تأييد النبي بها أقوى من تأييد الرسول الذي يكفيه يقين الرسالة الداخلي، والقدرة على تكوين الأفراد وتجنيد المؤمنين والدفاع عن النفس بالفعل، ومقابلة العنف بالعنف، والأخذ بأسباب القوة بغية الانتصار.
48
ثانيا: وجوبها، واستحالتها، وإمكانها
والسؤال الأول النظري هو جواز البعثة وهل هي واجبة أم مستحيلة أم ممكنة، فإثبات النبوة أو إنكارها إحدى المسائل الأساسية التي تصنف طبقا لها الفرق، والحقيقة أن الفرق بين الوجوب والإمكان ليس كبيرا؛ فكلاهما إثبات للنبوة في مقابل الاستحالة التي تعني الإنكار، إنما الخلاف بين الوجوب والإمكان إنما فقط في درجة الإثبات، إما الوجوب ضرورة أو الوقوع إمكانا. إنما يخشى من الوجوب الوقوع في الواجبات العقلية، الواجبات على الله مثل الصلاح والأصلح واللطف والألطاف والعوض والاستحقاق؛ وبالتالي يكون الخلاف بين الإنكار والإثبات، ثم يتفرع الإثبات إلى الضروري والممكن.
1 (1) هل النبوة واجبة؟
Неизвестная страница
النبوة واجبة على أسس ثلاث؛ فهي واجبة أولا نظرا للواجبات العقلية، مثل الصلاح واللطف والعوض والاستحقاق وطبقا للحسن والقبح العقليين، ووجوبها ضروري بناء على الضرورات العقلية، وهي واجبة ثانيا لأنها أصلح للعباد وبناء على نظرية الصلاح والأصلح؛ فالإنسان في حاجة إلى الدخول في معاملات، وإلى علم ما يحصل به الانقياد والعون، والحاجة إلى قوانين وسنن وشرائع، وهي واجبة ثالثا نظرا لأنها لطف من الله طبقا لنظرية اللطف والألطاف؛ فلما كان العقل لا يستقل بالتعريفات التشريعية كان لطفا من الله وكرما منه أن يتم نعمته على الإنسان وهو أشرف المخلوقات؛ ومن ثم النبوة تعبير عن كرم المبدأ الأول؛ الله، ولطف الله بالعباد، النبوة إذن واجبة بناء على الواجبات العقلية ونظريتي الصلاح واللطف.
2
وتكون الصعوبة حينئذ في كيفية الجمع بين الحسن والقبح العقليين، وقدرة العقل على إدراكهما كصفات موضوعية في الأفعال، وفي نفس الوقت احتياجه إلى النبوة كعون له على التكاليف؛ فما دامت التكاليف واجبة عقلا فإنها لا تحتاج إلى وجوب ثان بالنبوة، بل إن الصلاح والأصلح واللطف والألطاف والعوض عن الآلام والاستحقاق كل ذلك من الواجبات العقلية؛ وبالتالي ليست أساسا لوجوب النبوة.
وإذا كان التكليف عقليا، واستحقاق الثواب والعقاب عقليا، والتنبيه والتحذير تأكيدا لما في العقول، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد الأصول العقلية الخمسة، فكيف تجب النبوة بناء على هذا الوجوب العقلي المكتفي بذاته وإلا كان الوجوب وجوبين؛ وجوب عقلي ضروري ووجوب شرعي إضافي زائد لا حكم له؟ وإذا كانت الحياة امتحانا واختبارا وجهدا ومعاناة، فإن ذلك إنما هو نتاج لممارسة الحرية، وهي من العقليات وليست من السمعيات كالنبوة. ليست النبوة إذن من الواجبات العقلية إلا بناء على الصلاح واللطف باعتبارهما واجبين عقليين، فإذا ما حكم العقل أن النبوة بها صلاح العباد ولطف من الله بهم، تكون واجبة على هذا الأساس كحكم عقلي بالصلاح واللطف، وليس كحاجة وعون ومدد نتيجة لقصور العقل وحاجته إلى وصاية أو هداية. وما العمل لو حكم العقل باستغنائه عما سواه، وبقدرته على معرفة الصلاح والأصلح دونما حاجة إلى نبوة؟
3
والعجيب أن تعتمد إحدى الحركات الإصلاحية الكبرى، الأشعرية في التوحيد الاعتزالية في العدل، على تبرير واجب النبوة بهدم العقل والعلم والاجتماع والسياسة؛ أي هدم أسس الدين ذاته، وكأن إثبات وجوب النبوة لا يتم إلا على حساب الأسس الحسية والعقلية والاجتماعية التي تقوم عليها العقيدة ذاتها؛ وبالتالي لم يبق حتى نصف الاعتزال في العدل، وأصبح نصف الأشعرية في التوحيد هو السائد في موضوع النبوة؛
4
مما يدل على أن أنصاف الحلول في الحركة الإصلاحية انتهت إلى الأشعرية السائدة منذ ألف عام، وقد تم ذلك من قبل في حركة إصلاحية سابقة فيما وراء النهر، عندما تحولت الماتريدية بعد عدة أجيال إلى الأشعرية التقليدية، فهل تجب النبوة لأنها تعطي مجموعة من المعارف النظرية التي لا يستطيع العقل الوصول إليها؟ هل تعطي معرفة الصانع وصفاته والعقل قادر على الوصول إليها بإجماع نظار الأمة متكلمين وحكماء؟ هل حاجة البشر إلى الرسالة هي حاجتهم إلى معرفة الغيبيات وفي مقدمتها حياة النفس بعد مفارقتها البدن وقد أجمع الحكماء على إثباتها بالعقل؟ ولم تمنع النبوة في كل دين ولدى كل ملة من منع فريق من إنكار خلود النفس ووجود حياة أخرى بعد الموت. إن التوحيد كله يمكن إدراكه بالعقل بما في ذلك الصفات السمعية، وإلا لما كون العدل باب العقليات في علم أصول الدين في مقابل السمعيات ومنها النبوة، وكيف تكون النبوة طريق العلم بالتوحيد والسمعيات لا تؤدي إلى العقليات؛ فالسمعيات ظن والعقليات يقين على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى؟ والصفات كلها مثل الإنسان، الإنسان الكامل وليس الإنسان المتعين، الإنسان كما ينبغي أن يكون وليس الإنسان كما هو كائن. وفيم الحسن والقبح العقليان؟ أليست هناك معارف عقلية؛ حسن عقلي وقبح عقلي؟ فالتوحيد حسن عقلي، والشرك قبح عقلي، وإذا خاف الإنسان الخطأ النظري وقع في التردد والشك وفي الظن والجهل؛ أي في كل مضادات العلم، فإن العقل قادر على بث الطمأنينة فيه وتحويل التردد والشك إلى قطع، والظن إلى يقين، والعلم إلى جهل، وإذا كانت الحاجة إلى النبوة هي أنها تشير على العقل بطرق الاستدلال، أليس العقل قادرا على ذلك وهو واضع منطق البرهان؟ وهل النبوة منطق صوري أم منهاج عملي للناس؟ وهل تعطي النبوة هذا المنطق الاستدلالي عن طريق النص أم أنها في حاجة إلى العقل لاستخراج هذا المنطق؛ وبالتالي يكون من عمل العقل في النبوة وليس من عمل النبوة وحدها؟
5
فإذا ما اكتفت النبوة في منطق الاستدلال بالنص وحده، فإنه يظل ظنيا لاعتماده على النص ولا يتحول إلى يقين إلا بالعقل، على ما هو معروف في باب الأدلة في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى.
Неизвестная страница
6
إن العقل قادر على صياغة منطق للبرهان يقوم على أوليات العقل وبداهات الحس وشهادة الوجدان، كما أنه قادر على وضع نظرية في الصدق يمكن بها التحقق من صحة نتائجه وصدق براهينه، في حين يظل البرهان على صدق النبوة خارجيا محضا إذا كان هو المعجزة، أو ذاتيا خالصا إذا كان مجرد الإيمان. يبدو أن الوحي ما زال معروضا حتى في الحركات الإصلاحية الحديثة على أنه نظرية في النبوة؛ أي الوحي الرأسي مصدر المعارف النظرية، في حين أن الوحي ليس فقط نظرية في النبوة، بل نظرية في التاريخ؛ أي الوحي الأفقي مصدر التشريع العملي والأساس النظري للعمل الفردي والجماعي؛ لذلك سرعان ما تحولت نظرية النبوة كوعي رأسي في الحركة الإصلاحية الحديثة إلى نظرية إشراقية صوفية، وانتقلت من الفلسفة إلى التصوف، وتحول النبي من منظر وقائد إلى صوفي وولي. إن تفاوت العقول في الإدراك لا يعني أي نقص في العقل، بل يعني خطأ في استعماله، ويمكن بمنطق البرهان وبنظرية الصدق وبالمراجعة والاستدلال المشترك تجاوز اختلاف العقول والوصول إلى الاتفاق بينها، واتفاق العقلاء أولى من اختلافهم، وبداهات العقول وأولياتها واحدة، عامة وشاملة، لا اختلاف عليها بين العقلاء، والنبوة لا أسرار فيها ولا غموض، بل أفكار واضحة ومتميزة يمكن إدراكها بالعقل السليم والتحقق من صدقها بالبرهان.
7
هل تجب النبوة لحاجة الإنسان إلى التجريب، وكأن الإنسان قاصر على استخدام الحواس والاعتماد على المحسوسات والمشاهدات والمجربات وهي جزء من المعلومات طبقا لنظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى؟ التجريب موضوع العلم التجريبي ومادته الأولى، وقد برع القدماء في العلوم التجريبية في الطبيعة والكيمياء والأدوية والطب، ولم يكتفوا بالطب النبوي، وأسسوا المبادئ العامة للطب التجريبي، ونقدوا المنطق الصوري، ووضعوا قواعد المنهج التجريبي. العلم التجريبي علم إنساني يهدف كالعلم العقلي إلى الكشف عن قوانين الطبيعة من أجل السيطرة عليها وتسخيرها لصالح الإنسان، وما فائدته إن كانت النبوة تغني عنه؟ والمعروف تاريخيا أن العلوم النبوية كانت أقرب إلى العلوم الإشراقية الصوفية منها إلى العلوم العقلية التجريبية، لا تحتوي النبوة على أسس علم الفلك وإن كانت توجه الشعور نحو الطبيعة والتأمل في الكون والنظر إلى الأهلة لمعرفة المواقيت، حتى يأتي العقل والتجريب ليضع قواعد علم الفلك وأصوله. إن الصناعات والعلوم التجريبية من اكتشاف الإنسان واختراعه؛ لذلك كانت الطبيعيات سابقة على الإلهيات في علوم الحكمة، كما كان المنطق سابقا على الطبيعيات؛ فالعقل والتجريب سابقان على النبوة، بل والطريق إليها، كما أن العقل والطبيعة سابقان على النظر إلى الله والطريق إليه، كما بان من قبل في نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى أن المحدث هو الطريق إلى القديم وأن الصنع دليل على وجود الصانع.
8
هل تجب النبوة لحاجات عملية؛ أي للتنفيذ والتحقيق وأداء الرسالة، ما دام الإنسان غير قادر على سن القوانين وتأسيس الشرائع وإقامة الدول أو تجنيد الجماهير وتوجيه الأمم وفتح البلدان؟
9
ألا يمكن للعقل قيادة المجتمعات مثل قيادة الإمام لها؟ هناك أيضا العقل الاجتماعي والعقل السياسي والعقل التاريخي لوضع القوانين وسن الشرائع. صحيح أن النبوة تحتوي على تشريع، ولكنها توجيهات عامة في حاجة إلى تفصيلات واستنتاجات من العقل والواقع، من واقع المجتمع واستقراء حوادث التاريخ. صحيح أن النبوة تحتوي على بعض التوجيهات الخلقية والإرشادات العملية، ولكن لا تكفي الدعوة إلى المحبة والتعاون أن تكون أساسا لتكوين المجتمع الإنساني، وهل النبوة في نهاية الأمر نظرية في التأليف الاجتماعي أم في الصراع الاجتماعي؟ هل وظيفة النبوة حل الصراع الاجتماعي أم حسمه؟ إيقافه أم حله؟ إن المجتمع في حاجة لفهم تركيبه وقوانين حركته وصراعه إلى أكثر من المحبة والعدل والمبادئ العامة والقيم النظرية. صحيح أن الحاجة إلى التعاون وتأسيس المجتمعات وإقامة الدول تكشف عن الأساس الاجتماعي للوحي وعن البعد الأفقي له، كما تكشف المعارف النظرية عن البعد الرأسي فيه، ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان قاصر عن إدراك الحقائق الاجتماعية وعاجز عن توجيه الأمور العملية، وتأسيس الدول، وتدبير الملك. إن علوم السياسة والاجتماع والقانون والتاريخ أيضا من وضع الإنسان مثل باقي العلوم العقلية والتجريبية. ولماذا تهدم القوانين الإنسانية وتبين مفاسدها وعيوبها من أجل إثبات وجوب الشرائع النبوية؟ ألا تثبت النبوة إلا على أنقاض البشرية؟ إن تغير القوانين البشرية ليس عيبا بل تطور واجتهاد، كما هو الحال في الفقه، وإن اختلاف الطبائع والشعوب وارد في القوانين البشرية والشرائع الإلهية على حد سواء.
10
وإن هذا التضارب بين القانون البشري والقانون السماوي لهو أساس الثنائية في وجداننا المعاصر، وأحد أسباب مصائب عصرنا في الصراع بين الاتجاه العلماني والحركة السلفية. إن وظيفة الرسل في قيادة الأمم هي نفسها وظيفة القادة والأبطال، ولم تخل البشرية من كليهما معا دون أن يكون أحد الفريقين بديلا عن الآخر أو سببا لإيجاده، بل إن رئاسة الأنبياء تقوم على تصور هرمي للعالم؛ النبي في القمة، والناس في القاعدة، وما بينهما القواد والوزراء والعمال، طبقا لنظرية الفيض وترتيب العقول وترتيب الأجناس والأنواع ومراتب القوى الإنسانية؛ فالنبوة عند القدماء نظام رئاسي هرمي بالضرورة كما هو واضح في «المدينة الفاضلة»، علاقة الرئيس بالمرءوس علاقة القمة بالقاعدة أو المركز بالمحيط، وكأن سلطة النبي سلطة مركزية رئيسية، قاهرة ومسيطرة، وكأن السلطان لا يكون إلا أعلى عليين والناس أسفل سافلين!
Неизвестная страница
11
بالإضافة إلى هذه الفوائد العامة للبعثة التي تجعلها ضرورية واجبة، هل هناك فوائد أخرى لها على التفصيل؟ هنا تظهر العبادات على أنها الدافع الأول على ضرورة البعثة، والتي لا يستطيع العقل أو الواقع الوصول إليها، ولماذا تكون العبادات ضد العقل والطبيعة ومفروضة عليهما دون أن تكون تعبيرا عنهما؟ وهل العقل عادة والشرع عبادة والعادة لا تكون عبادة؟ إن وضع العقل في مقابل العبادة يجعل العبادة لا عقلية غير مفهومة وغير معللة بحكمة مع أن العلة أساس التشريع يمكن إدراكها بالعقل والتجريب، ولا توجد عبادة واحدة، وكل ملة تعبد بشعائرها، وترى فيها أنسب تعبير عن إيمانها وعقائدها، وإذا كان العمل عبادة فإن العقل قادر على أن يصل إليه دون أشكال ورموز وصور لا تعبر عن جوهر الإيمان وقصد العقيدة.
12
كيف تثبت النبوة إذن كضرورة نظرية وعملية على حساب العقل من أجل هدمه، وإرادة الإنسان من أجل إعلان عجزه، ودونما حاجة إلى القدرات البشرية وعلومها وصناعاتها وسياساتها وشرائعها؟ إن الوحي علم مستقل بذاته يستنبطه الإنسان ويضع قواعده وأصوله، لا هو بعلوم الدين ولا هو بعلوم الدنيا، هو علم المبادئ الأولى التي تقوم عليها العلوم جميعا، وهي مبادئ عقلية وطبيعية، شعورية ووجودية في آن واحد.
13
وإن كل ما يمكن التوجه به ضد العقل الإنساني والقدرة البشرية، يمكن التوجه به أيضا إلى تفسير النبوة وتأويل الوحي الذي يقوم به عقل الإنسان، وتظهر فيه مصالحه ويفرض فيها إرادته، وهل سلم الإيمان من التعصب والجهل؟ أليست القوانين المستنبطة من الشرائع النبوية تتدخل فيها الأهواء الفردية والمصالح الاجتماعية المتضاربة حين تطبيقها؛ وبالتالي يقضي على حسنها في ذاتها؟ إن الشهرة والغفلة والنسيان وكل مظاهر النقص الإنساني تعم العقل، سواء عمل بمفرده أم فسر النبوة وأول الوحي، وهل استطاعت النبوة أن تخفف من نقائص الإنسان وهي أول من يعترف بها؟
14
حتى أمور المعاد التي قد تكون أحد بواعث وجوب النبوة، فإن العقل قادر على أن يصل إليها، وقد توصلت مجتمعات بأكملها إلى خلود النفس دون نبوة، كما أن العقل قادر على أن يصل بمفرده إلى قانون الاستحقاق، وأن الجزاء على قدر الأعمال، عقابا أم ثوابا ؛ فلا يوجد فعل إلا وله أثر، ولا يوجد أثر إلا في العالم، سواء كان في الحال أو في المآل، مباشرا أو غير مباشر.
15
وكيف يكون الإحساس بالقلة والقهر أساسا لوجود الوحي وضرورته؟ ألا يثبت الوحي إلا بقهر الإنسان وإحساسه بالضآلة والعجز أمام قوة عظمى تعرف أفضل منه وتقدر على ما لا يقدر عليه؟ وهل استطاعت النبوة أن تمنع الإنسان من أن يعمل عقله أو يمارس حريته أو أن تجعله أكثر عقلانية وأعظم قدرة؟ فالنبوة لم تمنع الإنسان من إنكار وجود الله، أو إنكار النبوة، أو عدم التصديق بالمعجزات، أو إنكار الشرائع ورفضها بناء على القبح العقلي والضرر المادي، أو إهمال التطبيق والاكتفاء بالجانب النظري كما هو حال البشر الآن، أو إسقاط فاعلية الجانب الأخروي والتخويف بالوعد والوعيد، أو نشوب القتال والفتن والحروب الطائفية التي لا تقل عن الحروب العلمانية.
Неизвестная страница
16
إن العقل ليس بحاجة إلى عون، وليس هناك ما يند عن العقل. العقل يحسن ويقبح وقادر على إدراك صفات الحسن والقبح في الأشياء، كما أن الحسن قادر على الإدراك والمشاهدة والتجريب، لا طريق إلى الصانع إلا العقل والحسن، ويمكن معرفة الأخلاق بالفطرة، والاستحقاق واجب عقلي، وكمال النفس بالنظر والعمل، وذلك هو موقف الفقهاء دون مزايدة في الإيمان أو هدم للمعرفة الإنسانية.
17 (2) هل النبوة مستحيلة؟
إن القول باستحالة النبوة هو رد فعل طبيعي على القول بوجوبها؛ فكلاهما طرفا نقيض، إثبات ونفي، وجوب واستحالة؛ فبينما يقوم الوجوب على هدم العقل والعلم والاجتماع والسياسة والقانون، تقوم الاستحالة على تأكيد العقل والعلم وعلى الاعتراف بقدرات الإنسان النظرية والعملية على تأسيس العلوم الاجتماعية.
وهناك ثلاثة دوافع للقول بالاستحالة، إما الامتناع من حيث المبدأ والإمكانية النظرية الخالصة (العقل الأولاني أو المبدئي)، أو الامتناع من حيث كفاية العقل دونما حاجة إلى مصدر آخر للمعرفة (العقل النظري)، أو الامتناع من حيث التكليف العملي وإن كانت مقبولة نظريا (العقل العملي).
18 (أ) الاستحالة المبدئية
تقوم الاستحالة المبدئية؛ أي الإنكار الميتافيزيقي للنبوة وإثبات استحالة البعثة، على حجج ثلاث؛ الأولى: لا بد أن يعرف المبعوث أن المرسل له هو الله، ولا طريق إلى معرفة ذلك؛ فلعل المرسل هو الجن، والحقيقة أن هذه الحجة تجعل النبوة متوقفة على المرسل، في حين أن النبوة واقعة تاريخية، يقينها في وقوعها الذي يفرض إمكانها، وبرهان صدقها داخلي ولا يتوقف على المرسل أو حتى على المعجزة كدليل على صدق النبي، كما أن افتراض الجن افتراض غيبي غير مرئي، كالمرسل سواء بسواء، والنبوة مسارها في التاريخ ما بعد الرسول وليس ما قبله؛ أي البعد الأفقي وليس البعد الرأسي. النبوة الرأسية ليست جزءا من النبوة؛ أي من السمعيات، بل هي جزء من الإلهيات؛ أي العقليات في صفتي الكلام والإرادة. لا يهم في النبوة مصدرها؛ أي ما قبل الإعلان، بل تبليغ الرسالة بعد الإعلان وضمان صحتها التاريخية، وهو اليقين الخارجي، ثم ضمان صدقها النظري وإمكانيات تحقيقها ومطابقتها للواقع وهو يقينها الداخلي، وليس المطلوب في النبوة لمعرفة صدقها إمكانية التمييز بين كلام الله وكلام الإنسان ما دام يأتي في صوت إنساني وبلغة إنسانية ولرسول إنساني ليبلغه للناس، ولا يسمع كلام الله مباشرة إلا بالصوت من خلال الأذن الإنسانية. صحيح أنه لا يوجد اضطرار بأن ما تلقاه الرسول علم من الله، ولو أراد الله علما لاضطره إليه، ومع ذلك فإن الإنسان قادر بمفرده عن طريق الاستبصار واستشراف الباطن معرفة ما يدور في نفسه وذلك بانعكاس نظرته إلى الداخل والتركيز على شعوره، كما يستطيع أن يستشرف شعور الآخرين ببصيرته، خاصة إذا كانت تربطه بهم علاقة حب، والحدس يقين لا ظن، يمكن أن يتكرر. قد يخطئ مرة ولكن لا يخطئ كل المرات، ولا يعني خطؤه عدم وقوعه أو استحالته.
19
والحجة الثانية أن الرسول من الله كمرسل إلى الرسول كمرسل إليه إن كان جسمانيا فلا بد أن يكون مرئيا؛ وبالتالي تستحيل النبوة لأن الرسول من الله إلى النبي جسماني لم يره أحد. والحقيقة ألا يهم أيضا كيفية وصول الوحي من الله إلى الرسول؛ فذلك أدخل في نظرية النبوة في علوم الحكمة وليس في علم أصول الدين . صدق النبوة في صدق الكلام ومطابقته للواقع ومصالح الناس، صدق النبوة في صحتها التاريخية ونقلها المتواتر أولا، ثم في صحة تفسيرها طبقا لقواعد اللغة وأسباب النزول ثانيا، ثم في إمكانية تحقيقها تحقيقا لمصالح الناس ثالثا، وكما هو الحال في علم أصول الفقه.
20
Неизвестная страница